Alexandre Dorna. Le Populisme. الشعبوية. P.U.F., Paris. 1999. 128 Pages. قد لا يكون هناك، في الفكر السياسي الحديث، مفهوم متفارق كمفهوم الشعبوية. فهذا المفهوم يحيل، بطبيعته الاشتقاقية، الى "الشعب" بوصفه الفاعل الأول للتاريخ وفي التاريخ. ولكن ليس من نظام سياسي يتنازل فيه الشعب عن فاعليته لصالح القائد الفرد الذي يقوده مثل النظام الشعبوي. وإذا كان التعريف الأشهر للديموقراطية انها - كما كان يقول ابراهام لنكولن - حكم الشعب للشعب وبالشعب، فإن الشعبوية تحتفظ بالصيغة نفسها ولكن بعد تفويض "أبي الشعب" أو "ابن الشعب" أو "قائد الشعب" بأن يحكم بالوكالة عن الشعب ومن أجل الشعب. فالشعبوية، بالفعل نفسه الذي تُحضر به الشعب تُغيّبه، وبالعقد نفسه الذي تؤسس به سيادة الشعب تكرس استقالته. هذه الحمولة الدلالية المتفارقة أناخت بكل ثقلها على مفهوم الشعبوية منذ ان تمت صياغته لأول مرة في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر على يد الكسندر هرزن المؤسس الروحي للشعبوية الروسية. فقد كان هذا المثقف النهضوي الروسي أول من صاغ حلم بعث روسيا وإيقاظها من خمولها التاريخي لتؤدي رسالتها الانسانية الكونية بعد ان انكشف في رأيه عجز الغرب عن انقاذ البشرية لأنه - على تقدمه الذي سبق به غيره من الأمم - قد سجن نفسه في نزعة مادية خانقة للقدرة على الابداع الحضاري. وإزاء ما أسماه هرزن بمركنتيلية الغرب المادية التي اخرجت من يديه المبادرة التاريخية، تحول كبير النهضويين الروس بناظريه نحو روسيا الفلاحية واصطنع اسطورة "الموجيك" الروسي الذي يمثل، رغم بؤسه وجهله، الأصالة الانسانية التي لم يعد لها من موطئ قدم في "بقالية" الغرب. لكن هذا الحلم ببعث روسيا وبتسليم الفلاح الروسي راية قيادة الانسانية لم يكن حلم "الموجيك" نفسه، وهو الممثل الأكثر اصالة للشعب الروسي، بل حلم هرزن، الممثل الأبرز للانتلجنسيا الروسية "المتغربة". وهكذا، ومن البداية، لم يكن للشعب من دور في مقولة الشعبوية سوى ان يكون منطوقاً باسمه. فالموجيك الروسي "الأصيل" كان اسطورة من صنع النخبة المثقفة الروسية "المتغربة". وعلى متنها أمكن لاحقاً للبلاشفة ان يصلوا - بقيادة لينين - الى السلطة وأن ينفردوا بالحكم ثلاثة أرباع القرن باسم الشعب وبالنيابة عن الشعب، وحتى بالقطيعة مع الشعب في زمن الارهاب الستاليني والبيروقراطية ما بعد الستالينية. هذا لا يعني ان الشعبوية مذهب شعبي كاذب. فالشعبوية تفترض بالبداهة الاشتقاقية حب الشعب وعبادة الشعب، بل حتى تصنيم الشعب. ولكن كما الحال في الصنم المعبود، فإن ما يعود الى الشعب هو العبادة، لا الفاعلية التاريخية. وحتى العبادة لا تعود الى الشعب خالصة. فالشعب لا يكون موضوعاً للعبادة إلا بقدر ما يتعبد هو نفسه لزعيمه. إذ لا شعب في الشعبوية بدون زعيم شعب. فمرآة الشعبوية هي بالضرورة ذات وجهين: الشعب وزعيمه. وهذه المرآة من طبيعة سيكولوجية، لا من طبيعة ايديولوجية. وآليتها هي الاغراء والافتتان. الاغراء من جانب الزعيم، والافتتان من جانب الشعب. فالزعيم هو بالتعريف من يتقن، بين سائر الفعلة السياسيين، العزف على وتر الشعب. والشعب، المفتون بزعيمه الى حد التماهي معه، يستنيم لعزفه في نرجسية تامة. فالزعيم هو "أنا" الشعب، ولكن مرفوعاً الى أعلى درجات المثالية. وإذا كان علم اجتماع الشعبوية يلاحظ ان تمخض هذه الظاهرة مرتبط دوماً بلحظات التأزم التاريخي في حياة الأمم والمجتمعات، فلأن الشعب أشد ما تكون حاجته الى أن يؤمثل نفسه في ساعات الأزمة. وبدوره فإن الزعيم لا يظهر تاريخياً إلا بقدر ما يستغل هذه الحاجة لدى الشعب المأزوم الى أمْثَلة نفسه عن طريق تعبئة مشاعره ضد عدو مؤبلس. وذلك هو سر الديماغوجية في كل التجارب الشعبوية. فالزعيم لا يفلح في دغدغة المشاعر النرجسية لدى الشعب المأزوم إلا بقدر ما يخترع لأزمته فاعلاً خارجياً ويؤسس هذا الفاعل الخارجي في عدو مؤبلس. ولهذا فإن السياسة الأثيرة لدى الزعماء الشعبويين هي في الغالب سياسة حافة الحرب. لكن الحرب هي دوماً مغامرة، وكثيراً ما يدفع الزعماء الشعبويون ثمناً غالياً، ومن زعامتهم نفسها، للحرب التي ينزلقون اليها بحكم المنطق المباطن للرؤية الشعبوية. وعندما نحدد الشعبوية على هذا النحو بأنها سيكولوجيا اكثر منها ايديولوجيا، وعندما نجعل الآلية الأساسية لهذه السيكولوجيا هي جدلية الاغراء والافتتان، فاننا نفهم أن يكون الزعماء الشعبويون هم أكثر من يتقن، بين رجال السياسة، فن الخطاب السياسي. فالخطاب هو الوسيلة المثلى للالتحام المباشر بين الزعيم وشعبه. والخطاب هو بالتعريف فن التحكم بانفعالات الجماهير. وعن طريقه يمارس الزعيم اغراءه، وبواسطته تدلل الجماهير على افتتانها. وقد وجد بين علماء اجتماع الشعبوية من يقرأ العلاقة الخطابية بين الزعيم والشعب على انها علاقة جنسية: بين طرف فاعل هو الزعيم، وطرف منفعل هو الجمهور الملتحم به والمتماهي معه. ولكن لا بد ان نعترف بأن هذه القراءة قد طرأ عليها بعض التقادم، وعلى الأقل منذ ان حلت التقنية التلفزيونية محل التقنية الاذاعية. فزعماء شعبويون كبار من أمثال خوان بيرون وشارل ديغول وجمال عبدالناصر دانوا بوجودهم الى حد كبير للتقنية الخطابية والاذاعية، لكن الشعبويين الجدد - وهم بالاجمال من قامة تاريخية أصغر - يدينون بوجودهم بالأحرى للشاشة الصغيرة. وذلك هو مثال الرئيس الأميركي كلينتون، وكذلك مثال سيليفيو بيرلوسكوني في ايطاليا، وبرنار تابي في فرنسا. وواضح من خلال هذه الأمثلة الأخيرة ان الزعيم الشعبوي لم يعد مطالباً بأن يكون أباً مؤمثلاً أو أخاً كبيراً. ففي امكانه اليوم أن يكون مجرد أخ صغير، وبدون حمولة ذكورية مبالغ فيها. ولا ننس من هذه الزاوية ان هيلاري كلينتون لعبت في الصعود الشعبوي لزوجها دوراً لا يقل خطورة عن دوره. ومما له دلالته من هذا المنظور ان "فضيحة مونيكا" لم تتأد الى هبوط في أسهم شعبية كلينتون. ففي الديموقراطية التلفزيونية يباح للقائد السياسي ان يتصرف كإنسان من لحم ودم، وتغتفر له أخطاء وخطايا لا تغتفر للأب الكبير والمؤمثل الذي يخاطب الأمة من منصة عالية وبعيدة، ولايصلها صوته إلا مجرداً ومن وراء مذياع. بيد ان التقنية الاعلامية ليست هي وحدها التي أحدثت تعديلاً في مضمون الشعبوية. فهذه قد أصابها في نصف القرن الماضي تطور من طبيعة ايديولوجية. فالشعبوية، منذ أن رأت النور بأقلام آباء التنوير الروسي، ارتبطت بالمشاريع الايديولوجية الكبرى للنهوض والتحديث، لا سيما في ما سيعرف لاحقاً باسم العالم الثالث. فمن عبدالناصر في مصر الى سوكارنو في اندونيسيا الى بيرون في الارجنتين غدت الشعبوية مرادفاً للمشروع القومي القادر على تعبئة جماع الأمة بقيادة زعيمها الملهم المحبوب حباً متعالياً على كل نقد ومحاسبة. وحتى في أمة عريقة في تقاليدها الديموقراطية مثل فرنسا ارتبطت الشعبوية الديغولية بمشروع للتحرير القوي من المحتمل النازي في مرحلة أولى، ثم بمشروع للتحديث الاقتصادي والتكنولوجي أعاد الى فرنسا مرتبتها كدولة أوروبية أولى بعد أن تفككت امبراطوريتها الكولونيالية. ولكن أصحاب القامات الكبيرة هؤلاء أخلوا مكانهم من بعدهم لذوي قامات قميئة من الشعبويين ممن بنوا زعامتهم على العداء للحداثة ولمنجزاتها. ففي أوروبا الغربية احتكر الخطاب الشعبوي ممثلو اليمين المتطرف من أمثال الفرنسي لوبن والايطالي فيني والنمسوي هايدر. وهؤلاء تراجعوا عن الشعبوية البطولية كما كان يقول بها أشباه ديغول ليتبنوا نوعاً من شعبوية خسيسة تحمِّل المهاجرين و"الأغراب" مسؤولية البطالة والأزمة الاجتماعية والاخلاقية في البلدان الغربية. أما في العالم الثالث نفسه فقد غدا الخطاب الشعبوي حكراً على أعداء الحداثة من الأصوليين ومن المثقفين المتطوعين لامدادهم بالأسلحة النظرية التي تندد بالحداثة بوصفها ظاهرة من صنع النخبة المنفصلة عن الشعب والمتعالية عليه والمحتكرة لامتيازات دولة الحداثة الموصومة بأنها دولة مستوردة و"تغريبية". وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أخيراً، ان الشعب مقولة مشتركة بين الشعبوية والديموقراطية، فلنا ان نتوقع مستقبلاً زاهراً من الصراع بين هاتين الايديولوجيتين. فالديموقراطية لا تستطيع ان تنكر المشروعية النظرية للشعبوية وإلا أنكرت الأساس الذي تقوم عليه هي نفسها. والشعبوية لم تعد مضطرة، كما في الماضي، الى أن تكون انقلابية والى أن تقاطع الآلية الديموقراطية ما دامت هذه الآلية تتيح لها ان تصل الى الحكم من خلال قوة العدد. ولكن هل الديموقراطية محض صندوق للاقتراع، وبالتالي محض معادلة حسابية، ام هي أيضاً منظومة من القيم ورؤية نوعية للانسان في وجوده العام؟ فما يحدث اليوم في النمسا حيث تحول اليمين المتطرف الى قوة حاكمة بالارتكاز على الشرعية الانتخابية ينهض شاهداً على أن مسألة طبيعة العلاقة بين الشعبوية والديموقراطية معقدة وليست برسم الحسم القريب.