مرت سنة كاملة على بدء الحرب الاميركية في العراق وأيام قليلة تفصلنا عن مرور سنة على سقوط النظام العراقي. خلال هذه السنة كان الخبرالعراقي الاول في العالم. الاحداث التي شهدها هذا البلد كانت من الكثافة بحيث عجزت وسائل الاعلام عن الاحاطة بكل ما يجري هناك. سقط النظام وتكرس الاحتلال الاميركي بموجب قرار من مجلس الامن وشكل الحاكم العسكري الاميركي مجلس الحكم العراقي الموقت الذي شكل بدوره حكومة عراقية محدودة الصلاحيات. تضاعفت اعمال العنف واطلق عليها البعض اسم المقاومة لكن أيدي هذه المقاومة تلطخت بدماء العراقيين قبل ان تصل الى الاميركيين. "الحياة" وفي ذكرى مرور سنة على سقوط النظام في بغداد تباشر ومنذ اليوم نشر تحقيقات ميدانية وموضوعات تتناول الشأن العراقي من داخل العراق ومن الدول المجاورة التي شكل الحدث العراقي محور اهتمامها ووضعها امام استحقاقات جديدة، بالاضافة الى تحقيقات اقتصادية واجتماعية مرتبطة بهذا الحدث. العملية السياسية التي يجري الإعداد من خلالها للعراق الجديد وما تشهده من تجاذبات حول شكل الدولة المقبلة وطبيعتها. كذلك ستكون محور هذه الحلقات التي نباشرها اليوم بتحقيق ميداني عن شكل الحياة اليومية التي يعيشها العراقيون في ظل أعمال العنف المختلفة. ان تستيقظ صباحاً في بغداد وتغادر الفندق متوجهاً الى موعد في كربلاء، فهذا ربما كان امراً مألوفاً يفعله او يفعل مثله مئات من الصحافيين وآلاف من الموظفين الغرباء الموجودين في بغداد في مكاتب الشركات المتقاطرة للتعاقد على اعادة اعمار العراق. في الصباح ستكون اكثر نشاطاً وتخففاً من ثقل الحكايات التي سمعتها في النهار الفائت عن انفلات الوضع الأمني، كما انك ستكون اكثر استعداداً لاستئناف نهار مختلف. لكن تقدم الوقت في بغداد ربما حمل ما هو اثقل من خيبات نهار عمل عادي. فما بالك مثلاً لو ان الطريق الى موعدك في كربلاء سلكه ايضاً جار لك نزيل فندق مجاور، استيقظ في الوقت نفسه الذي استيقظت فيه واصطحب زملاء له وسائقاً عراقياً واتجه الى كربلاء ايضاً. غريب مثلك تماماً، على اوتوستراد محافظة بابل، سيارته في الأمام على مسافة نحو الف متر من سيارتك. وبعد دقائق من عدم الاكتراث التام لكل هذه التفاصيل، تتناهى الى مسامعك زخات متواصلة من الرصاص تستمر أكثر من دقيقتين، يوقف خلالها السائق السيارة لاستكشاف ما يجري، وبعد نحو عشر دقائق من توقف الرصاص، قررنا استئناف السير، لنكتشف ان جميع من في السيارة التي كانت امامنا قتلوا، فيما اختفى القتلة بسرعة قياسية. المسألة بالنسبة اليك في تلك اللحظة تتعدى حادثاً صودف وقوعه في جوارك. المستهدف كان انت مثلما كان الرجل الألماني الذي شاهدت مؤخر رأسه الخائر على مقعد السيارة التي كان يستقلها الى كربلاء في ذلك النهار. فما الذي يميزك عنه سوى تلك المئات القليلة من الأمتار التي كانت تفصلك عنه لحظة قتله. الأمر بالنسبة اليك لن يكون حادثاً من ذلك النوع الذي كنت ربما اعتدت على تغطيته. انفجار حصد عشرات القتلى او عملية استهدفت الشرطة او الى ما هنالك من عنف يومي في العراق. الأمر مختلف، وستلوح لك جثة الرجل لشدة تشابه ظروفكما على انها جثتك. فهو لم يقتل لأنه فلان بن فلان، بل لأنه غريب على هذه الطريق صودف عبوره لحظة تحفز القتلة الملثمين الذين يطلق كثيرون منا عليهم اسم "المقاومة"، او لأن ثمة عصابة سرقة من بين آلاف العصابات المنتشرة اليوم في العراق كانت مرابطة على الطريق الذي سلكه هذا الرجل وسلكته انت في الوقت نفسه تقريباً، فقتلته مع رفاقه واخذت ما في حوزته، وفي كلا الحالين كان من الممكن جداً ان تكون انت مكانه. حصلت هذه الحادثة قبل ايام قليلة من اتمام الأميركيين سنتهم الأولى في العراق. ربما كان من البديهي القول ان اعمال العنف اليومية في العراق قريبة من العراقيين قرب جثة هذا الرجل منك. القتلى الذين يسقطون كل يوم من الصعب ان ينأى عراقي واحد بنفسه عن احتمال ان يكون من بينهم. فأعمال العنف في بغداد على الأقل لم تأخذ حتى الأن شكلاً يُمّكن من اقامة الحسابات واتخاذ الاحتياطات. الأمكنة كلها متاحة لمن يرغب بالقتل او السرقة، هكذا يشعر العراقيون، والمستهدف اليوم ليس الأميركيين بل العراقيون في الدرجة الأولى، ولا يمكن لك الا ان تشعر وانت في بغداد بأنك قريب من الموت او من ما يشابهه. الحقائق تقترب في الزيارة الثالثة انها الزيارة الثالثة لبغداد منذ سقوط النظام فيها. الشعور بالثقل يزداد مرة اثر مرة، والحكايات المتواترة عن انواع العنف والقتل والخطف تقترب وتتحول الى وقائع. في المرة الأولى سيقت حكايات بعيدة عن خطف الأطفال، وفي المرة الثانية اشير الى اسماء الضحايا والى منازلهم، اما هذه المرة فتكشفت حقائق جديدة عن اساليب مفاوضة الأهالي لعصابات الخطف. وفي المرة الأولى ايضاً تحدث السائق في عمان عن "السليبة" على الطريق بين عمانوبغداد وطلب منا توزيع ما في حوزتنا من مال في اماكن مختلفة حتى يتاح الاحتفاظ ببعضها في حال تعرضنا لعملية سلب على الطريق. وفي المرة الثانية كان بعض من نعرفهم تعرضوا فعلاً لعمليات "تسليب"، اما في المرة الثالثة فشاهدنا فعلاً السليبة يعبرون بجوارنا على الطريق السريع، وعاينا تعامل السائقين معهم وخطط تفاديهم المختلفة. عرفنا اسماء رجال من "السليبة"، وسيقت روايات عن مطاردات قامت بها عشائر مسلوبين عراقيين لعشائر "سليبة" اسفرت عن استرداد بعض المسروقات، وعن قتلى وجرحى خلال هذه العمليات. كل المؤشرات تدل على اقتراب تحول الحكايات الى وقائع. وفي كل مرة عليك ان تنخرط في ورشة مختلفة من الاحتياطات الوهمية. وحين تقف على شرفة الفندق وتشرع بالنظر الى المنازل المضاءة بقناديل ضعيفة، فلن تتمكن من التفلت من اغراء تخيل تلك الحياة التي تدب في تلك المنازل. ربما دفعك الى ذلك حاجتك الملحة الى الفة الحياة العادية التي لا سبيل لنا اليها نحن سكان الفنادق. ولكن هل يحيا هؤلاء في منازلهم حياة عادية؟ سؤال ستجهد للاجابة عنه خلال اطالتك النظر الى تلك الشرفات والنوافذ، ستبحث عن اجوبة من خلال ما يلوح من ومضات حراك بطيء وقليل. لا حياة فعلية في هذه المنازل، ويبدو ان السكان يطيلون الجلوس في مقاعدهم، او انهم يغادرون الى فراشهم باكراً، ولكن اين الأطفال الذين غالباً ما يكسرون ذلك المشهد الرتيب؟ انه نوع من الحوار الذي تجريه مع نفسك كل مساء اثناء وقوفك على الشرفة او عبورك من امام مبنى سكني. ربما كانت ساعات الصباح الأولى من الأوقات القليلة في بغداد التي تعيدك الى ما يشبه حياة طبيعية. ابواق سيارات كثيرة وتلاميذ متوجهون الى مدارسهم وعناصر كثيرة من شرطة السير ومن دوريات الطوارئ بسياراتهم الزرق والبِيض، وازدحامات عند التقاطعات، لكن هذه الحركة الكثيفة ستتحول مع تقدم الوقت الى عبء كبير والى ما يشبه انسداداً كاملاً لقنوات تصريف الحاجات اليومية. ثلاثون في المئة من شوارع بغداد مقفلة بسواتر ترابية وخرسانية، وفي كل يوم تزداد هذه النسبة. لا احد يمكنه الاجابة عن الحاجة الى اقفال هذه الطرق والمسارب الصغيرة، ولا يبدو ان ثمة من يقنن او يمنع احداً من اقفال الشارع المجاور لمنزله. للفنادق مثلاً وهي كثيرة جداً في بغداد الحق في تحويل شبكة الطرق المحيطة بها الى اتجاه واحد، ومنازل المسؤولين الجدد منتشرة في كل انحاء المدينة، ناهيك عن المراكز الحزبية على انواعها، ومكاتب الشركات الغربية. اما المواقع الأميركية، فتحصيناتها من ذلك النوع الذي يستدعي ابعاد العابرين الى مسافة طويلة. فالمنطقة الخضراء التي يقيم فيها الحاكم الأميركي في بغداد والتي تضم قصر الرئاسة السابق وفندق الرشيد وقصر المؤتمرات ومنشآت ومساحات اخرى محاطة كلها بجدار اسمنتي، واقامة هذه المنطقة غير من خطة الحركة لمعظم سكان المدينة. اقفال الجسر المعلق الذي يربط منطقة الكرادة السكنية بشارع ابو النواس وغيره من الشوارع الكثيرة ضاعف من ضغط السير على الشوارع الرديفة المفضية الى ما كان يفضي اليه العبور على الجسر المعلق. يبعث الوجود الكثيف لرجال الشرطة في الشوارع طمأنينة ما في نفوس سكان بغداد على رغم تضاعف اعمال العنف. لكنك تشعر ان هؤلاء الرجال المرتدين بدلاتهم الزرق غريبون على قدر ما انت غريب. الأمر ليس لهم ولا للأميركيين طبعاً، فهذه المدينة يحكمها آخرون غير مرئيين، وكثرة اعمالهم تنبئ بوجودهم اينما حللت. الحكايات عن العصابات على انواعها وعن عناصر تنظيم "القاعدة" وعن بقايا النظام السابق تغزل في شكل يومي ومتواصل. فريم، وهي ام لطفلين وابنة لطبيب وطبيبة، لم ترد اطالة الحديث مع متصل بها عبر الهاتف اراد اخبارها عن قريب لها خطف طفله. قالت ان تواتر الحكايات اصبح معيقاً وثقيلاً، خصوصاً ان بيئتهم جاذبة جداً لعصابات الخطف. وتقول ان هذا الأمر صار من الممكن التعامل معه، فهذه العصابات لا تقتل الأطفال وتفاوض اهلهم في شكل مباشر وصريح وتسديد الفدية المطلوبة امر كفيل باسترداد الطفل. لكن المشكلة بحسب ما تقول ريم تكمن في أن افراد هذه العصابات يسيئون تقدير الأوضاع المادية لأهل الطفل المخطوف. فمرة خطف ابن احد معارفها واتصل احد افراد العصابة بالأهل وطلب خمسين دفتراً الدفتر بالتعبير العراقي تعني رزمة العشرة آلاف دولار، في حين يفوق هذا المبلغ قدرة الأهل بأضعاف. وبدأت المفاوضات التي تخللها ارسال الأهل طعاماً وثياباً لطفلهم، وتمكن والد الطفل من اقناع العصابة بالمجيء الى المنزل للتحقق من عدم قدرته على دفع ما يطلبون، فاقتنع هؤلاء بمبلغ خمسة آلاف دولار، ولكن اثناء خروجهم من المنزل لاحظوا ان سيارة جديدة مركونة في المرآب، فطلبوا مفاتيحها واخذوها واعادوا الطفل الى اهله. حكاية احمد مع مدينة الرمادي لهذا الوضوح في عمليات السرقة والخطف ما يفسره في بغداد. فعصابات السرقة وحتى القتل ليست مجموعات منفصلة عن الواقع الاجتماعي والسياسي في هذا البلد. سكان بغداد المدينيون والمتمدنون يعيشون واقعاً اجتماعياً مختلفاً. لا حدود واضحة في بغداد بين البادية والعشيرة وبين المدينة. قيم الواقعين مختلفة ربما ولكنها متجاورة بحيث يصعب تمييزها وتفادي احتكاكها. عندما تتصل العصابة بأهل الطفل يدرك هؤلاء الأخيرون ان للعصابة من يحميها وان ادخال ابنهم في دائرة تنازع بين عشيرة ما وبين الشرطة لن يكون مفيداً. قد لا تكون العشيرة او قيادتها متورطة في عملية الخطف، لكن العصابة تستطيع توظيف قوة العشيرة وكسب حمايتها، وربما فسرت حكاية احمد، وهو سائق على خط دمشق - بغداد، هذه العلاقة بين العصابة والعشيرة. فأحمد تعرض لعملية سلب على هذه الطريق وتحديداً في منطقة الرمادي، اذ تمكنت عصابة من سلبه سيارته الجديدة ومبلغاً كبيراً من المال هو كل ما في حوزته. واحمد شاب بغدادي يبلغ الثلاثين من العمر، ويعني فقده للسيارة والمبلغ الذي سلب منه انهاء لمصدر عيشه وعيش عائلته. لأحمد صهر من مدينة الرمادي، توجه اليه ونزل في بيته 20 يوماً راح خلالها يسأل عن سيارته "المرسيدس" السوداء، الى ان جاء من يقول له ان سيارته في حوزة رجل من الدليميين اسمه ثائر. توجه احمد برفقة اقارب صهره الى منزل الرجل، فأبلغه اهله انهم متبرئون من ابنهم ثائر الذي قتل عمه وزوجة عمه وفر من المدينة، وقالوا لأحمد ان دم ابنهم ملكه اذا عثر عليه. وبعد اسابيع قليلة اتصل صهر احمد به وابلغه ان احد ابناء الرمادي شاهد ثائر في مدينة كركوك التي تبعد نحو 250 كيلومتراً الى الشمال من بغداد، فتوجه احمد الى كركوك واقام مع قريب له في احد فنادقها، وقضى اياماً فيها من دون ان يعثر على سارق سيارته. اسابيع اخرى مرت قبل ان يتصل صهر احمد به مجدداً ويبلغه أن رجلاً من الرمادي اسمه "ابو صقر" معروف ببطشه اعرب عن استعداده لاعادة السيارة في مقابل دفع تكاليف الرحلة الى كركوك ومصاريف اخرى متعارف عليها في مثل هذه الحالات. وافق احمد بسرعة واستعاد السيارة بعد ايام قليلة، اما المبلغ الذي فقده خلال عملية سلبه، فراح يتفاوض مع "ابو صقر" على استعادته وعلى النسبة المتوجب عليه دفعها لقاء ذلك الى ان علم ان سالبه ثائر قتل في كركوك اثناء تنفيذه عملية ضد الأميركيين، وابلغه "ابو صقر" ان استعادة المبلغ صارت امراً مستحيلاً. اختلاط صعب للمعاني في الحكاية الواحدة يدفع العراقيين الى الخلط ايضاً بين الاجرام والمقاومة، وبين مسؤولية الأميركيين عما يجري ومسؤولية العراقيين انفسهم عن ذلك. هذه التعقيدات ستدفع بالجميع هنا في بغداد الى مواقف غير منسجمة وغير مستقيمة، والى جنوح في ردود الفعل، والى رفع السواتر في كل الاتجاهات. فمن قتل المهندس الألماني على طريق كربلاء، المقاومة ام عصابات السرقة، ام الاثنان معاً، ومن خطف الطفل، عصابة الخطف ام العشيرة؟، والأميركيون الذين انتزعوا قراراً شرعياً من مجلس الأمن الدولي بادارة العراق هل ثمة من يسألهم عن الخطوات المتخذة للحد مما يجري؟ ليس ذلك هامشاً صغيراً في ظل عملية سياسية كبرى، فقد تحول الهاجس الأمني الى متن العملية السياسية، والدليل القاطع على هذا الأمر اشارات يطلقها مواطنون كثر هم ضحايا النظام السابق، الى ما كانوا ينعمون به من امن في ظله. هذا قبل ان ننتقل طبعاً الى قضية التفجيرات العمياء والعمليات الانتحارية التي حولت بغداد الى مدينة تتعايش فيها الخرافات مع الحقائق. فالعراقيون يجمعون على ان هذا النوع من التفجيرات يقوم بها اناس من غير العراقيين، ثم ان الكثيرين منهم راحوا يبحثون عن الشيطان في حقائبهم ومعتقداتهم. ان يعتقد رجل منهم او من جوارهم ان بقتله اطفالهم سيدخل الجنة، فهذا الأمر سيدفعهم الى ما لم يسبق ان اختبروه. حين يتناقل سكان بغدادالخبر الذي نقلته صحيفة محلية قريبة من الشرطة عن اعترافات انتحاري قبض عليه قبل تنفيذه العملية لجهة انه كان ينوي تفجير نفسه بهم لكي يدخل الى الجنة، يفقدون صوابهم ويشعرونك بأنهم حيال انقلاب كامل في منظومات الاعتقاد. انه مسلم مثلهم، ويذهب الى المسجد مثلهم، ولكنه يعتقد بأن موتهم سيدخله الجنة. هذه المعادلة هي ما تدفع العراقيين الى التيقن من ان هؤلاء جميعهم من خارج العراق، فالعراقيون بحسب ما يتحدثون لم يسبق ان انتجوا انتحارياً واحداً خلال كل الحروب التي خاضوها. وفي هذا الأطار يسوق العراقيون خبراً اقرب الى طرفة فيما يؤكد آخرون صحته ونقلته صحيفة محلية عن ان احد الانتحاريين المشتركين في تفجيرات منطقة الكاظمية لم ينجح في تفجير نفسه والقي القبض عليه بعدما اغمي عليه معتقداً انه نجح بالتفجير، وبعد وقت صحا خلاله في مركز الشرطة راح يتصرف على انه في الجنة! الرشوة في النظام الجديد ليس هذا الواقع الوحيد الذي يمكن رصده في بغداد بعد سنة على سقوط النظام فيها، وخلال الزيارة الثالثة لها في هذه السنة. فالدخول الى العراق من المعابر الغربية سورية والأردن صار اكثر تعقيداً، والاشارات التي يمكن التقاطها ما ان تطأ قدماك الأرض العراقية هي انك دخلت الى دولة غير تلك التي وُعد العراقيون بها. فالدولة هذه تنتمي الى محيطها بأمتياز. رجال الحدود يقفون منتظرين الرشاوى كما كانوا ينتظرونها في زمن النظام السابق، وعليك لكي تعبر الى العراق الجديد ان ترضي اصحاب السحنات الملوحة برمل الصحراء. المشكلة ان الرشوة ليست مركزية في المنشآت الحدودية، فلرجال الجمارك مقطوعيتهم، ولرجال وزارة الداخلية ايضاً، وبعد دفعك الرشوة ربما جاءك عنصر آخر وطلب تفتيش الحقائب مجدداً، وفي هذا الوقت ستستغرق في تفكير آخر يتصل في ان هذه الحدود هي عينها التي تطلب السلطات العراقية ومن خلفها الأميركيون ضبطها، فهل يمكن نظام الرشوة هذا من يريد ادخال ما يرغب عبر هذه الحدود؟ الأميركيون جعلوا من مركز الوليد على الحدود السورية - العراقية منفذاً لادخال البضائع فقط فيما على الراغبين بالدخول الى العراق من سورية ان يدخلوا عبر مدينة القامشلي، وهم اوكلوا تنفيذ قرارهم هذا الى رجال الحدود العراقيين الذين هذه حالهم، والذين من المؤكد كما عاينت انت شخصياً سيتيحون لمن يرغب بالدخول في حال دفع ما هو متوجب دفعه. اما المشهد الحدودي الثاني فهو لتلك الشاحنات العملاقة التي تنقل السيارات الجديدة والبضائع الى العراق الجديد، والتي ستحسس آثار قدومها الى العراق في بغداد التي تزدهر اسواقها هذه الأيام بالبضائع الجديدة كل الجدة على المستهلك العراقي. اكثر من خمسة وعشرين كيلومتراً هي المسافة التي تقف هذه الشاحنات متلاصقة عليها في صف واحد منتظرة السماح لها بالدخول. الأجراءات الجمركية منعدمة من الجهة العراقية، فالعراق كله هذه الأيام سوق حرة، والتجار يتسابقون على ادخال البضائع قبل صدور اي قرار بتحديد الرسوم الجمركية. هذه البضائع هي زينة العراق الجديد. فعلى رغم مشاكل البطالة الناجمة عن حل الجيش والأجهزة الأمنية، لا بد من ملاحظة تحسن القدرة الشرائية للعراقيين، وبدأ ابناء هذا البلد بالدخول الى عالم الأسواق الجديدة. شركات للهاتف الجوال واعلانات عن وجود بطاقات الثريا، ومتاجر بيع الصحون اللاقطة، وسيارات جديدة. اما العراقيون فمن الواضح انهم بدأوا بردم الهوة المعرفية التي تفصلهم عن العالم. الفضائيات غزت بيوتهم، وحصل ذلك بضربة واحدة ومن دون تمهيد. هكذا ومرة واحدة صار في امكان سائقنا ابو زينب ان يشاهد اكثر من مئة فضائية تزوده يومياً بكمية من الأسئلة والاستيضاحات اكثر من ما تزوده بمعلومات. فحين سمع اخبار الفضائية اللبنانية المتعلقة بتظاهرات العونيين ضد الوجود السوري في لبنان سأل من هم العونيون وهل هم ديانة من بين ديانات لبنان الكثيرة، ولماذا للسوريين وجود في لبنان. اما الحيرة الكبرى التي اوقعت الفضائيات "ابو زينب" بها، فهي تلك الناتجة عن البرامج الترفيهية التي جعلت ابو زينب متنازعاً بين حديث المذيعة بالعربية وثيابها وايماءاتها التي لم يعهدها بمن يعرفهم من الشابات العربيات. المأساة ليست وحدها ما يشتغل في العراق اليوم، فلسقوط الطاغية اثر واضح على العراقيين بعد سنة على وقوعه. وربما كان لأعتقال صدام حسين بعد اشهر عدة على سقوطه اثر مشابه. فمن خبر العراقيين قبل اعتقاله بقليل وعاد وخبرهم بعده سيتمكن من رصد الأثر ومن التحقق من ان هذا الحدث لا يقتصر على دلالاته الرمزية. فحتى ذلك التاريخ كان العراقيون يشعرون بأن وجوده حياً في مكان ما يشكل مصدر قلق دائم، وكانوا حتى ذلك التاريخ معتقدين ان آلة النظام السابق ما زالت تشتغل وفي امكانها معاودة نشاطها فور انسحاب الأميركيين. اليوم تراجع هذا الاعتقاد في شكل ملحوظ، وصار صدام نكتة يتبادلها العراقيون مازجين فيها مآسيهم بالمفارقات التي حملتها اليهم صوره في الحفرة التي كان يختبئ فيها. البضائع الداخلة والخردة الخارجة الشاحنات التي تدخل العراق يومياً محملة بالبضائع تقابلها شاحنات اخرى محملة ببضائع من نوع آخر مغادرة العراق الى الدول المجاورة، اي الى تركياوايران. فالطرق المؤدية الى شمال العراق تزدحم بمئات الشاحنات يومياً التي تحمل حديداً هو عبارة عن انقاض الآليات العسكرية المدمرة والتي يبيعها سماسرة عراقيون الى تجار ايرانيين واتراك بسعر 50 دولاراً للطن الواحد. هذا الأمر ليس تفصيلاً، فالآليات العسكرية المحطمة كانت الى اشهر قليلة فائتة تشكل مشهداً هائلاً، وموادها وقطعها اعتبرت مخزناً لقطع غيار اسلحة جيوش الدول المجاورة. هكذا مثلاً قصد خبراء عسكريون ايرانيون منطقة الضلوعية في الشمال الشرقي لبغداد وفككوا طائرات حربية كان النظام السابق خبأها في بساتين النخيل بين بلدتي الضلوعية وبلد. ومن ايران ايضاً يتحدث العراقيون عن عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود والتي، بحسب احد اعضاء مجلس الحكم، تحولت الى عبء لا تقتصر نتائجه على الآثار الصحية على السكان وانما ايضاً تتعداه الى استنزاف العملة العراقية الجديدة التي صارت العصابات ومافيات المخدرات في ايران تحوز على كميات كبيرة منها، حيث تحولت هذه العصابات الى مضارب اساسي على سعر صرف الدينار العراقي. سنة على سقوط النظام في العراق. النظام العراقي سقط وما زال وقع سقوطه يدوّي في الآذان. اما النظام المقبل فلا تلوح الى الآن ملامحه، وما يجري في العراق يعقد كثيراً التوقعات. للأميركيين جمهوريتهم وللشيعة ايضاً، اما الأكراد فتجربة حكمهم الذاتي كرستهم قوة راجحة وثابتة، وهم اليوم يخوضون مواجهات اخرى. السنة العرب خارج المشاريع كلها، ينظرون اليها من بعيد، ويعتبرون انفسهم خارج المشاريع الثلاثة. احمد الجلبي وهو علماني سقط على الحياة السياسية في العراق بالمظلة الأميركية، وجد نفسه مضطراً للانضواء تحت راية المرجعية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني، وربما ضم صوته الى اصوات الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم في مطالبتهم بالغاء القانون 137 القاضي بإحالة قانون الأحوال الشخصية على المحا كم الدينية. اياد علاوي وضعه مشابه. مفارقات كثيرة، وما ينتظر العراق خلال السنة الثانية من سقوط النظام سيكون اشد مفارقة.