سيعتبر مقتدى الصدر وتياره الواسع في العراق من العلامات البارزة التي تكشّف عنها سقوط النظام العراقي السابق. فهذه الحركة التي تسعى إلى لعب دور في عراق المستقبل لم يسبق أن رصدها المهتمون بالشأن العراقي، في حين أشبعت التيارات والأحزاب الاخرى بحثاً وتدقيقاً. مقتدى الصدر وتيار "الحوزة الدينية الناطقة" كما يطلق مناصرو هذا الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، على أنفسهم، إضافة إلى مدينة الثورة، اختارتهما "الحياة" بداية لسلسلة تحقيقات عن العراق، نبدأها بثلاث حلقات عن "جمهورية مقتدى الصدر، ونتبعها بتحقيقات عن النجف وسامراء وعن قوى سياسية جديدة بدأت العمل على الساحة العراقية. اللطمية التي راح رحيم دليلنا في مدينة الثورة يرددها فور صعودنا إلى السيارة وإشغال جهاز التبريد فيها، تقول "قوم ارويها... قوم ارويها... هاي أطفالك قوم ارويها... مشبوحة الأنظار تجودك... انهض يا المعروف بذودك... قوم ارويها". واللطمية هي الغناء البكائي الذي يردده شيعة العراق حين يشرعون بالبكاء على الإمام الحسين بن علي. ويقول رحيم، وهو شاب عشريني من مدينة الثورة في بغداد، أن صوته اختفى هذا العام حين شارك في مسيرة أربعينية الحسين من النجف إلى كربلاء، ولم يتوقف طوال المسيرة عن إطلاق اللطميات وعن البكاء على "سيد الشهداء". علماً أن رحيم وفي السنوات الفائتة كان يشارك في حلقات بكاء سرية على الحسين في مدينة الثورة بعدما منع النظام إقامة شعائر عاشوراء على النحو الذي يقيمه الشيعة عادة. يقول صحافي غربي كان في بغداد لحظة سقوطها في أيدي القوات الأميركية "إن إشارات سقوط المدينة لم تأتنا من معاينتنا الدبابات الأميركية في التاسع من نيسان في ساحة الفردوس، وإنما قبل ذلك بقليل عندما وصل مصورنا العراقي حاملاً شريطاً مصوراً سجله صباح ذلك اليوم في مدينة الثورة التي كان يطلق عليها في ذلك الحين اسم مدينة صدام، وفي الشريط يظهر الناس وقد خرجوا من منازلهم وشرعوا بتحطيم مراكز الأمن والجيش وكل الإدارات العامة، فأيقنا حينها أن المدينة سقطت". يشكل سكان مدينة الثورة التي أطلق عليها السكان بعد سقوط النظام اسم مدينة الصدر ثلث سكان بغداد، وتراوح تقديرات أعدادهم بين مليونين وثلاثة ملايين جميعهم من الشيعة الذين نزحوا من جنوبالعراق منذ النصف الثاني من القرن الفائت، إضافة إلى أعداد قليلة من الأكراد الفيليين الشيعة ونسبة أقل من أكراد الشمال وبعض المسيحيين المستمرين في النزوح من المنطقة إلى الآن. ليست مدينة الثورة ضاحية تقليدية من تلك الضواحي التي يتجمع فيها حول المدن النازحون من الأرياف، فهي قد تكون على رغم فقرها وتآكل مبانيها وفوضى السكن وكثافته، من أكثر مناطق بغداد وضوحاً في تقسيمات شوارعها وتوزعها. إنها مدينة أفقية تنتشر على نحو 20 كيلومتراً مربعاً شرق بغداد. وفي الأربعينات، أي في أيام الحكم الملكي، كان أهل بغداد يسمون المنطقة التي أنشئت فيها مدينة الثورة "خلف السد" حيث كان يقيم نازحون قليلون على ضفاف دجلة، وكان هذا الأخير يفيض عليهم سنوياً فيأتي على منازلهم الطينية، إلى أن أطاح عبد الكريم قاسم الحكم الملكي، وشرع في بناء مدينة الثورة وأسكن المهاجرين الشيعة أبناء عشائر الجنوب فيها، مستمداً في التخطيط لشوارعها تصميمات مدن غربية كبرى، كنيويورك مثلاً التي طالما يستحضرها العراقيون أثناء شرحهم لتقسيمات المدينة. الآن وبعد سقوط النظام تعتبر مدينة الثورة وهو الاسم الغالب عليها مدينة مقتدى الصدر الذي ورث زعامة والده العلامة محمد صادق الصدر الذي اغتاله النظام عام 1999 في مدينة النجف. ولعل حكاية مدينة الثورة والبحث في تقسيماتها القبلية والسياسية وفي صلاتها المتفاوتة بعدد من المحطات الحديثة التي عاشها العراق، تفسر إلى حد كبير ظاهرة مقتدى الصدر، رجل الدين الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، والذي شكل حضوره المفاجئ علامة جديدة تضاف إلى تعقيدات الوضع العراقي. فزعامة هذا الشاب تهدد إلى حد كبير زعامات العلماء الشيعة الكبار. وإضافة إلى أنه خارج العباءة الإيرانية، يبدو أنه امتداد لنزعة شيعية عربية، ولشعبوية دينية يختلط فيها العنف بالتزمت. العشائر المتشيعة لم تفعل بغداد بعشائر جنوبالعراق النازحة إليها ما تفعله المدن بالعشائر عادة، إذ أتاحت لهم المدينة أن يستأنفوا فيها معظم شعائرهم العشائرية، وأن يعيشوا ويعملوا ويتبادلوا ويتقاتلوا ويتقاضوا ويتزوجوا وفقاً لسنن عشائرهم، ولم تخرج إجابة واحدة من عشرات الإجابات التي تلقتها "الحياة" في مدينة الثورة عن حقيقة أن العشيرة وشيخها هما الباب الأول الذي يطرقه من تواجهه أي مشكلة. هاجروا إلى مدينة الثورة من الجنوب للأسباب التي يهاجر من أجلها سكان الأرياف إلى المدن، في الأربعينات هرباً من نظام إقطاعي زراعي يتحكم فيه كبار الملاكين في ظل دولة ملكية يشكل الملاك فيها النخبة الحاكمة. وفي الخمسينات والستينات تضاعفت الهجرة بعد التوسع الكبير الذي شهدته بغداد، وتزايد الحاجة إلى يد عاملة رخيصة وغير متخصصة. في بداية نزوحهم سكن المهاجرون الشيعة في مناطق متفرقة من بغداد، فأقاموا فيها مدن صفيحهم، إلى أن قرر عبد الكريم قاسم بناء المدينة خلف سور بغداد وأطلق عليها اسم مدينة الثورة في بداية الستينات، وانتقل إليها هؤلاء المهاجرون وتبعهم أقارب لهم من عشائرهم خصوصاً من مدينة العمارة ومناطق الأهوار ومدن الجنوب وبادياته الأخرى التي تنتشر فيها العشائر المتشيعة. وما زال هؤلاء يحفظون لقاسم إنصافه لهم، ويفضل الكثيرون منهم تسمية مدينتهم باسم مدينة الزعيم، وهي التسمية التي كانت تطلق على قاسم. بنى قاسم مدينة الثورة على شكل ثلاثة شوارع طويلة ومقسمة إلى 79 قطاعاً مرقمة في شكل تسلسلي. التقاطعات بين الشوارع الرئيسية والقطاعات الأفقية هي التي رسمت مساحات البناء السكني والأسواق. أما المساحة العامة فتقدر بنحو 20 كيلومتراً مربعاً. هذه التقسيمات ما زالت تحتفظ حتى اليوم بخطوطها العامة على رغم امحاء الأرقام وكثافة السكن وما طرأ عليه من إضافات وتمدد. الشوارع وعلى رغم اهترائها وانتشار المياه الآسنة والروائح المنبعثة بقوة منها، ما زالت واسعة ومحددة بأرصفة ودوائر. لكن أبناء العشائر وعلى رغم التزامهم التنظيم المديني العام لمنطقتهم في بغداد، وهذا ما أملاه ربما سريان بعض القوانين المنظمة لسكنهم، نقلوا إلى المدينة دواخل بيوتهم وتمكنوا من التعايش مع ذلك المحيط الترابي الذي شرع يزحف إلى البيوت فيغطيها بطبقة غبارية وإلى وجوه الأطفال العابثين في الشوارع والمتخبطين بفقرهم وبرثاثة تضافرت عليها عوامل النزوح والاضطهاد السياسي واستيلاء تقاليد العشائر ورجال الحوزة الدينية على منظومة العيش والتفكير والاعتقاد. والتقسيمات الواضحة والسهلة لهذه المدينة الهائلة اتسعت لحياة من نوع آخر، لا يعوزها هذا الوضوح، إذ سيلازمك شعور أثناء تجوالك في أحياء الثورة أن هذا الفقر غير مكتمل أو غير تام. صحيح أن إشاراته ممتدة إلى مختلف نواحي العيش ولكن أيضاً ثمة من صمم فقر هؤلاء، والتنظيم المديني الصارم لمنطقتهم لم يخفف من أعبائه، لا بل وسع مسرحه، فالساحات بين التقاطعات تحولت إلى مستنقعات يعبث فيها الأطفال، والأسواق الممتدة على طول الشارع وفي محاذاته ليست إلا معرضاً للبضائع الرخيصة التي سحب منها مرور الزمن الحياة، ورجال العشائر المتجولون بثيابهم العشائرية وخلفهم نساءهم اللابسات العباءت السود، يشعرون بثقل كبير وكأنهم يحملون النسوة على أكتافهم. وفي الآونة الأخيرة أضيف عبء جديد على مشهد مدينة الثورة، يتمثل بالسوق الكبير الممتد بين تقاطعات عدة والذي تعرض فيه الأغراض التي نهبت من المؤسسات العامة. ويبدو مشهد هذه الأغراض غير المنسجمة بالغ العنف والقسوة والمفارقة. خزائن حديد إلى جانب مكيفات هواء مخلعة، وأحجام معدنية غامضة عرضت إلى جانبها لوحات رخيصة من ذلك النوع الذي يختاره المديرون المتوسطو الحال والموقع في العراق لمكاتبهم. وبين المعروضات أغنام ودجاج. والزبائن أيضاً هم خليط غير منسجم وغير واضح المقاصد. كل هذا يحصل وسط دبيب الأقدام الزاحفة والجارة وراءها كميات من الوحول والغبار. رائحة البعث لواجهات المحال والمنازل في أحياء الثورة وشوارعها ملامح من أكثر من زمن وذوق. البعث موجود في أسماء المحال وفي أنواع المهن. ودخول البعث إلى ديكور سوق للعشائر يمكن أن يكون خطوة إلى الأمام من حيث نوع المهنة والأسلوب الذي تقدم به. ثمة محال كثيرة مثلاً لتأجير البدلات الرجالية "الحديثة"، وراء ازدهار هذا النوع من الأعمال رائحة ما للبعث. ومن وسائل العيش المختلفة التي أدخلها النظام إلى مشهد الثورة، تلك السيارات العسكرية التي لم تعد تصلح للاستعمال العسكري فقام بعرضها في مزاد علني في المدينة حيث اشتراها السكان وحولوها إلى سيارات نقل داخلية، وهي اليوم وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في مدينة الثورة. سيارات روسية الصنع، خلفياتها مكشوفة، يتسلق إليها أبناء الثورة، نساء ورجالاً ومواشي وطيوراً، فيُسهِل جريانها الثقيل في الشوارع استشعار ذلك البطء الذي أحدثه البعث في أرواح الناس وفي تبادلاتهم، إذ ثمة أمر لم يتحدث عنه أحد بعد، خلفه النظام العراقي البائد في العراقيين. إنه ذلك البطء، وتلك الماكينة الثقيلة التي تسيّر الحياة. فخلال إقامتك في بغداد لا بد أن يصيبك عدم الجاهزية الدائم الذي يعيشه أبناء المدينة، الزمن كان معطلاً، فلم يشعر العراقيون بأي قيمة لجريانه، فهم لا يسابقون أحداً والنظام لم يطلب منهم سوى البقاء على ما هم عليه، والتقدم في أي اتجاه كان من الممكن أن يشكل خطراً عليه. وإضافة إلى أن العراقيين عاشوا في ظل نظام عسكري وأمني، شهدوا في العقدين الفائتين نقلاً حثيثاً لأخلاق البادية وقيمها إلى مدنهم خصوصاً إلى بغداد. ففي المدن يغالب عادة البدو عاداتهم وتظهر أزياؤهم غريبة وطارئة، أما في بغداد وتحديداً في العقدين الفائتين فقد أعيد بعث العشيرة والقبيلة في المدينة، وصار مشهد شيوخ العشائر ومقلديهم وأتباعهم في الفنادق الفخمة وفي شوارع النخب أمراً عادياً، لا بل إن تعمد ارتداء الزي العشائري صار أمراً شائعاً من قبل أناس كانوا تخلوا عنه. وفي أحد الأشرطة المصورة التي توزع اليوم في بغداد للحفلات التي كان يقيمها عدي صدام حسين يظهر رجال بزي عشائري يراقصون نساء حديثات الأثواب وقصيراته، على وقع موسيقى غربية. كثيرون هم المشايخ الذين قصدنا منازلهم في الثورة لنلقى أجوبة من نوع أنهم ذهبوا إلى فندق "شيراتون" مثلاً لعقد اجتماع مع شيوخ عشائر أخرى. وحين تقصد سياسياً من المحتمل جداً أن يقول لك إن مشايخ عشائر الثورة سيزورونه غداً. البعث ليس المشهد الوحيد، فالعشائر ملأت دنيا الثورة بعلاماتها وشعائرها. أسهم رسمت على الجدران لتدلك إلى منازل الشيوخ، وعدم الاكتراث في حال أمكن ذلك لأي التزام مدني. أما العلامة المتواصلة على الجدران والأبنية والتي استجدت بعد سقوط النظام، فهي تلك اللافتات السود التي نعى فيها مواطنو الثورة أقاربهم الذين أعدمهم النظام، إذ يبدو أن الناس في حينها لم يكونوا يجرؤون على إعلان إعدام ابنهم، وحين كان يصلهم نبأه عبر مختار المحلة، كانوا يقيمون الشعائر سراً، ويبكونه داخل منازلهم من دون أن يحدثوا ضجيجاً كما يقول رحيم الذي أعدم شقيقه. ويعتقد رحيم أن أمه توفيت لأنها لم تتمكن من البكاء على ابنها. الناس في مدينة الثورة عادوا وأشهروا موت أبنائهم على لافتات سود غطت جزءاً يسيراً من الجدران، وأقامت العائلات مجالس عزاء وقدم معزون وبكت الأمهات بعد مرور سنوات على إعدام أبنائهن. الانتقال السهل من شارع الجودار في الثورة إلى شارع الفلاح إلى شارع "ثورة داخل"، يضاعف من شعورك أن المدينة لم تصمم لهذا النوع من السكن. كثافة سكانية كبيرة، تفصل بين كتلها مساحات لا بأس بها وتتصل عبر شوارع واسعة. أما السكان الخارجون من منازلهم إلى المساجد والأسواق وغيرها فيذهبون في الاتجاهات التي يقصدونها بجماعات كبيرة، إذ يمكنك ملاحظة مجموعة من أكثر من 20 شاباً مرتدين الدشاديش البيض في طريقهم إلى المسجد القريب، أو رجل بزي عشائري ووراءه نساء مرتديات العباءات السود، متجهين إلى السوق القريب، ويقوم الشيخ بمحادثة نسائه من دون أن يلتفت إليهن. الناس هنا في الثورة يتحدثون دائماً بلغة الشرع والفقه. جميعهم من دون استثناء ألفوا تلك العبارات التي تسمعها عادة من رجال الدين: الحوزة الدينية والأولياء والمعصومون والسادة الموسويون... وإلى ما هنالك من مفاتيح الجمل الشيعية. مسألة التقليد شائعة على نحو واسع في أحاديث الناس، وأن تكون مقلداً للصدر او للسيستاني مسألة ستُواجه بها أكثر من مرة في اليوم. وإذا كنت لبنانياً سيسألونك هل أنت من مقلدي السيد محمد حسين فضل الله الذي لا يعرفون عنه الكثير باستثناء أنه تصدى للمرجعية في السنوات الأخيرة. تديُن هؤلاء موروث كما عشائريتهم. والتشابه بين الأمرين يصل إلى حد التداخل، فيقول ابن شيخ التمائم في الثورة "نحن نقلد السيد الشهيد الثاني، معظم أفراد عشيرتنا يقلدونه". وتشكل مسألة المرجعية والتقليد عمق الشخصية المتوسطة لابن الثورة ولشيعة العراق عموماً. فموظف الفندق رحيم وهو من أبناء مدينة الثورة، شاب حليق وملتزم دائماً بالقيافة التي تفرضها عليه وظيفته، يقول إنه واشقاءه يقلدون السيد السيستاني، ومقلدو السيستاني أقلية في الثورة، ومُحاربون من قبل مقلدي الصدر، وتقليد رحيم للسيستاني لم يمنعه على رغم الفتوى التي أطلقها هذا الأخير من طرد مدير الفندق البعثي وصديق عدي كما يصفه، ويقول: "كان يعاملني معاملة سيئة لأنني من الثورة". وكمعظم أبناء الثورة قدم أهل رحيم من منطقة العمارة في جنوبالعراق وهو من أبناء عشيرة الدراجي التي نزح آلاف من أبنائها إلى الثورة وأقاموا فيها حمائلهم التي يبلغ عدها نحو عشر حمائل لكل حمولة شيخ مرتبط بفخذ وبشيخ العشيرة العام. ويشرح شيخ الدفافعة في الثورة التقسيمات العشائرية فيقول إن الوحدة الأوسع هي القبيلة أو الأمارة ثم تليها العشيرة ثم الفخذ ثم البيت ثم الحولة أو الشبة. وفي بعض مناطق الجنوب تسبق الحمولة البيت في الترتيب. ويضيف أنه اختير رئيساً لحمولته لأنه الابن الأكبر للأب الأكبر للجد الأكبر. ويتابع: "كنا جزءاً من فخذ دفافعي، ثم انفصلنا وأسسنا حمولتنا لأن عددنا صار كبيراً وبالتالي صارت مشكلاتنا كثيرة وتحتاج إلى تفرغ ومتابعة". وعن نوع الأعمال المناطة بشيخ العشيرة يقول "السنة الفائتة كانت سنة كساد، وهذه السنة شغلتنا قضية دهس سيارة يقودها واحد من أبناء عشيرة عمارية لابن لنا هنا في الثورة وقتله له. اختلفنا مع شيخ عشيرتنا العام حول هذه المسألة. فالسائق سجن في حينها لكن عشيرته لم تقم بواجباتها كاملة حيالنا. جاء شيخ حمولته مع وفد وقدم واجب العزاء، لكن شيخ العشيرة العام لم يعز شيخ عشيرتنا العام. شيخنا طلب منا القيام بغزوة صغيرة لتأديبهم، والغزوة الصغيرة لا تهدف إلى قتل احد منهم بقدر ما تهدف إلى تسجيل احتجاج وإصابة أفراد من العشيرة الأخرى إصابات غير قاتلة". في السنوات العشر الأخيرة أفسح النظام العراقي للعشائر بأن تقيم شرائعها من دون تقييد كبير. صارت قيم العشيرة أحد أبرز منظومات قيم النظام. صدام حسين في استقباله للشيوخ وفي إطلاقه عليهم تلك الألقاب والمعاني حوّل هؤلاء إلى مراكز قوة حقيقية ولكن تحت عباءة النظام. أعيد العمل خلال هذه السنوات بعدد من السنن الحسبية العشائرية. أعيد العمل في شكل محدود بموضوع الزوجة الوصلية. إذ على أهالي القاتل أن يقدموا ابنتهم إلى أهالي القتيل كزوجة لأحد أفراد عائلة المقتول. والمرأة الوصلية تصل إلى منزل زوجها بعباءتها ولا يسجل لها مهر أو أي حقوق. ويقول شيخ الدفافعة إن إعطاء عائلة المقتول زوجة من قبل عائلة القاتل يهدف إلى أمرين، أولاً إلى وهب حقلٍ للإنجاب لتعويض الخسارة اللاحقة بالعشيرة، وثانياً إلى التقارب النسبي والرحمي بين عائلة القاتل وعائلة المقتول فيؤدي ذلك إلى إنهاء الضغائن. وعشائر الثورة راحت تتحايل على موضوع الوصلية، بأن تهب كلامياً طفلة صغيرة لعائلة المقتول على أن تتسلمها حين تكبر وهذا الوقت كفيل بإطفاء "نار الصدور". لم تقم العشائر الجنوبية في مدينة الثورة في قطاعات واحدة. فينتشر ابناء العشيرة الواحدة في كل أنحاء الثورة، لكن ذلك بالطبع لم يؤد إلى وهن في العلاقات بين أبناء العشيرة. الروابط أقوى من أن تصاب بتوزع السكن وانفكاك الاتصال المكاني، وهو وإن أضعف في أحيان قليلة من الاتصال العشيري، فواقعة صغيرة كفيلة بإعادة بعثه وتمتينه. ففي منزل شيخ عشيرة التميم في الثورة كانت رائحة نوم الرجال في الساعة الخامسة بعد الظهر منبعثة بقوة في أنحاء غرفة الاستقبال. والرجال النائمون لم يكونوا أبناء الشيخ لوحدهم بل ضيوفهم القادمون لزيارتهم من مدينة العمارة في الجنوب، أما الشيخ فكان بدوره قد ذهب إلى الجنوب ليتابع مشكلة عشائرية وليستأنس برأي شيخ العشيرة العام. الرجال النائمون في غرفة الاستقبال في منزل شيخ التمائم هبوا هبة الرجل الواحد لاستقبال الوافدين الغرباء. الحرارة داخل الغرفة الواطئة والقليلة الأثاث أقل وطأة من الحرارة في الخارج، ولكن تسرب الهواء الساخن واستقراره في الغرفة على مدى النهار كله حول الحرارة إلى شيء ثقيل زاد منه اختمار المادة الهوائية واختلاطها بأجسام الرجال النائمين. الرائحة التي يؤلفها هذا المزيج تدفعك للشعور بأنها المادة التي تتألف منها مسكة العشيرة. حاسة الشم هنا تساعدك على تحسسٍ غير منطقي للمادة العشائرية. أبناء الشيخ وأقرباؤهم البعيدون يضمهم عالم غرفة الاستقبال من دون أن تشعر بذلك التنافر الذي يمكن بسهولة ملاحظته عادة بين أهل المنزل وضيوفهم الغرباء. لا يبدو على منازل شيوخ الحمائل والأفخاذ في الثورة أثر يذكر لعلو اجتماعي. حتى غرف الاستقبال التي من المفترض أن يستقبل هؤلاء الشيوخ زائريهم الكثر فيها تبدو قليلة الأثاث ومرتجلته. مقاعد قليلة خشبية وضعت فوقها طبقة من القماش الرث، وغالباً ما تتصل غرفة الاستقبال بباب جانبي يؤدي إلى المطبخ الذي تصل منه وجبات العصير المصنوع من المواد المجففة والثلج الذي يشتريه السكان من مصانع الثلج المنتشرة في كل العراق، ثم أقداح الشاي الحالك والشديد الحلاوة. أرض المنازل متشققة في الغالب والبلاط لا يغطي كل المساحة، فالشيوخ يبددون عائدات مشيختهم في الولائم والهبات التي تشترطها المشيخة. سيكون لمثلث العلاقة بين النظام العراقي والعشائر والحوزة الدينية، خصوصاً محمد صادق الصدر، دور كبير في مستقبل كل منهم، فالنظام سقط بعدما قضى عشر سنواته الأخيرة في حمى العشائر، مقلباً في أدوارها ووظائفها، ومقدماً عشيرة على أخرى، ومبدداً الأموال على شيوخها. أما العشائر فيتمت أفخاذ منها وصعدت أخرى. وفي مدينة الثورة تحديداً أعادت عشائر كثيرة وفقاً لعلاقتها إما بالنظام أو بحوزة محمد صادق الصدر، النظر بعلاقاتها وتحالفاتها. ضلع المثلث الأخير أي الصدر الثاني دفع حياته وحياة ابنيه على مذبح هذه العلاقة، تاركاً لابنه الثالث مقتدى قاعدة ولاء كبيرة، مركزها الرئيسي مدينة الثورة، كما ترك له طلاباً موالين يفوقون مقتدى خبرة وحنكة، ويحاولون اليوم إيجاد صيغة تنظم هذا الإرث الواسع وتجعل منه قوة سياسية هادفة، ويترافق ذلك مع خلافات شديدة تعصف بتيار الصدر وانشقاقات يقودها مشايخ ووساطات يقوم بها مكتب المرجع السيد كاظم الحائري الذي كان الصدر الثاني أوصى مقلديه باتباعه. غداً: صدام والصدر يتنافسان على عشائر الثورة.