المشاهد والحكايات التي تحف بالرحلة من عمان الى بغداد تتفاوت من رحلة الى أخرى. لكن الثابت فيها حكايات السائقين عن عمليات السلب، فيبدأ السائق بإشعارك بها فور انطلاق السيارة من أمام الفندق في عمان. الحكايات نفسها التي يرددها السائقون ويذهبون بها الى حدود الخيال. ولكنه خيال مستمد من الطبيعة الصحراوية للمنطقة، ومستمد أيضاً من التركيب العشائري لسكان البادية الغربية للعراق. وقائع "التسليب" بعضها او كثيرها صحيح، ولكنك حيال روايات سائقي خط عمانبغداد أمام حبكة مختلفة للرواية، خصوصاً اذا كان طموح السائق يمتد ليصل الى رغبته في مضاعفة الأجر، وهو امر اختلق السائقون له ذرائع مختلفة، لكنك من دون شك ستشعر بأن في حكاياتهم عن الصحراء والعشائر و"السليبة"، شيء من خيال يمت الى عالم الصحراء بصلة أكيدة. فعندما يتحدثون عن التهريب والمهربين على جهتي الحدود يشعرونك بأن المهربين قوة جبارة لا يمكن لأحد الا ان يستسلم لها. التهريب كما يقولون نظام عيش وتبادل أبدي هنا، ولا يمكن للأميركيين الوقوف في وجهه، ونظام التهريب هذا يشمل السلع والبشر. فكميات النفط التي يدخلها عراقيون عبر الحدود مع دول غرب العراق يمكن أن تقايض بسلع أو بمجاهدين، كما يسميهم أبناء محافظة الأنبار الحدودية. ثمة أشياء لا يمكن تفسيرها في تلك المنطقة الحدودية، الا اذا تمت الاستعانة بمخيلات سائقي السيارات العمومية بين عمانوبغداد، فالمنطقة الحدودية هذه طالما أشار اليها المسؤولون الاميركيون بوصفها النافذة التي يتسلل منها مقاتلون من سورية ومن الأردن لينضموا الى المجموعات التي تنفذ عمليات عسكرية ضد الأميركيين، ومنها يمكنهم الوصول الى الحاضنات الاجتماعية لهذه المجموعات، وتحديداً مدن المثلث السني أي الفلوجة والرمادي وعانة.، وكلها في محافظة الأنبار. لكن عابر الحدود يشعر أن هذا لا أحد يبذل جهداً فعلياً لايقاف ما يؤكد الاميركيون انه يحصل يومياً. الحدود رخوة الى حد يمكن لعابر غريب أن يلاحظ حركة تهريب السلع على الأقل. أما الاجراءات الادارية والأمنية، فتعتمد الى حد كبير على حسن نوايا العابرين. الاميركيون أخلوا نقطة الحدود العراقية الى الشرطة العراقية، ولا يبدو أنهم موجودون في المساحة المرئية من الحدود. أما العراقيون فقد استحدثوا اجراء جديداً على العابرين الى العراق انجازه، وهو فحص الايدز الذي يباشر السائق من عمان التمهيد لركاب سيارته بأنه يمكنه اعفاءهم منه اذا رغبوا، ولكن عليهم اضافة بعض الاكراميات الى التعرفة التي يتقاضاها السائق. قد يكون الأمر كله مختلفاً، فنحن الذين قبلنا اعفاءنا من الفحص لم نلاحظ ان السائق قام بأي خطوة أو تفاوض مع احد لإعفائنا من الفحص. لكن لا بأس فهذه اخلاق الطريق وثقافتها وعلينا القبول بها، خصوصاًَ اننا في هذه المناطق الحدودية حيث الجميع مسرع، والاختام تدمغ على جوازات السفر ببطء وتثاقل، والمنشآت الحدودية الخربة والمدمرة تبعث على الكآبة والضيق، فهي في الجانب الأردني فقيرة ومتآكلة، وفي الجانب العراقي مقفرة وموحشة. وفي الجانب العراقي من هذه الحدود أمر آخر يلح عليك بالاستعجال. انه مخيم لاجئين فلسطينيين هربوا من بغداد غداة الحرب. ومنعوا من الدخول الى الأردن، فنصبت لهم خيام عند الحدود تماماً. وأُضيف اليهم اعداد من العمال السودانيين والباكستانيين الذين لجأوا الى المنطقة في تلك الفترة، وهؤلاء جميعهم ما زالوا الى اليوم يقيمون في خيم عند الحدود الأردنية - العراقية، وما زالوا ممنوعين من العودة الى بغداد أو من الدخول الى الأردن. امضوا الصيف الحار والقاتل في هذه الصحراء وينتظرون الشتاء الذي لا يقل قساوة في تلك الخيم الهشة، وكي يضمن حراس الحدود من الجانبين عدم تسلل أي من هؤلاء، قاموا بتزنير المخيم بأسلاك معدنية شوكية محكمة. فحولوه بذلك الى معتقل فعلي، ولكنه معتقل يضم اخلاطاً من أطفال ونساء ورجال. ويضم ايضاً جنسيات مختلفة. الكيلومترات القليلة التي تعقب الحدود الأردنية - العراقية من جهة العراق مزدحمة بالسيارات الأردنية، الأميركية الصنع، تلك التي استبدل أصحابها خزانات وقودها بأخرى كبيرة تمكنهم من تعبئة كميات كبيرة من البنزين العراقي المنخفض الثمن ونقله الى الأردن حيث يبيعونه بأسعار مضاعفة. ويقول الشيخ خالد، وهو من منطقة الرطبة ويملك محطة وقود على هذه الطريق، أن العراقيين يسمون أصحاب هذه السيارات التي تعبر الحدود مرتين في اليوم الواحد "البحارة" ونقل البنزين هو عملهم الوحيد. والشيخ خالد، بالاضافة الى عمله في بيع الوقود للسيارات، يعمل اماماً لجامع في الرطبة. ويقول ان محطته لبيع الوقود "هي المحطة الأهلية الوحيدة، أما باقي المحطات فهي للدولة، وبعد سقوط النظام العراقي استولى عليها عملاء لأميركا من أبناء المنطقة بالتنسيق مع الضابط الأميركي المسؤول عن منطقة الرطبة". وكلام الشيخ خالد الرطبي الواقف أمام محطته الواقعة على الطرف الغربي لمحافظة الأنبار التي يشهر أهلها عداءهم العلني للوجود الأميركي، لا يعترف، كما يقول، بالحكومة المنبثقة من مجلس الحكم الموقت. ما أن تبدأ السيارة بالتوغل في العراق حتى تفقد المسافات أي معنى، فمئات الكيلومترات التي تفصلنا عن بغداد لا يُبدل اجتياز معظمها المشهد: صحراء متمادية، وفواصل معدنية تفصل اتجاهي المرور وعلى بعد مئات قليلة من الأمتار باتجاه الصحراء آلاف الأعمدة الكهربائية التي قام سارقو الأسلاك بلويها، فأضفت على مشهد الصحراء ملمحاً معدنياً قاسياً وصلباً. وقبل الوصول الى بغداد بنحو مئة كيلومتر، تبدأ الطبيعة بالتبدل فتظهر أولاً قرى صغيرة ورملية، ثم يبدأ النخيل وما يتخلل غاباته من نبات أخضر، ويرتفع الطريق السريع قليلاً، فتظهر مدينة الرمادي واسعة وفقيرة ومنتشرة ثم تعقبها الفلوجة الأصغر منها، ولكن الأشد منها اكتظاظاً وعداء للأميركيين. وفي المنطقة بين الرمادي والفلوجة يعود السائق ليذكرنا بأنها المنطقة التي يخرج منها قطاع الطرق و"السليبة" فيطاردون المتوجهين الى بغداد.