حين يخاطب الرئيس جورج بوش اليوم الاميركيين وكل الشعوب، عشية الذكرى الأولى لانتصاره على نظام الرئيس المخلوع صدام حسين، سيكرر تلك المعزوفة المملة، بمقدار ما هي مخادعة: العالم، كأميركا"بات أكثر أمناً". ولن يسمع بوش بالطبع الملايين في أوروبا الذين سيجددون غداً، في يوم المسيرات المناهضة للحرب، اتهامه بالكذب والنفاق والدجل. وهناك من سيحصي كم مدينة في العالم باتت على لائحة الأهداف المرشحة لضربات من نوع 11 ايلول سبتمبر مصغر، ولن يصغي"حاكم العالم"من البيت الأبيض الى مئتي عائلة اسبانية فقدت أقارب في 11 آذار مارس الدموي"ثمناً للحرية"! على خطى بوش، يتدخل الجمهوريون في الولاياتالمتحدة في خيار الناخبين الاسبان الذين أطاحوا حكومة اثنار... لادانتهم! لاتهامهم بالجبن أمام الارهاب، وليس موقف أولئك الجمهوريين سوى صدى لمحاولات الادارة الاميركية فرض مشاريعها وطروحاتها، على الأصدقاء والحلفاء، بمن فيهم الأوروبيون. من منظار"أناني"قد يقول بعض الاسبان - كما اختاروا في الانتخابات - ان وجوداً عسكرياً في العراق، ضمن صفوف"التحالف"الاميركي - البريطاني لإعادة الحرية الى هذا البلد، لا يستحق مئتي قتيل اسباني. ومن منظار انتخابي محض، يواصل المرشح للرئاسة الاميركية جون كيري وفريقه، مهمة توعية مواطنيه الى"الخطأ التاريخي"الذي أوقع فيه بوش الولاياتالمتحدة بغزوه العراق، لا لشيء سوى إرضاء نزوعه الى العجرفة. أما رئىس الوزراء البريطاني توني بلير الذي ما زال لديه حيز من الوقت ليحاول تفادي تكرار"مأساة"حكومة اثنار في المملكة المتحدة قبل الانتخابات، فلم يخطئ حين رد على الذين يتهمونه بالسذاجة وتفضيل سياسة الذَنَب مع واشنطن، ليقرر ان موجة الارهاب لن تنحسر ولو انسحب"التحالف"من العراق. لكن ما يصر بلير على ادعاء الجهل به، كحليفه"الشقيق الأكبر"في الولاياتالمتحدة، هو ان موجات الارهاب المتتالية ما كانت لتتواصل بهذه الوتيرة ربما لو لم تتخذ من احتلال العراق ذريعة، لا سيما بعد انكشاف فضائح الأكاذيب التي وفرت لمرحلة شرعية مزيفة للغزو، بحجة تخليص المنطقة والعالم من اسلحة فتاكة. الآن، بعد سنة على وضع العلم الاميركي على رأس تمثال صدام في ساحة الفردوس، يحق للعراقيين، قبل الإسبان، ان يتساءلوا هل ما وعد به الاحتلال في فردوس الديموقراطية المحروسة بدبابات"التحالف"، يستحق الثمن الذي دفعوه، بل الأهم ان يتساءلوا عن المسافة الباقية بينهم وبين سيادة كاملة ونظام حر تحاصره التفجيرات، كأن مصيرهم محكوم لسنوات طويلة مقبلة بمطرقة الارهاب... وسيف الاحتلال الحارس! ألم يعترف الأميركيون بأن ابقاء مئة ألف من جنودهم شأن حتمي، حتى بعد نقل السيادة الى حكومة انتقالية؟ بعد سنة على الغزو، صدام سجين في قبضة الأميركيين، لكن أحداً من العراقيين لا يستطيع ان يفاخر بما انجز تحت مظلة الاحتلال، أو ان يدعي"معجزات"جاهزة لتخليص البلد من تلك المطرقة وذاك السيف، ومعهما كابوس شرارات الحرب الأهلية، بل الحروب العرقية والمذهبية، والتي كان"التحالف"ذاته أول من صنعها بالترويج لها. ان أحداً من العراقيين، خصوصاً اعضاء مجلس الحكم، لا يستطيع تحديد تلك المسافة"الذهبية"الباقية حتى موعد تحرير السيادة، ولو اجريت انتخابات وشكلت حكومة، لأن أحداً لن يكتشف علاجاً للتفجيرات الجوالة والاغتيالات التي تبرر برياح مذهبية - عرقية، ما دام جندي اجنبي على أرض العراق. وذروة الخداع ان يخاطب بوش أهل البلد بمزيد من الوعود والمنح: خذوا كل شيء بحرية وقواتنا باقية. بين ارهاب واحتلال، ما بين النهرين، وعواصف ارهاب تتمدد من ضفتي الاطلسي في كل الاتجاهات، يجذّر الرئيس الاميركي مزيداً من الكراهية للولايات المتحدة، لأنه اختار منذ 11 ايلول أفضل الطرق لكسب مزيد من الأعداء حول العالم: الرد على العنف بالقوة والغطرسة، ومعالجة الارهاب بالترهيب، كما في تسويق"الشرق الأوسط الكبير". وأول ضحايا الترهيب للترويض كانوا الأوروبيون انفسهم الذين ادركوا منذ ما قبل غزو العراق حجم"الخطأ"الكارثة، لكنهم كذبوا ايضاً حتى وصلت آلة العنف الى جيرانهم. إطاحة صدام تستحق الكثير، إلا ما فعله الاميركيون والارهاب منذ سقوط بغداد.