بعد خمسين سنة اين نكون؟ وأين يكون هذا العالم الصاخب العنيف؟ على احدنا ان يكف عن القراءة لحظة، ويشرد بعيداً في المخيلة. القراءة وحدها لا تكفي. تتلاشى الكلمات بعد عبور العين. تدخل متاهة مظلمة نسميها تلافيف الدماغ. تستقر ردحاً في مادة رمادية غامضة وجدها كولريدج "لغزاً". ثم تضيع كما يضيع الكائن ذاته. المخيلة وحدها قارب النجاة. نكف عن القراءة إذاً. ونسرح كالكواكب السارحة في الفضاء. نتذكر حياتنا. وما جرى لنا. ونحاول ان نتخيل دروباً تسلكها الحياة من هنا الى... المستقبل. نحيا الآن في ربيع 2003. اين نكون في ربيع 2053؟ او في ربيع 2033؟ كيف يكون شكل العالم عندئذ؟ اطلس الخرائط هل اختلف؟ نفتح بعد 30 او 50 سنة كتاباً جديداً، مؤلفاً تاريخياً او رواية او نصاً سياسياً، ونقرأ. نقرأ عن احداث تاريخية وقعت في اليابان عام 2012، او في نيويورك عام 2019، او في باريس عام 2029. ننظر الى خريطة الشرق الأوسط، وننظر الى خريطة اوروبا. ماذا تغير في 50 سنة؟ نقرأ عن اميركا. اين تكون الجزيرة الأميركية بعد 50 عاماً من هذا اليوم الربيعي العادي من عام 2003؟ في هذا اليوم الربيعي العادي من عام 2003 لا تعبر ساعة، في الشرق او الغرب، إلا ونسمع هذه الكلمة: اميركا. اميركا، اميركا، اميركا. سيطرت اميركا على واقع الكوكب. لكن اهم من هذا: سيطرت على مخيلتنا. بعد 11 ايلول سبتمبر 2001، وسقوط البرجين الخيالي ام ان ذلك حدث في الواقع ايضاً؟، شنت اميركا حربين خاطفتين، وانتصرت للوهلة الأولى مرتين، انتصاراً يثير اسئلة لا تحصى. هل بات العالم محكوماً بسيطرة قوة عسكرية واحدة متفوقة؟ إذا كانت اوروبا عاجزة عن شن الحروب، مسترخية في كسلها ورخائها كما يرى روبرت كاغان، فهل يُترك الميدان لأميركا وحدها؟ وإلى متى تستمر هذه الأحادية؟ لا يعرف التاريخ قراراً. لا ينتهي ابداً. طغيان اللحظة الحاضرة يمنع احدنا من ابصار الآتي المختلف. المستقبل ليس الحاضر ليس الماضي. يدرك هذا فلاسفة سبقوا سقراط، تجولوا في شوارع اثينا القديمة، ونظروا الى الشمس تغيب برتقالية متوهجة في الأدرياتيكي. يدرك هذا مغامر ينتسب الى هؤلاء الفلاسفة، ذهب في حرب مرعبة، ثم قضى سنوات تائهاً بين جزر ايجه يبحث عن ايتاكا وعن بيت وعن زوجة اضاعها عابراً نهر الوقت الذي لا احد يدعس فيه مرتين. يعبرنا الوقت مثل عاصفة. بينما نحيا عاصفة اللحظة الحاضرة، تملك غريزة بدائية وعينا. فننسى من اين أتينا. وننسى الى اي مستقبل مجهول نحن ذاهبون. المستقبل ليس الحاضر. إذا كان هذا الربيع مظلماً فليس كل ربيع آت مثل هذا الربيع. اذا كان هذا الربيع صافي الجو حلو السماء فليس كل ربيع آتٍ مثل هذا الربيع. الحاضر كان المستقبل. في القرن التاسع عشر بدت الامبراطورية البريطانية سيدة العالم. ملكت البحار واليابسة. بعد اغتصاب الهند ومصر 1882، بعد افلاس السلطنة العثمانية، بعد حروب نابليون المحطمة، بدت لندن عاصمة العالم. لكن المدن، كالجسور، لا تحفظ الى الأبد مركزاً ثابتاً. كتب ت.س. إليوت في "الأرض اليباب" ان الجسور والمدن تتساقط. بابل، الاسكندرية، لندن... نيويورك ايضاً. لم يكتب عن كابول. لم يكتب عن بغداد. عاش قبل ايامنا. القرن التاسع عشر شكّل ذاكرته. مثل كبلنغ وصف إليوت شخصيات بريطانية، لكنه بعكس كبلنغ لم يرسخ الشخصية البريطانية في زمن الصعود بل في زمن الانهيار. يكتب إليوت عن "رجال جوفٍ"، عن كائن يعرف انه سيصبح عجوزاً ويرتدي بنطلونه مطوي الساقين. كبلنغ يكتب عن موظف حكومي صاحب سلطة يحيا كالملك في بومباي البعيدة. لكن هذا لا يمنعه من رؤية الجانب الآخر المظلم. في "بوابة المئة تنهيدة" يكتب احدى اهدأ القصص القصيرة في تاريخ الأدب الإنكليزي: حكاية حانة مدخني أفيون فقدوا كل شيء في هذا العالم الواقعي، فغادروه بكل احزانهم على سجاجيد مطرزة الى ارض خيالٍ وسراب. مثل كبلنغ رأى كولريدج قصر قوبلاي خان في الخيال. مثل كولريدج استعان دي كوينسي بالأفيون كي يخط اعترافاته وكوابيسه. هل استطاعا ان يبصرا المستقبل وتصدع الامبراطورية؟ ايمانويل والرستاين يكتب في "نظام العالم الحديث" 1974، 1981 ان انحدار بريطانيا بدأ في زمن هيمنتها العارمة. في القرن التاسع عشر. الحرب الأهلية الأميركية التي بدأت سنة 1860 في تلك السنة ايضاً احترق الجبل اللبناني، وارتفع صراخ في دمشق انتهت الى نتيجتين: اتحد الشمال والجنوب، وكتب ستيفان كراين 1871 - 1900 روايته اليتيمة. في 1870 بدأت ألمانيا سيرة جديدة. والرستاين يرى الى تلك الحقبة الطويلة من 1870 الى 1945 كحقبة صراع بين ألمانيا وأميركا على وراثة بريطانيا. حقبة حاسمة شهدت حربين كونيتين وانتهت بانتصار الجزيرة الأميركية. حاضر 1945 كان المستقبل الذي ابصره ألماني غير عادي في مطلع القرن التاسع عشر، حين كتب في احدى محاضراته في فلسفة التاريخ العالمي: "اميركا اذاً هي ارض المستقبل. وسيتكشف في العصور المقبلة شأنها التاريخي وربما كان ذلك على شكل نزاع بين اميركا الشمالية وأميركا الجنوبية. إنها بلاد الأحلام لكل اولئك الذين ملّوا وضجروا من المتحف التاريخي في اوروبا القديمة...إن ما يحدث هنا الآن ليس إلا صدى للعالم القديم او انعكاساً للحياة الغريبة عنها. كما ان اميركا بصفتها ارض المستقبل لا تهمنا هنا، ان اميركا لا تهمنا إلا بمقدار ما هي بلد المستقبل، ذلك ان الفيلسوف لا يقوم بالتنبؤات". هذا النص الموضوع اصلاً بالألمانية ترجمه الى العربية احمد حسان عبدالواحد سنة 1987 عن ترجمة اسبانية وسيطة. والرستاين لا يذكر هذا النص ولا يبلغ خلاصته من دراسات في الفلسفة. إمام عبدالفتاح وضع سنة 1981 ترجمة اخرى للنص الألماني المذكور: "اميركا بصفتها ارض المستقبل لا تهمنا هنا لأن اهتمامنا لا بد من ان ينصب - بالنسبة الى التاريخ - على ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر. اما بالنسبة الى الفلسفة فإن ما يشغلها ليس هو الماضي ولا المستقبل ان شئنا الدقة وإنما هو الحاضر، اعني ما هو موجود وما له وجود ابدي: وهو العقل. وهذا كاف جداً ليشغل اهتمامنا". الفيلسوف صاحب النص رحل عن هذا العالم سنة 1831. تلك السنة فتح ابراهيم باشا المصري سورية. فأطلق عملية انفصالها التدريجي عن الامبراطورية العثمانية، كما اطلق عملية تباعد اقتصادي بين هذه المنطقة وبين العراق المجاور، وهو تباعد سيتكرس في شكله النهائي بعد الحرب العالمية الأولى. مات الفيلسوف في ذلك الزمن البعيد عن 61 عاماً، وهو يرى مستقبلاً بدا لأقرانه غير مألوف. رأى ايضاً "نهاية التاريخ" في زمنٍ آت. اعتقد ان العقل يحرك رؤيته ويحرك تاريخ العالم. كان يُدعى فريدريك هيغل، واستطاع بنظرياته التي سيطرت على جامعات اوروبا في القرن التاسع عشر ان يصنع عدواً ثاقب الخيال اسمه آرثر شوبنهاور 1788- 1860. نظر شوبنهاور الى فلسفة هيغل فرآها فاسدة. العقل لا يحرك التاريخ. هيغل يرى الأشياء مقبولة، قال ماركس. شوبنهاور لم يذهب الى حيث ذهب ماركس. المحرك الاقتصادي للتاريخ، صراع الطبقات الأبدي، ليس هاجس شوبنهاور. هاجسه تلك الإرادة المرعبة، ذلك الاندفاع شبه الأعمى للوحش الذي نسميه التاريخ. هل يملك الإنسان ان يفهم قوانين هذه الحركة الكونية؟ كل صخب الحياة البشرية وعنفها؟ خ.ل. بورخيس 1899 - 1986 كتب مرة تلو مرة ان شوبنهاور هو فيلسوفه المفضل. إنه الفيلسوف الوحيد الذي امتلك ربما ان يقول "السر" بكلمات مفهومة. ان يلفظ مقاطع من اللغز الهائل الذي هو العالم، مقاطع تشرح هذا اللغز. ان نُحول مشهد العالم الى كلمات. أليس هذا نصف الطريق الى فهمه؟ لا يكتب شوبنهاور عن تغيير العالم. شوبنهاور ليس ماركس. ربما نرى في فلسفته عن الفن صورة التغيير الوحيدة الممكنة. ينعكس العالم صافياً في روح الفنان كأنه ينعكس في مرآة مصقولة. وحده المبدع يملك مخيلة تُعطيه ان يرى الى العالم لا كما صنعته الطبيعة بالفعل ولكن كما ارادت ان تصنعه ولم تستطع ذلك. يرى شوبنهاور خلاص الإنسان في المخيلة. يُبعد عقد هيغل جانباً. لكن كلمات هيغل تبقى. كتب هيغل في مطلع القرن التاسع عشر ان اميركا هي ارض المستقبل. نحيا الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين، ونعلم ان اميركا هي ارض الحاضر. هل نعلم ما هو مستقبل الجزيرة الأميركية؟