قبل نحو 23 عاماً، في 28 تشرين الأول اكتوبر 1980، عندما مست قدماي بعد انتصاف الليل سلم باب الباص المغادر من محطة سيارات النقل في منطقة الصالحية ببغداد، باتجاه اسطنبول، فكرت سلفاً وبمرارة: كيف ستكون العودة، إذا ما حدث وعدت، الى المكان ذاته؟ واذا ما امتلكت بعض الشك في تلك اللحظة، بأن من الممكن أن تكون رحلتي قصيرة، بسبب التباس الأوراق التي في حوزتي كان السبب تزويري لدفتر الخدمة العسكرية، وبعد نجاحي بتضليل رجال خفر الحدود، عند جسر زاخو الذي يفصل بين كردستان العراق وكردستان تركيا، عرفت أنني أدرت ظهري إلى تلك البلاد التي عشت فيها 23 عاماً، وودعتها إلى الأبد. لأنني، حتى وإن عدت ذات يوم، لن أجد البلاد ذاتها التي تركتها في تلك الساعة. كنت أعرف بأنني لست أول منفي يعرف ذلك. منذ أن وُجدت الحضارات، ووُجد المنفى، منذ أن وُجدت الحدود، ووُجدت البلدان الغريبة، تُحدثنا الحكايات والقصص والأساطير، أن رجوع المنفيين إلى بلدانهم التي طُردوا منها، لن يكون إلا منفى جديداً، وأن طريق العودة لا يشبه طريق النفي. عودة المنفي تختلف عن عودة المهاجر طلباً للعمل، والذي انتهى عقد عمله، لأن من غادر البلاد مكرهاً، ومن أُقتلعت جذوره، سيصبح من الصعب عليه العثور على مكان جديد، يُلقي به جذور شجرة الحياة الكبيرة التي نمت بين يديه، في سنوات نفيه الطويلة. ليس من الغريب إذاً أن يشعر المنفي في طريق العودة، وللمرة الأولى، بأنه إنسان ينتمي للماضي، لأن الزمن توقف عند ساعة مغادرته، وبأن الوطن يقف أمام عينيه مثل وجه حبيب له، ظل معلباً عنده على الصورة التي رآه فيها للمرة الأخيرة، ولا يمكن له تخيل تغيره. ذلك ما يفسر أيضاً حجم الحنين الذي يستحوذ على المنفي وهو يعود للمكان الذي طُرد منه، يتفحص كل شيء: كل زاوية فيه، كل عطفة شارع، وكل واجهة بيت أو بناية، كل انحناءة شجرة، تذكره بالماضي، بما كان، وكلما بحث عبثاً عن بقايا قديمة، كلما رجع أكثر للطفولة. هكذا يتحول المنفي في أحيان كثيرة، إلى كائن غريب في المحيط، وسينظر له، حتى أهله، بعين أخرى، يتذمرون من بطره، تُدهشهم سذاجته، ولماذا يعتقد أن كل الأشياء ظلت على حالها، بأن الأصدقاء ما زالوا على طيبتهم هناك، وسيأخذونه بالأحضان، بعبث الطفولة، كأن الزمن توقف عندهم هو الآخر. وكأن الكل هناك، بقي على حاله، كما في الحلم. ويظل القادم يتحرك، يطالب الناس أن يكونوا بالصورة التي يريدها لهم، يتحاور معهم بحس الطفل، يحدثهم عن غربته التي طالت، ولن ينفع تحذير البعض له، من خطر ما يفعل، ويوصونه بأن يحتاط من اللصوص وقطاع الطرق، الذين يجدون فيه غنيمة دسمة. لكن عبثاً، المنفي العائد مخدر بروائح الحنين وبالنداءات القادمة من زمن الطفولة، يصر أن يتنفس هواءه الخاص، ولا يريد أن يصدق أنه محاط بهواء ملوث، بخراب وبدمار. ربما لن يصحو العائد من غفوته السحرية، إلا بعد أول شجار مع أهله، الذين يعيبون عليه براءته ويجدون فيه نزقاً طفولياً، أو حين يواجه أكاذيب هناك، يمارسها الناس مثل روتين يومي، أو على أبعد تقدير، عند انتهاء رحلة العودة التي تشبه الحلم، والعودة من جديد إلى البلد الذي يقيم فيه، والذي تحول إلى بلده "الثاني". فقط في مكان الإقامة، وبخاصة عندما يكون كاتباً ويجلس عند طاولة الكتابة، ويشرع بترتيب أفكاره، يعرف المنفي من جديد، أنه مازال منفياً، وأنه لم يولد ليُربط بجذع شجرة، وأن الهواء الذي يحيطه لا يحمل ملامح وطنية، وأن وطنه هو اللغة التي يكتب فيها وحسب. أيضاً، يعرف بأنه لا يأتي بجديد، فهو مثلما بدأ رحلته قبل سنوات، يعود للنقطة الأولى، ولا يحمل معه غير العودة، ورثاء بلاد ضاعت، لكن ومن الجانب الآخر، عليه أن يكون فخوراً، في الحقيقة لإنعتاقه من كل سلطة، غير سلطة اللغة التي يكتب فيها. فهو ومنذ القدم، مثله مثل أسلافه، الذين لا يمكن حصرهم باسم أو مثال، وسلسلة الذين سبقوه في "امتياز" المنفى تضيع طريقها في مسافة زمنية بعيدة جديدة، يصعب قياسها أو حصرها بزمن معين. وأننا نراه في كل الأزمان، يمر كل مرة بالتجربة ذاتها: يُنفى ويعود، ثم يعود إلى منفاه. لا نعرف الكثير عن طريق عودته، فقط رحلة الذهاب. ولأنه كاتب، يعرف أن معنى إيتاكا يكمن أكثر في رحلة "يوليسيس" نفسها، وبالذات بالمعنى الذي أوحى لنا به كونستانتين كفافيس، عندما كتب: "رحلة جميلة، من دونها لن تكون عرفت الطريق، على رغم ذلك، ليس عليها أن تمنحك شيئاً". هل يتذكر أحد عودة أحد المنفيين؟ شخصياً لا تستحضرني قصة في هذه اللحظة. أعرف فقط قصص المنفى. إذن أنا مثلهم، مثل زملائي في كل الأزمان، أمامي فقط الرحلة - الطريق، المهم هو الطريق إلى البلاد التي تركتها ورائي، والتي أحاول الآن الكتابة عنها بعين المسافر الحيادية، والتي أرغب بتحريرها من كل عبء، إذ ليس عليها أن تمنحني شيئاً. يكفيها الخراب الذي عاشته، والذي رأيته في كل مكان، منذ أن وصلت بغداد وطفت في مدن الجنوب، الخراب الذي رأيته في هيئات وملامح سكانها الذين خرجوا للتو من حريق سادوم وعامورة، وبدوا مثل طائر الفينيق، يحاولون السير بقدمين جديدتين، يرتبون أوضاعهم من جديد، وبخاصة أولئك الذين عرفوا أن "حرية هبطت عليهم من أعالي السماوات"، وأنهم مُنحوا فرصة فريدة من نوعها، عليهم الإمساك بها بأيديهم. "السماء فوقنا قبة زرقاء، الذاكرة خلفنا أعمدة من ملح، التهمها اللهب، تحترق سادوم، بيت أبينا المحبوب". أردد، أنا المنفي الذي يعود بعد 23 عاماً، والذي يشعر بأن الجموع المخربة التي يمر بها وتمر به تردد معه النشيد ذاته. فقط بهذه الطريقة أمنح نفسي العزاء، مهما كانت رحلة العودة خائبة. فقط بهذا الشكل، أستطيع تحويل طريق العودة المرسوم بالخراب إلى طريق جميل، مظلل بأشجار إيثاكا، وليس بالبيوت المبنية بشكل واحد، من الشمال حتى الجنوب: Double Value كما يطلق الناس على طراز بناء البيوت القادم من تكريت والذي غزا العراق كله، البيوت التي بُنيت بشكل كريه، وصُبغت كلها بلون واحد: اللون الكاكي، عكس البيوت القديمة الملونة للعراقيين، قبل مجيء حزب البعث وصدام حسين الذي جلب معه انحطاط "حضارة" العوجة. إذن عليّ أن أشارك الناس هناك، سكان "أرض الخراب"، فرحهم الذي يصنعونه بالقوة، لكي لا تتحول الرحلة إلى مجرد رحلة عودة لمكان قديم تركته منذ سنوات طويلة، وأماكن طفولة اختفت وبيت ما عاد هناك، وعائلة شاخت وهي تنتظر رجوع ابنها كل هذه السنوات، وأصدقاء ذهبوا وآخرون ما زالوا هناك مصرين على الحياة، يعيشون على حلم أكيد، ولكي لا تتحول البلاد إلى أطلال وخرائب ذكرى تصلح للشكوى. ها أنا أعرف أنني منذ اليوم أستطيع أن أزور هذه البلاد بحرية وأكتب عنها بحرية، أن أحبها بحرية واكرهها بحرية، مثلما أعرف بأن عليّ أن أنسى تلك الصورة التي شكلتها عنها كل سنوات المنفى هذه. فأنا ومنذ أن غادرت العراق، وكلما جلست إلى طاولة الكتابة، وفي كل عمل كتبته، كنت أستحضر البلاد. وكان يختلط عندي، الوهم مع الواقع، الحقيقة مع الخيال، لكن شعوراً ثابتاً كان يستحوذ عليّ في كل ما كنت أفعله، بأنني لا أقوم بشيء غير استحضار صورتها، كما رأيتها وعشتها، أو كما حاولت تخيلها، لحظة الكتابة. لكنني ولأنني أعرف بأنني كاتب، وبأن معظم ما أكتبه يرتكز على الخيال، أعرف بأن كل ما ألحقه بالبلاد من صفات، يكتسب مغزى خاصاً، يقترب من الغموض في أغلب الأحيان، يجعلني أشك بكل ما أكتبه. فأبدأ بالشك بنفسي، لدرجة أنني أتساءل: هل حقاً، أنها البلاد ذاتها التي عشت فيها، والتي أصفها بهذه الصورة، أم أنني أمنحها الصورة التي يجب أن تكون عليها؟ وكلما شككت أكثر، كلما بدت البلاد مثل خريطة بيضاء بلا ملامح، بلا تضاريس، عليّ رسمها من جديد، وكأنها لم توجد من قبل، وأنني أنا الذي يشكلها حجراً على حجر، يجعل كل شارع فيها، كل بيت، كل زاوية خفية، تتنفس، يجلب حشداً مختلفاً من الناس، ويعطيهم في هذه اللعبة، أجساداً من لحم ودم، يفهم خرابهم وعذاباتهم، يفهم حاجتهم للحب، للإقامة وللهجرة، يمنحهم ملامح وهيئات خاصة بهم، ويزودهم في النهاية بالقدرة على النسيان، بالقدرة على الرحيل، لكي ينتقلوا ولو للحظات إلى قربه، في منفاه، في الأرض الغريبة، لكي يتعرفوا على بعضهم البعض ويتحاوروا من جديد. الآن أعرف، وبعد رحلة العودة الخائبة، بأنني وبكل ما كنت أفعله في تلك السنوات، كنت أشكل البلاد، وكل مرة من جديد، على هواي. كل هذه السنوات، وأنا أحمل البلاد تحت الإبط، لكي أجعلها تكتسب رئة أخرى، غير الرئة الوحيدة التالفة التي امتلكتها، أجعلها تتنفس هواء آخر غير الهواء العفن الذي كانت تبثه الديكتاتورية، هواء السجون والحروب والغازات السامة والأسلحة الكيمياوية. أعرف أن طريق العودة لا يشبه طريق المنفى. لكنني وخلال تجوالي عبر البلاد، حاولت وفي كل اللحظات، جلب البلاد إلي من جديد، البلاد التي ابتعدت عني كل هذه السنوات، البلاد التي كانت تعتقد، مثلما كنت أعتقد أنا أيضاً، بأننا من غير الممكن أن نلتقي من جديد، بأننا عاشقان ذهب كل واحد منا في طريقه: أنا الذي تحول له حلم العودة أشبه بالمستحيل، ليس لأن المكان الجديد بدأ يسحبني باتجاهه، وليس لأن المنفى تحول إلى روتين يومي، إنما لأن البلاد ذاتها، سحبت نفسها باتجاه آخر، رمت نفسها في حروب متتالية، وأقامت حولها جداراً عالياً، عزلها عن باقي البشرية، وجعل سكانها سجناء وحسب، غرباء عن العالم، جعلهم يتحولون إلى كائنات ممسوخة، تنظر للعالم بعين واحدة: عين الديكتاتور الذي حول البلاد إلى سجن ومقابر ومزابل ونفايات كيمياوية. وها أنا الآن، وبعد كل ما حصل لي وللبلاد هناك، أحاول أن أنسى، بأنني تجولت 23 يوماً، يوم لكل سنة مرت، في بلاد غريبة عني، وبأنني اكتفيت من رحلة العودة بالعودة فقط، أحاول أن ارسمها من جديد، حيث يختلط عندي ثانية الوهم مع الواقع، الحقيقة مع الخيال، وسأحاول، كما كنت أفعل دائماً، أن اقنع نفسي بأن البلاد ستتغير، بأن اصدق ما تريد أن تقنعني به، بأنها ستستأصل الورم السرطاني الأكبر، بقايا السفاح، وبأنها ستغسل كل أدران الماضي، وبأنها ما عادت سجناً ومقابر ومزابل ومستودعات أسلحة كيمياوية وأسلحة دمار شامل، بأنها ما عادت مختبراً للتعذيب وللقتل وإبادة كل ما له علاقة بالحياة، بأنها الآن بلاد حرة، تتنفس هواء نقياً، ويكفي أن أنظر إلى بريق عيون بناتها وشبابها، أن أنظر إلى ضحكات أطفالها، وخفقان أجنحة الطيور الفرحة، العائدة من بعيد، بعد أن افتقدت زمناً طويلاً الأهوار التي جففها الديناصور، لكي أعرف بأن الحياة ستسير قدماً، وبأنها لن تعود إلى ما قبل يوم الأربعاء، التاسع من نيسان ابريل 2003.