اكتشاف مخلوق بحري بحجم ملعبي كرة سلة    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    رتال تختتم مشاركتها كراعٍ ماسي في سيتي سكيب بإطلاق حزمة مشاريع نوعية بقيمة 14 مليار ريال وتوقيع 11 اتفاقية    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    لماذا فاز ترمب؟    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاربات لسنوات النفي الطويلة ... وحرية لمن يجيد الطيران
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 2000


إلى نوال، أختي
كرائد للمنفى العراقي الأدبي الحديث، يبرز الجواهري كمثال. فبعد تأسيس الدولة العراقية بسنوات قليلة كان عليه أن يمثل أمام مسؤول التربية والتعليم في العراق آنذاك، مؤسس الفكر القومي ساطع الحصري. لم يكن الحصري، التركي الأصل، متعصباً للقومية العربية فقط، إنما كان أيضاً فاشياً، معادياً لكل من هو غير عربي، لم يكتف بفصل كل المعلمين اليهود من التعليم، إنما ذهب الى أبعد من ذلك، بفصله الجواهري من التعليم بحجة كونه من أصل "غير عربي": فارسي.
لكن المنفى أقدم من شاعرنا الذي مات في دمشق، على مسافة أكثر من 1000 كيلومتر عن مسقط رأسه.
وللأديب المنفي أن يكون في الحقيقة فخوراً بانعتاقه من كل سلطة، ومنذ القدم" أسلافه لا يمكن حصرهم باسم أو مثال، وسلسلة الذين سبقوه في "امتياز" المنفى تضيع طريقها في مسافة زمنية بعيدة جداً، يصعب قياسها أو حصرها بزمن معين. نرى الأديب المنفيّ في كل الأزمان: إنه يتدفأ عند شواطئ "بونتوس أويكسينوس" عند ظلال "ناسوس" الى جانب النار، أو أليس هو - المحكوم بالموت غياباً - في ممالك "رافانا" الغربية، يُلقى به سوية مع دانتي من قبل البابا "بونيفاس" وبسعادة كاملة في الجحيم؟ لم تغير القرون مصيره سوى القليل. ماذا يعني "الوطن"؟ المكان الذي سيُدفن فيه المرء؟ قلب الغواتيمالي ميغيل استورياس يستقر هادئاً، على بعد 9000 كيلومتر من مدينة ولادته، الى جانب قلوب زملاء كثر له، في باريس وفي مقبرة Pere Lachaise مقبرة الغرباء. مقبرة غرباء أخرى، نشأت على أطراف مدينة سوق الشيوخ في جنوب العراق قريباً من حدود البادية الجنوبية: "تل اللحم". لا أحد يعرف تاريخ ظهور المقبرة، مثلما لا يعرف احد هوية المدفونين فيها، لأنها مقبرة لدفن الغرباء الذين مروا بالمدينة. آخر الغرباء الذين مروا بها، هم رجال قوات التحالف بقيادة الجنرال الفرنسي "بلزاك". هناك توقف زحفهم. غير أنهم لم يموتوا فيها.
"لكن المهاجر يظل بالنسبة إلي، مثل سجين أو مريض. أيها الجوال، دربك مظلم، الخبز الغريب له طعم النبيذ الأبيض". هذه الأبيات التي كتبتها الشاعرة "آنا أخماتوفا"، تريد بها استذكار دانتي، الذي تكلم عن مرارة طعم خبز الغربة. كان دانتي يريد أن يقول ضمن ما يقول، أن الخبز هناك، في البيت، طعمه حلو. ويفتقده المرء عن بعد. لكن آنا أخماتوفا لم تجرؤ على الاعتراف بأنها كانت منفية في "بيتها" ذاته: الاتحاد السوفياتي.
إن كلمة Exilium: المنفي، التي دخلت الى كل اللغات الحديثة، والتي ينطقها المهاجرون والفارون وطالبو اللجوء حال وصولهم الى شواطئ أوروبا، أو شواطئ استراليا، أو إلى حدود الولايات المتحدة الأميركية أو كندا، نجدها عند معظم كتاب بداية القرن الأول، وقد ظلت محافظة على معناها ذاته طوال ألفي عام. إن نفي شخص ما، يعني طرده الى الأبد، يعني منعه من الحضور مرة اخرى في المكان الذي تعود الحضور فيه سنوات طويلة، المكان الذي اصبح بالنسبة إليه بحكم العادة، وليس بحكم الاختيار، وطناً. المنفي هو شخص ميت بالنسبة إلى الذين يظلون هناك. النفي هو وشم أبدي، يدوم دوام الحياة، بل إنه ربما عنصر وجودي. يستطيع المرء أن يعلن النفي باطلاً، لكنه لا يستطيع أن يجعله عديم التأثير.
المنفي هو إنسان يعود الى الماضي.الزمن توقف عند ساعة مغادرته، أما "الوطن" البلاد فإنه يقف أمام عينيه مثل وجه امرأة ميتة، أو مثل وجه رجل ميت، يراه ملتصقاً على صورة، كما رآه للمرة الأخيرة. انه لا يستطيع أن يتصور أن صاحب أو صاحبة هذا الوجه، تزوج أو تزوجت، وأصبح عنده أو عندها أطفال، بأن صاحب الوجه، أو صاحبة الوجه، استطاع أو استطاعت العيش والحياة من دونه. وليس خافياً أن داخله، ومن غير المهم إن تم ذلك بوعي أم لا، يفرح أو يصبح كل مرة اكثر سعادة عندما يعرف أن ذلك الشخص الذي تركه هناك، لم يستطع إيقاف شيء ما على قدميه: كل فشل هناك هو بمثابة التشفي عند المطرود هنا" المطرود هو عاشق خائب، يشعر بخيانة "الوطن" له، يشعر بخيانة كل الذين بقوا هناك له. "إن جندياً جريحاً في المعركة يعتبر نفسه قد ضاع الى الأبد"، يقول تولستوي. المنفيون يحركون الأكتاف تعبيراً عن اللامبالاة، عندما يسمعون بنجاحات تحدث هناك، في البلاد التي تركوها، لكن ليس لأنهم يتمنون لها الشر، إنما لأنهم يرونها هكذا، بتلك الصورة التي حفروها في الذاكرة، ولأنهم يعيشون، أو يجدون مغزى لحياتهم فقط طالما أن تلك الذكرى تعيش.
ليس هناك ما يمكن عمله ضد الإبعاد، فالإبعاد هو وداع الى الأبد. أنه هروب كُلِّل بالنجاح. فهو يعني أن المرء نجح في نهاية الأمر بالقفز على الحدود، الى الجهة الأخرى من عمود حماية الحدود، الى الجهة الأخرى من أبراج المراقبة والمصابيح الكاشفة، بعيداً عن خفر الحدود والموت، الى الجهة الأخرى من الأسلاك الشائكة والألغام المدفونة، زحفاً عبر الأنفاق المحفورة سراً: الى ذلك العالم أو من الأفضل القول، من الحياة "السجن" هنا الى المدى الكبير الواسع، من بلاد العبودية والحواجز الى الحرية.
هناك من يقول إن ذلك لا يحدث بلا ثمن، فعلى المرء أن يدفع شيئاً مقابل هذا النجاح. تلك جملة مؤدبة في الحقيقة، ومتواضعة، لأن ما يدفعه الإنسان بالمقابل كثمن في النهاية هو كل الحياة المعاشة. الدولة التي تفكر في ركل الهارب بمؤخرته، بدل أن تنتهي من حسابها معه، كما تفعل عادة مع كل شخص، تشتبه به أو تشك بأي ظل من الاختلاف أو التضاد معه، لا تكتفي أن تسرقه حتى قميصه الأخير، إنما تسرق منه، كرامته وكل ما يملكه: انها تصدر الأمر بإعدام ماضيه، كل شيء، كل ما صنعه، يجب أن يُعدم، وكل ذكرى لها علاقة بذلك، منذ خروجه. ولاحقاً لن يمنع ذكر اسمه فقط، إنما سيُصادر ويُعدم كل ما كتبه، كما لو أنه لم يكن هناك، أو كما لو أنه لم يخلق أبداً. ولأجل ذلك، أوجدت السلطات ملفاً خاصاً له، ملفاً ضخماً كُتب عليه "للحفظ الدائم"، ملفاً لن يضيع أو يختفي ببساطة، بل ستُلحق به يومياً كل التقارير التي يكتبها كتبة وعسس الدولة في الخارج، والذي تغيره الدولة بحسب تكتيكاتها ومصالحها، هكذا تعتقد أنها بخلطها للأوراق كل مرة تنجح بتنغيص حياة المنفي، من غير المهم عدد السنوات التي يعيشها هذا المطرود في المنفى. الدولة تراهن على تعب الذاكرة. فالمبعد هو ضائع، معدوم بالنسبة الى سكان البلاد، لكنه محفوظ في قمقم السلطة، في زجاجة الجني الكبير، الديكتاتور، الذي وحده من يقرر متى ومن يخرج ومن يبقى في الزجاجة، متى يخرج هذا أو ذاك، أو أي لقب يمنحه. أسنان الجني المكشرة تعبيراً عن الانتقام، عليها أن تحتفظ بالصيد الهارب دائماً. من يدري ربما ستنجح ذات مرة بالاستحواذ على الطريدة!
من غير المهم ما ستصادره السلطة من المنفي عند خروجه، إلا أنها لا تستطيع مصادرة ما يحمله معه، تحت جلده: اللغة.
لغته، ثروته غير الظاهرة، الأجنحة التي تنمو على ظهر الذي يسقط على الصخور! اللغة، التي لا تُسمى بمكان، هي، التي تنبعث في كل واحد منا وتظل عندنا جميعاً على قيد الحياة، الأحياء والأموات وهي التي تربط بيننا، وتجعلنا نطل من فوق رؤوس معاصرينا على التقاليد. الشاعر الألماني هاينريش هاينه شبَّه "الإنجيل" بالوطن المحمول من قبل الشعب الجوال دائماً. اللغة: هي الوحيدة، الوطن الباقي، الوطن غير المعدوم، الذي يأخذه المطرود معه.
لكن هناك حيث سقطت المرساة، كل شيء يحمل اسماً آخر، وحتى لو كانت لغة البلاد، التي منحته اللجوء، ليست غريبة عنه تماماً، فإنه سيلاحظ سريعاً، أن المرء يفكر هنا بطريقة أخرى. بَرَكَة الكاتب المنفي، لغته الأم، هي سجنه في الوقت نفسه. لن يطول الزمن حتى يلاحظ أنه هو ذاته، الذي حمل قفصه معه. كل لغة تبني في داخلها نمطاً معيناً من التفكير. المطرود سيلاحظ أن مادة لغته تفوح بالعفن، غير حرة، مفعمة بالكليشه المسموم يومياً في الشارع، في وسائل الإعلام. إن سلطة الذكريات المجرورة معه، العادات والنزوات تمنعه من دخول العالم الجديد بهدوء وبكرامة" ان ذلك، ما يُطلق عليه بالصدمة الثقافية، هو في الحقيقة العقدة النفسية الناشئة من الاضطراب، الحيرة، وعدم الأمان، والخوف، من الاعتراف شخصياً، بأن المرء لا يستوعب أين انتهى الأمر به. إن حظ الحصول على الحرية يتحول الى خيبة، عدم الاكتمال الذاتي سيكون سبب مفارقات مضحكة ومحزنة.
من المممكن أن تعطي البروفات الأولى لقلم أو ريشة الغريب تصوراً لفضول الغريب عن الحياة في البلاد الأخرى: الانطباعات الأولى أمام الآراء القديمة هي خاطئة. تسعة أعشار كل ما كتبه العراقيون بعد وصولهم الى أوروبا أو إلى أميركا، تؤيد هذا التفسير. "النظرة الطازجة" ترى السطح، من دون أن تعرف، ما يختفي تحته، انها لا تستطيع تحرير نفسها من الإسقاطات، من الأوهام والأحكام المسبقة، انها لا تراقب، إنما تبحث قبل كل شيء، وفي كل شيء تراه عن تأييد لكل ما سمعته وكل ما تعرفه من الادعاءات، بذلك الذي قرأته أو سمعته ذات مرة في مكان ما. إن النظرة الطازجة هي في الحقيقة ليست طازجة، وهي تستهلك من دون إرادة منها التفصيلات، تضخم من معنى الجانبي والثانوي والسطحي ولا تلاحظ الأمر الرئيسي.
في الحقيقة إن معرفة أية لغة لا تتجسد عندما يستطيع المرء أن يفهم، ما يُتحدث عنه" فأن يسيطر أحدنا على اللغة معناه أن يفهم أولاً الجوانب الخفية منها، أن يفهم ذلك الذي سُكت عنه، ذلك الذي لم يُقال. إن معرفة أية لغة هي في معرفة المعاني التي تكمن بين السطور، في معرفة المعنى الخفي للحياة. إن نقص القدرة على فهم الناس المحيطين بالغريب، وأكثر من ذلك فهم الغريب للذي لا يتحدثون به، والذي يصمتون عنه، والذي يمكن فهمه أوتوماتيكياً أو كما يقول المثل العراقي "يلقفها وهي طائرة"، النقص في هذه القدرة يُحول القادم الجديد الى شخص معوق، يدعو للشفقة وليس من الخطأ القول إن هناك الكثر من المهاجرين الذين يطربون لهذا التعامل ويشجعون عليه، لأنه يرحمهم من مسؤولية كل خطأ، وفي أسوأ الأحوال يعامله المرء مثل شخص ثقيل الفهم. الناس البسطاء يعتبرونه ساذجاً، أحمق. الويل لمن لا يستطيع الكلام! إنه مثل أطرش "وسط الزفة"، مثل زائر سينما، يشاهد فيلماً حُذف صوته. ماذا يحدث؟ الناس تدير له ظهورها، ضاحكين، ومستهزئين به. إنه يبذل كل ما في وسعه، لكي يركب مغزى من الكلمات المتفرقة، والتي التقطها بجهد، مثل رسالة من أوراق ممزقة. وحتى لو تعلم تدريجياً النطق وتحريك فمه على طريقة مواطني البلد، فيظل بالنسبة اليه الكثير مبهماً، مغلقاً. صحيح أنه يستطيع أن يقرأ الآن نص الحياة تقريباً، لكنه ما زال لا يعرف معنى النص الخفي.
علاوة على ذلك، إنه كاتب ويذكر نفسه، بأن الفن يهتم بما هو عال وغير مسطح، يهتم بكل ما هو مُزاح، خلف النص، أكثر مما هو مسموح، بكل ما هو مخفي، أكثر مما هو معلن بصراحة. انه كاتب، ويستطيع فقط أن يكتب عن ذلك الذي يعرفه في العمق. هذه المعرفة ليس عليه أن يكتسبها. إنه يملك حساباً مفتوحاً في بنك الذاكرة، ويستطيع أن يسحب كل ما يريد. هذا هو السبب الذي يفسر، لماذا يولي أدب المطرودين وجهه شطر الماضي، صوب كل تلك الحياة التي تركها خلف الأسلاك الشائكة. لكنه مثل النهر، يسحب معه في سيره الى الأمام، ماضيه، لا يتوقف في مكان، يتشكل كل مرة من جديد.
المنفي يطفح بماضيه. عليه هضمه، والهضم يبدأ، في الحقيقة، عندما يكون المرء قد انتهى من الأكل، يعني عندما تكون الحياة الماضية قد توقفت: في مكان الإبعاد. أدب المنفى لا يبحث غالباً عن مواضيع جديدة. وعندما يعود الى الحياة المتروكة خلف الأسلاك الشائكة، إلى "الوطن"، يبدو هناك "في الوطن" وكأن العمر تقادم به. لكن عندما يتهمه المرء بذلك، ينسى أن هذا الأدب صنع وامتلاك ما هو ربما أكثر أهمية - من قِدَم الموضوع -، أعني: نظرة جديدة للحياة هناك. وهو، يكشف بهذه الطريقة، ما يغيب عن العين، بسبب طغيان غشاوة الروتين اليومي هناك، أو يزيحه الناس - بصورة إرادية أو غير إرادية - تحت طغيان الإرهاب والخوف. الخوف من الموت الفيزيائي يصيب بالعمى غالباً.
الناس الذي ضللتهم ماكينة الدعاية، يعتقدون، أن المنفى يصيب الكتّاب والفنانين بالخرس. السلطة التي وضعت الكاتب تحت المراقبة واقتفت أثره، تعتقد أنها تنتصر مرتين، في المرة الأولى عندما تغلق فمه في الوطن، وفي المرة الثانية عندما تطرده وتنهيه الى الغربة. الآن سيختنق - تعتقد السلطة - بصورة نهائية. ما الذي عليه ان يصنع هناك؟ من سيسمع ما يقوله؟ عليه أولاً أن يتعلم لغة البلد الغريب أولاً! بقلعه من جذوره، من تراب البلاد، سيظل معلقاً في الهواء! أي هواء سيكون بديلاً عن هواء الطفولة؟ هذا ما تعتقد به السلطة. وتفرك يديها بسعادة. يداها الوسختان، اللتان جف الدم تحت أظافرهما.
بينما كل تلك التصورات هي في النهاية تصورات غير صحيحة. لأن الأدب والفن ينتسبان الى الأرض. فبقدر ما يعيش الأدب والفن من عصير الحياة، فإنهما يعيشان أكثر من الذكريات: الذاكرة هي غذاء خرابهما الخصب. الفن هو بلا مأوى مشرد، يبيت في قبو الذاكرة التحتي.
حيث أكون أنا، يفكر المبعد، تنتصر الكلمة الحرة. إنه مقتنع بأن الأدب والفن الحقيقيين، الأدب والفن الجميلين، لا يعانيان أبداً وطأة البعد القسري، على العكس. الأدب لا يعيش من ذلك الذي يراه الإنسان من نافذته، إنما من ذلك، الذي يراه الكاتب بعينه الداخلية، عينه الثالثة التي لا تحدها مسافة. الأدب لا يتغذى من الحاضر، بل مما كان قد عاشه، أنه ليس أكثر من حاضر خارج القانون، الحياة اليومية لكل ما يصبح ماضياً في لحظة رؤيتنا له. الأدب هو حدث بطيء: شجرة وسط الخشب التحتي لما هو منتشر من جذور نعتقد أننا نراها. الأدب أو الفن، يقول الكاتب أو الفنان لنفسه، يظهر متأخراً وبطريقة ما، من البعيد.
نحن لا نقوم باكتشاف جديد عندما نشير الى المفارقات الرئيسية التي تحتوي عليها الكتابة أو يحويها الفن في حركته المستقيمة الدائمة. إنه إبداع فني تحت أسوأ الظروف، لدرجة أن المرء يتعجب، كيف يمكن استمراره بشكل عام. وجود أدب المنفى ذاته هو عبث. لا بد أن يكون المرء مجنوناً، لكي يسلم نفسه سنوات طويلة لهذا العمل، لا بد أن يملك المرء صبراً مصرياً، كما تجسد في بناء الأهرامات، وإيماناً خيالياً لقضيته، لكي يتمرن دائماً على الكتابة، مجهولاً ووحيداً، من دون قراء، وسط طرش عام، في مكان مقطوع. في محيط المنفي، ليس هناك من يعرف اللغة التي يكتب بها. عندما اختار الكاتب أو الفنان قدر اللاجئ السياسي، قدر المرتد، تنازل عن كل شيء. وذلك كان صحيحاً بهذه الصورة! إنه الآن وحيد وحر. حتى وإن كان عليه أن يصارع نفسه، لكي يصف العالم الجديد والذي عليه أن يجعله عالمه هو، ربما لبقية حياته. في مقابل ذلك يعيش في عالم، مستقل، مضيفاً الى عالمه الداخلي بعداً جديداً، سواء تعوّد على العيش فيه أم لا. كلا، لا أعتقد أن عصر الآداب المحلية قد ولى، مثل عصر الموسيقى المحلية وعصر الرسوم المحلية. لكن ما يستخلصه المرء من الأدب "المحلي" لا يملك مستقبلاً، انه أدب جنات قروية وأعشاش لقالق. الحياة في الغربة ترمي الكاتب الى قارات بعيدة، تأخذ تربتها من بقايا قارته التي حملها معه، الى أين يقود ذلك؟ ألا يجعل ذلك الكاتب يرى العالم للمرة الأولى؟ الريح تعبث بشعره في البرية، حيث يقف وحيداً، أمام محيط واسع، وأفق بلا حدود. ولكن في مقابل ذلك، تغني الحياة الجديدة قوته الخيالية، وتضيف إليه معرفة جيدة، تمنحه نظرة جيدة وتجارب لا تُحصى. كل يوم جديد، يحمل معه معرفة جديدة. هنا، حيث يعيش، تصبح المعرفة ثمرة التجربة اليومية. كل معرفة جديدة، هي انسيكلوبيديا الواقع. عن هذه التجارب اليومية الجديدة لا يعرف أحد من "أولئك" الذين ظلوا هناك، في الوطن، شيئاً.
البعد يملك فوائده، عرف ذلك أسلافنا في المنفى. كان على غوغول الرحيل الى روما، لكي يستطيع كتابة رواية "النفوس الميتة". تورجينيف كتب تقريباً جميع كتبة في الخارج، دوستويفسكي كتب في مدينة دريسدن أجمل رواياته. النظرة من مكان بعيد تفتح حتى اليوم أمام الناظر أفقاً لا تُسبر أغواره.
إنه امر جيد، أن يكون الإنسان لا أحد، أن يصبح غريباً، لكي يموت بسلام وهو يعرف، أن ليس هناك من يبكيه. البيت احترق تماماً، أصبح هشيماً، وليس هناك من مكان يستطيع العودة إليه، غير المأوى الأبدي، المكان السعيد، الذي فيه زاوية لكل واحد منا: العالم المنفى، الذي مساحته الأفق باتساع عينين ناظرتين متأملتين، والذي تغطيه سماء يسكن فيها فقط أولئك الذين يجيدون الطيران. هكذا هي صورة الوطن الذي يضمنا جميعاً: مجرى الحياة المفتوح، مجرى الأبدية الذي يتسع لكل أدب ولكل إنسان. إنه مثل كل نهر، يحقق نفسه بكل ما يحمله في طريقه. فقط بالذهاب بعيداً، بعيداً.
* كاتب عراقي مقيم في ألمانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.