} في 26 آذار مارس عام 2000 انتخب فلاديمير بوتين رئيساً للاتحاد الروسي بغالبية ساحقة، وما برح يتمتع بشعبية هائلة على رغم ان السنة التي مضت منذ ذلك الحين كانت حافلة بالمشكلات ابتداء من غرق الغواصة "كورسك" وانتهاء بإغراق المحطة المدارية "مير". ولم تفلح القيادة الجديدة في انهاء الحرب الشيشانية أو تحقيق تحسن ملحوظ في حياة المواطنين. وهذه محاولة لقراءة ما لبوتين وما عليه في السنة الأولى من حكمه، التي انتهت بإجراءات ومناقلات شملت الدفاع والداخلية ومجلس الأمن القومي وبعض فروع القوات المسلحة. في كتابه "الماراثون الرئاسي" تحدث بوريس يلتسن عن خلفيات استقالته المفاجئة في اليوم الأخير من عام 1999 وقال ان اختياره وقع على فلاديمير بوتين ليحمل من بعده "الراية" ويكمل الاصلاحات. لكن الخلف ضاق بالإرث - الكارثة وبدا راغباً في قطع خيوط اريد لها ان تحركه من وراء الستار. ولكن هل ان بوتين وريث أم انه جزء من الإرث؟ هذا السؤال ردده محللون وساسة كثيرون ولم يقدم أحد جواباً قطعياً. فمن الواضح ان الاختيار وقع على بوتين في اطار "العائلة" وهو المصطلح الذي اعتمدته الصحافة الروسية في الحديث عن مجموعة من رجال الأعمال والموظفين المتنفذين الذين شكلوا في الواقع هيكلاً غير دستوري كان يحكم البلد باسم بوريس يلتسن. ومن الواضح ايضاً ان "العائلة" دفعت بالرئيس الهرم الى الاستقالة كي تضمن استمرار نفوذها ومواقعها وتؤمن نفسها من الملاحقات القضائية. ولا يعرف ما اذا كانت على بوتين التزامات سرية حيال "العائلة" الا ان عدداً من خطواته أوحى بأنه يحاول تقليص نفوذها وسطوتها وان كان الرئيس الجديد يدرك صعوبة محاربة اخطبوط مد أذرعه في جميع المرافق وعلى كل المستويات. ويرى الكاتب المعروف فيودر بورلاتسكي الذي عايش، وعمل مع خمسة قادة للاتحاد السوفياتي وروسيا، ان بوتين كان كالمبارز الماهر الذي يتقدم خطوة ليتراجع أخرى وينال من خصمه متحاشياً الأذى. ويؤكد ان بوتين بدأ عملية تغيير للنخب الحاكمة ستؤول الى تحولات مهمة في القيادات بعد ان يصبح في حلٍّ من التزام قطعه سابقاً بعدم اجراء تغييرات أساسية قبل مرور سنة على انتخابه. ويجمع المحللون على ان عملية "تبديل الجلد" ما برحت في أطوارها الأولى اذ ان "العائلة" كانت الجزء العلوي من آلية ضخمة ورثت أسوأ ما في الماكينة التوتاليتارية السوفياتية، وأضافت اليها اقبح "مبتكرات" النظام الجديد القائم على تغييب المؤسسات واعتماد "فوضى مبرمجة" أدت بالبلد الى درك جعل روسيا تنتقل من مصاف الدول العظمى الى موقع بين دول أفريقية وآسيوية اشتهرت بتفشي الفساد والرشوة. بدأ بوتين بتعزيز ما سماه "عمود السلطة" فقد قسم روسيا الى سبع دوائر فيديرالية وضع على رأس ست منها جنرالات سابقين من الجيش والشرطة أو من زملائه في جهاز المخابرات كي جي بي الذي خدم فيه 17 عاماً. وفي حديث صحافي مطول عن أبرز منجزاته خلال سنة قال بوتين انه "ورث" دولة تضم 89 مقاطعة وجمهورية كثير منه استن تشريعات تخالف الدستور الفيديرالي، واعتبر بوتين الغاء هذه النصوص نقلة مهمة نحو اعادة توحيد الدولة. وأرغم الرئيس قادة الأقاليم على ازالة الحواجز التي اقيمت بين منطقة وأخرى وحملهم على تسديد الضرائب الى الخزانة المركزية. واستناداً الى هذه التغييرات، التي دعمها تحسن الأوضاع الخارجية متمثلاً بازدياد اسعار النفط، تمكنت روسيا عام 2000 من تحقيق أول طفرة اقتصادية لم تعرف لها مثيلاً منذ بدء البيريسترويكا. فقد ازداد الناتج الوطني الاجمالي بواقع 8،7 في المئة، ما اتاح للدولة الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية بعد ان كانت في العهد السابق تحجب المرتبات والمعاشات التقاعدية. ويضع المراقبون في خانة "المنجزات" المعركة التي شنها الرئيس ضد "الاوليغاركيين" وهم من فروع "العائلة" أو مموليها، وأبرزهم البليونير بوريس بيريزدفسكي وصاحب امبراطورية "ميديا موست" الاعلامية فلاديمير غوسينسكي. وخلال السنة الماضية استخدم بوتين سلاح الملاحقات المالية والقضائية محاولاً تفادي اتهامات بمحاربة خصوم سياسيين وتمكن من ابعاد أبرز وجهين يمثلان العهد الماضي وحملهما على مغادرة روسيا. ولكن ثمة من يقول ان "أوليغاركيين" آخرين حلوا محلهما وهذا صحيح على الصعيد المالي، الا ان بيريزدفسكي وغوسينسكي كانا يتمتعان بنفوذ سياسي لا حدود له ولهما الكلمة الفصل في تشكيل الحكومات المتعاقبة، ولذلك فإن اقصاءهما هو محاولة لوضع الدولة الروسية على ركائز مؤسساتية. وسعى بوتين الى الانتقال من المجابهة الى الوفاق الاجتماعي وحقق تقارباً مهماً مع المعارضة اليسارية من خلال تحالف عقد في البرلمان بين كتلتي "الوحدة" و"نواب الشعب" المواليين للكرملين وبين الشيوعيين والزراعيين. الا ان الأحزاب اليسارية التي ايدت تطلعات بوتين الى بناء دولة قوية ظلت في الوقت ذاته تعارض استناده الى فريق اقتصادي ليبرالي وحكومة تكنوقراطية ليس فيها أي وزير يمثل الكتل البرلمانية الكبرى. بل ان "الوحدة" وهي ركيزة بوتين وعماده ليست ممثلة في الحكومة التي يمكن ان تصنف على خانة اليمين الراديكالي. ويوحي ذلك بأن الرئيس أراد خلال السنة الأولى من عهده الجمع بين النقائض وأحجم عن اعطاء وزن للقوى البرلمانية ساعياً الى تعزيز المؤسسة الرئاسية في اطار نظام "الديموقراطية الموجهة". وفي هذا السياق سعى الكرملين الى الفصل بين الصحافة بوصفها جزءاً من المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية كهيئات اقتصادية. وهذا ما دفع اصحاب الامبراطوريات الإعلامية الذين كانوا تعودوا مد ايديهم الى جيوب الدولة والتحكم في مؤسساتها يتمردون على الوضع الجديد ويتهمون بوتين بمنع المعارضة من الانتقاد. والأكيد ان هناك طريقة انتقائية في تطبيق القاعدة المذكورة لكن الواضح ان رئيس الدولة يريد تحقيق اغراضه في اطار "ديكتاتورية القانون" التي دعا اليها بوصفها من أهدافه الأساسية. وعند تعداد "المنجزات" يتحاشى الكرملين الآن الحديث عن الحرب الشيشانية على رغم ان نجم بوتين بزغ حينما تولى ادارتها، التي حقق في مراحلها الأولى نتائج سريعة من دون خسائر تذكر. وحلل الرأي العام الروسي لبوتين حينما قال انه "سيطخهم المقاتلين الشيشانيين حتى لو كانوا في المراحيض" ووعد وجنرالاته بإنهاء الحرب في غضون أسابيع. وها ان سنة مرت على تولي بوتين الرئاسة وأزيز الرصاص ما برح يسمع في القوقاز. ولا يبدو مقنعاً كلام الرئيس عن "سيطرة كاملة" على أراضي الجمهورية الشيشانية إذ ان البلاغات العسكرية الصادرة من موسكو تعترف بأن القوات الفيديرالية تفقد يومياً جرحى وقتلى. ما هو الحل إذاً؟ يقول بوتين انه يطمح الى حل سياسي يصوغه الشيشانيون انفسهم ويضمن الا تكون الشيشان رأس جسر للهجوم على الأراضي المجاورة وزعزعة الاستقرار في روسيا. وهذه الصيغة الهلامية تخفي من جهة رغبة في "شيشنة" الصراع ومن جهة أخرى فإنها تشير الى ان بوتين لن يتمكن من تجاوز مقاومة الجنرالات الذين لن يسمحوا بوقف الحرب التي تدر عليهم مكاسب مالية من خلال الأتاوات وادارة المؤسسات غير الشرعية وبيع الذخيرة وسياسية اصبح الكثيرون من القادة العسكريين نواباً ورؤساء محافظات. وكما اخفق بوتين في وضع حد للحرب الشيشانية فإنه لم ينجح في محاربة ورم مستشر اسمه البيروقراطية، بل انه اعترف ان "محاربتها امر في غاية الصعوبة". وهذه الآفة الضاربة في جهاز الدولة هي أصل البلاء الذي تتفرع منه أمراض خطيرة أخرى كالفساد والرشوة وغير ذلك من المصائب التي أصبحت تهدد كيان الدولة الروسية الى جانب الاجرام المنظم. وبوتين الذي عمل في جهاز أمني وصار رئيساً له وسكرتيراً لمجلس الأمن القومي على دراية تامة بمدى استفحال المرض، لكنه يدرك ايضاً ان خوض صراع سافر ضد الفساد قد يهز أركان سلطته، ولذلك فإنه يبدو حتى الآن متردداً بين الحسم والتراجع. وإذا ما قرر شن حرب سافرة على الفساد فإن بوسعه الاستناد الى شعبيته الهائلة التي اقتربت من 70 في المئة على رغم انه لم يحقق منجزات تذكر على صعيد تحسين الأوضاع الحياتية للغالبية الساحقة من السكان. ويتعين على بوتين ان يستخدم رصيده بحذاقة ولكن من دون تسويف اذ ان المرحلة القادمة ستكون فترة انكماش اقتصادي يتزامن مع خفض موارد النفط وازدياد الديون الخارجية التي سيترتب على موسكو تسديدها التي ستبلغ عام 2003 زهاء 17 بليون دولار اي قرابة 40 في المئة من باب المداخيل في الموازنة. ولم تجد صدى في الغرب محاولات موسكو جدولة الديون، ويرى المحللون ان لهذا "الصدود" اسباباً اقتصادية صرفاً في مقدمها معرفة الدائنين ان زهاء 30 مليون دولار تتسرب سنوياً من روسيا، وأخرى سياسية. فالولايات المتحدة، وخصوصاً في عهد الإدارة الجمهورية تريد ان تضع حداً لطموحات بوتين في استعادة جزء من الهيبة المفقودة لبلاده واخراج روسيا من حال الرضوخ الدائم لواشنطن. وفي سعيه الى موقع دولي لبلاده يقف بوتين حائراً بين حنينه الى الجبروت السوفياتي الغابر وادراكه لواقع روسيا المزري حالياً. وكحل عملي عمد الكرملين الى سياسة الضربات الجانبية لعجزه عن خوض مجابهات مكشوفة مع الخصم - الشريك. فإذا كانت موسكو لا تستطيع مجاراة واشنطن في الانفاق على مشاريع و"حرب النجوم" فهي قادرة على ازعاج البيت الأبيض بإقامة علاقات مع اعدائه ابتداء من كوريا الشمالية وكوبا وانتهاء بالعراق وايران. وكان قرار موسكو تزويد طهران اسلحة أهم نقلة نوعية في السياسة الخارجية الروسية خلال السنة الأخيرة ودليلاً على ان بوتين يعتبر نفسه في حلّ من التزامات قدمها سلفه للأميركيين مقابل دعمه السياسي والمالي له. وبدأ بوتين اعادة ترتيب الأولويات في السياسة الخارجية فأولى اهتماماً كبيراً الى دول الكومنولث التي كانت مهملة وغدت ساحة لنشاط القوى العالمية والاقليمية من دون ان تحرك روسيا ساكناً. كما يرغب الكرملين في علاقات أوثق مع أوروبا لتشكيل محاور تقلص من هيمنة القطب الأميركي على العالم. ولأغراض مماثلة بدأ الرئيس الروسي تحركاً على المحور الآسيوي وشرع في توثيق الصلات مع الصين والهند. وفي المقابل لوحظ فتور في تعامل موسكو مع ملف الشرق الأوسط، وقد يعود ذلك الى ادراكها لحدود المتاح في هذه المنطقة. إلا ان هناك سبباً آخر لا يبدو واضحاً اذ ان عدداً من مستشاري الكرملين يتحدثون عن احتمال اقامة "تحالف مناوئ للأصولية الإسلامية" يضم الدول "المتضررة" ومنها الصين والهند وتركيا وروسيا و... اسرائيل. وتورط بوتين شخصياً في الادلاء بتصريحات اعتبرت تأييداً مباشراً لليمين الإسرائيلي وزعيمه غير المتوج بنيامين نتانياهو الذي حظي برعاية خاصة من الرئيس الروسي عند زيارته موسكو. وحاول احد المقربين من الرئيس ان يلتمس له عذراً بالإشارة الى انه لم يفتح بعد ملف الصراع العربي - الإسرائيلي الذي لم يكن ضمن دائرة اهتماماته. وعلى رغم مضي سنة كاملة على الانتخابات الرئاسية فإن سؤال: من هو بوتين؟ لم يفقد أهميته، فهذا الضابط السابق في الاستخبارات يبدو تارة في غاية الشفافية وتارة أخرى ينكفئ على نفسه ويغدو "باطنياً" بسبب مهنته السابقة أو طبعه المتأصل. ولكن الأكيد ان بوتين هو رمز مرحلة انتقالية بكل تناقضاتها وغموضها وقد يصح فيه رأي أحد معارفه الذي قال عنه: "ان لديه حزم يلتسن الظاهري ورخاوة غورباتشوف الداخلية".