يمر العراق منذ 11 شهرا في حالات معقدة تضيع فيها بعض الأحيان معالم الطريق قبل أن تعود للبروز ليهتدي بها جميع العراقيين وفي كلا الحالين بدت مرجعية النجف ممثلة بالسيد علي السيستاني والمراجع الآخرين المساندين له كأنها المصباح الذي يؤشر الى طريق السلامة كلما ادلهمت الخطوب، لذلك تركزت الأضواء على هذه المرجعية وتعرضت الى أخذ ورد ورسمت له صور أخرجتها عن المعقول أحياناً أو فسرتها بعكس ما تتوخى حركتها. السيستاني يقول والشعب يطيع. هل هذه هي حقيقة الصورة في العراق؟ ام ان المعادلة كالتالي: الشعب يريد والسيستاني يعبر. العارفون يقولون لا هذه ولا تلك اذ ان العلاقة ليست علاقة آلية بين المرجع الديني الاعلى وبين الجمهور العريض من مقلديه لدى شيعة العالم وليس شيعة العراق فقط، كما انها ليست علاقة تابع ومتبوع. فلا السيد يتبع اهواء الجمهور ويلبي رغباته، ولا الشعب العراقي تابع على عماه "لفرد ديني له موقع مقدس وتعلو كلمته فوق كل كلمة". ولكن قبل محاولة تحديد طبيعة هذه العلاقة ووسائل تحققها وحدود فعالياتها وتأثيراتها لا بد من الاشارة الى نقاط اهمها: كثيرون في الشهور القليلة الماضية نظروا الى مرجعية السيستاني على أنها إرادة الفرد التي تحرك الجماعة وتملي عليها مواقفها، وبناء على ذلك رأى بعضهم ان هناك تناقضاً بين دعوة السيستاني الى الانتخابات العامة في العراق وبين المبدأ الذي تقوم عليه الانتخابات عادة. فالانتخابات آلية للديمقراطية والحرية، والفتوى آلية للتفرد بالرأي وفقدان الحرية للافراد. أن السيد السيستاني في دعوته يراعي مصلحة جماعة الشيعة فقط باعتبار انها الاكثرية وأنها، بناء على ذلك، الاقدر على تقرير مصير الانتخابات ومثل ذلك يهدد مصالح الجماعات الاتنية والدينية الأخرى. ان السيستاني انما اتخذ هذا الموقف ليتجنب واحداً من امرين: التعاون الايجابي مع المحتل الاميركي او المقاومة الايجابية لهذا المحتل. وأن قوى وأطرافاً داخلية وخارجية، اقليمية ودولية، سعت لأن تحصره بين هذين الخيارين. وتبعاً لذلك رأى البعض في مواقفه امتداداً لقوة اقليمية والبعض الآخر تعبيراً عن رضى ضمني بالاحتلال لغياب الدعوة الى المقاومة المسلحة في المواقف التي صدرت عن مرجعيته وعن الدوائر القريبة منها. وينبغي التذكير انه منذ بداية الوضع العراقي الجديد، جرى خلل كبير في التعابير المستعملة بخاصة تعبير الحوزة والحوزة العلمية الذي شاع في وسائل الاعلام من دون معرفة حقيقية بمدلوله ومعناه ما اضفى عليه معاني ودلالات ليست فيه او منه. والامر يستدعي وقفة امام ملاحظات من الضرورة ابصارها قبل السير في طريق تحليل موقف السيستاني الى عناصره الحقيقية. هل تكون المرجعية صامتة؟ بداية لا تعني عبارة الحوزة في الاصل شيئاً سوى المكان مثل المدرسة والجامعة. ولأنها كذلك فقد يتعدى التعبير مدلوله المكاني الى مدلول النهج والطريقة. فكما كان يقال مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة للتمييز بين اصحاب الرأي والقياس وأصحاب الرواية والنقل، ومثل ما يقال المدرسة الأوروبية والمدرسة الأميركية للتمييز بين العراقة والأسس الراسخة وبين المستجد الذي يميل الى السهولة والتحلل من قيود الماضي في اللغة والتصرف، كذلك هنا يجري الحديث عن حوزة النجف وحوزة قم، ويتم التفريق بين حوزة اشتهرت بتفلسفها الى جانب فقهها وأخرى وسعت دائرة التفقه والتأصيل من دون ان تكبت نزعات التفلسف. واليوم يذهب التمييز الى تمييز بين حوزة سياسية وأخرى غير سياسية. وأياً يكن المعنى الذي يذهب اليه مستعملو التعبير فإنه لا يمكن ان يذهب الى شخص بعينه أو مجموعة أشخاص أو الى مبنى بعينه او مجموعة ابنية، فالحوزة في الاصل ودائماً مكان التدريس، وهي تمتد من البيت الى المسجد الى الحسينية الى مكان العمل وقوافل الحج والتجارة... الخ فأنّى اجتمع فقيه أو حتى مجرد مدرس في أي علم وفن الى تلاميذه، وأنّى قصد طلاب علم الى عالم، كانت الحوزة وكان الحوزويون. ومثلها كلمة المرجعية والمرجع بعدما ألحقت بالكلمتين صفات ومضامين ليست فيهما، فقيل "مرجعية صامتة" واخرى "ناطقة" وثالثة سياسية أو غير سياسية. والخلط في مثل هذه التصنيفات كبير وخطير، تماماً مثل القول بالمرجع العربي والمرجع الإيراني أو الافغاني أو الباكستاني أو الآذري أو التركي. فكيف تكون المرجعية صامتة وهي، بدايةً، فعل تصدٍ. وكم من فقيه عالم لا يعد مرجعاً لأنه لم يتصد للعمل المرجعي وظل عاملاً في جهاز مرجعية أخرى أو منصرفاً لشأن التدريس مكتفياً بذلك من دون ممارسة الفتوى وتظهير الأحكام إلا في إطار البحث العلمي الصرف. وكيف تكون صامتة وهي التي تبدأ باصدار الرسالة العملية التي تتناول احكام المرجعية في دائرة واسعة من المعاملات والعبادات، وتقوم على اجراء ثان يتمثل في تعيين وكلاء يمثلون المرجع في أنحاء العالم الاسلامي. وتستكمل المرجعية تجهيزها لنفسها عندما يختار المرجع عدداً من فضلاء الحوزة يشكلون مجلس فقه وافتاء لمرجعيته. والنتيجة العملية لكل ذلك فتح مجال واسع للاستفتاء لا يحده زمان ولا مكان، ويمتد على الافق الايماني كله، سنة وكتاباً، وفقهاً وأصولاً، عبادات ومعاملات، أركاناً وفروعاً. والثابت أن المرجع يستفتى بشؤون الدين والدنيا، فله رأي مرة وحكم مرة أخرى في وجوب الجهاد وشروط اعلانه ودور المرأة فيه. وله أحكام وفتاوى تتصل بالتعامل مع سلطات البلد الذي يقيم فيه المؤمنون وكيفية تطبيق المؤمن قوانين البلد الذي يسافر اليه للدراسة او السياحة او لمجرد الاستشفاء، أو الذي يهاجر اليه للإقامة والعمل. وعدا ذلك ينهمك المرجع في إيفاد المبلغين والدعاة الى حيث لا يوجد دعاة ومبلغون من أبناء البلد نفسه. وحتى في حال أبناء البلد فإن للمرجع ترتيباً وتنسيقاً مع بعضهم أو معهم كلهم. هذا عدا عن رعايته لمشاريع ومؤسسات من المدارس والمكتبات العامة الى المساجد والجامعات والمستشفيات... الخ. والسؤال الذي لا يحتاج الى جواب: كيف يكون مرجع له كل هذه الحركة وكل تلك الامتدادات ذا مرجعية صامتة، وكيف لا يكون السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكل شؤون المؤمنين من الناس وفي المجتمع من صلب مرجعيته. قلادة الفتوى والمسؤولية ويبقى ان نتكلم عن ماهية التقليد وما معنى أن يكون هناك مرجع ومرجع أعلى في التقليد. يمكن القول ان المُقلَّد، كمن وضعت قلادة المسؤولية في عنقه، هو متحمل لمسؤولية الفتوى والحكم وشرح الدين، أما المُقلَّد فهو الذي وضع قلادة المسؤولية في عنق غيره فقلده، وهو بذلك يعلن التزامه بآرائه الفقهية وفتاويه واحكامه. وهكذا تصبح تصرفات المُقلِّد أمانة في عنق المُقلّد. ويلخص الحس الشعبي هذه الحالة بقول شائع في العراق بخاصة: ضعها في عنق العالم وانت سالم أي مبرأ الذمة ما دمت أديت عبادتك وقمت بتصرفاتك على أساس من تقليد هذا المرجع. وهكذا فالتقليد طوعي اذ يختار المؤمنون مقلَّدهم من فقهاء الحوزة ومجتهديها بعد ان يعلن تصديه للمرجعية. وربما تم الأمرين: التصدي والتقليد بانسيابية وتفاعل فكلما حضر هذا توطد ذاك والعكس صحيح. ولكن لماذا هذا مرجع أعلى وذاك مرجع فقط. بداية من الوهم تصور منظومة معينة تضبطها وتقدم توزيعاً مسبقاً للأدوار، فالمرجع الأعلى هو المرجع الذي تكون مرجعيته الأكثر شيوعاً بين أهل العلم أولاً، ثم بين عامة المؤمنين ثانياً. واللافت انه طوال التاريخ المعروف للمرجعية لم يتفرد في أي فترة فرد واحد بالمرجعية، بل غالباً ما كانت محكومة بقانون شبه ثابت يعبر عنه في الادبيات المرجعية انه بعد فترة من ثني الوسادة لفلان تعبيراً عن اشتهار مرجعيته اجتمعت لديه المرجعية العليا. وتحضر هنا ثلاثة مبادئ يجدر التذكير بها لأنها تظهر على عكس ما توحي به كلمة التقليد من جمود على احكام الماضي، اذ ان فكرة المرجعية تحتوي على حوافز مهمة تشجع على التجديد من جهة والتنوع من جهة ثانية. المبدأ الأول ان لا تقليد في اركان العقيدة ولا في كل ما هو عقيدة وهذا يعني ان التقليد لا يطال ساحة الايمان والاعتقاد، بل يدور حول قضايا من ادراكات العقل البشري تستند الى المعقول والمنقول في استنباط الاحكام وصياغة الفتاوى وملاحظة الوقائع التاريخية والمستجدة. المبدأ الثاني انه لا يجوز تقليد الميت أي أن المُقلَّد ابن عصره وزمانه وفي بعض الاحيان مكانه، ما يمنع الجمود والركون الى احكام تتكرر جيلاً بعد جيل من دون الأخذ في الاعتبار المستجدات. وهذا المبدأ بعموميته لا يمنع بعض الاستثناءات. المبدأ الثالث أنه لا يحق لمن بلغ درجة الاجتهاد في الدراسات الفقهية والاصولية ان يقلد شخصاً غير نفسه حتى ولو انه لم يتصد للتقليد والمرجعية. وفي هذا المجال قد لا يؤخذ في الاعتبار فقط الاجتهاد الشامل والكامل بل ان هناك مجتهدين في مجالات محددة، فلا يحق للمجتهد التجزيئي، كما يعبر عنه، ان يقلد غيره في هذا الجزء الذي هو فيه مجتهد، وان كان يحافظ على شرط التقليد في الموضوعات الاخرى. العراق بين مسارين وبالانتقال الى المسار التطبيقي نجد بداية ان العراق يقف منذ سقوط النظام السابق بين مسارين: مسار التحرير والاستقلال واخراج المحتل بالوسائل السلمية، ومسار الذهاب الى المجهول الذي قد لا يخرج عن ثلاث: الفتنة بين المسلمين، وتآكل الأوضاع واستكمال مسيرة التعفن والانهيار، أو، في أحسن الأحوال، فرض التقسيم كأمر واقع لا بديل له. وعلى المسار الثاني وضعت الشهور الاحدى عشر الماضية علامات كان أخطرها ذلك الذي يتم تحت شعار مقاومة الاحتلال من ارتكاب أعمال عنف مشبوه يصنف في خانة الارهاب والاجرام المحض اغتيال السيدين عبدالمجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم وتفجيرات مقرات الصليب الأحمر الدولي والسفارة الأردنية والأممالمتحدة ومراكز الشرطة العراقية والاحزاب الكردية في أربيل الذي بلغ ذروته باستهداف احتفالات عاشوراء في بغداد وكربلاء. وكان قوس انحدار العمليات ضد القوات الأميركية يتناظر مع قوس تصاعدها ضد تجمعات المدنيين العراقيين ما جعل أشد المتحمسين لشعارات المقاومة يسقط بأيديهم ويصبحون أكثر حذراً في وصف ما يجري في العراق بأنه مقاومة. وتلازم مسار تصعيد العنف مع خطوات مهمة كانت تتم على المسار الآخر، بدءاً بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي ثم تشكيل الحكومة العراقية الأولى بعد اسقاط نظام صدام حسين. وهنا تفوت البعض حقيقة أن المجلس والحكومة انما شكلا في اطار من الجهود المكثفة التي بذلتها القوى السياسية العراقية برعاية من بعثة الأممالمتحدة التي كان لها الدور المرجح والمذلل للعقبات التي تطرأ في التطبيق. واستطاع اعضاء مجلس الحكم ومعهم الوزراء أن يستعيدوا مكانة بلادهم في المحافل الدولية والاقليمية كان آخرها حضور العراق حضوراً فاعلاً للمرة الأولى في اجتماع دول الجوار الذي عقد في الكويت الشهر الماضي. وكان العراق الجديد حقق حضوراً اقليمياً ودولياً وجذب الاهتمام العالمي من خلال زيارة وفدي جامعة الدول العربية والأممالمتحدة ومن خلال اجتماعات الدول المانحة، بل إن دولاً جديدة انضمت الى التحالف وشاركت في إرسال جنود الى العراق. وفي المحصلة تمت منجزات ملموسة ومباشرة وأخرى غير مباشرة. ومن الانجازات المباشرة: - الاتفاق على برنامج بين قوات التحالف ومجلس الحكم الانتقالي تضمن خطوات وتواريخ تحدد عملية نقل السلطة الى العراقيين في موعد اقصاه 30 حزيران يونيو المقبل. - اصدار قانون ادارة الدولة الموقت الذي تمتد صلاحياته بين نقل السيادة الى سلطة موقتة، وبين موعد الانتخابات التي ستأتي بدستور وحكومة دائمين للعراق والتي من المفترض ألا تتجاوز نهاية العام 2004 أو بداية العام المقبل 2005. أخذ البعض على مرجعية السيستاني حذرها وسيرها بتؤدة في بلورة مواقفها من التطورات التي تحصل في العراق. في حين كان هاجس المرجعية الأول أن ترتب البيت الداخلي للمرجعية نفسها. ذلك أن سقوط النظام لم يترافق مع انقشاع مباشر للرؤية في العراق إذ اختلط مع حادث انزياح النظام غيوم وتشابكات ولدها مقتل الخوئي وما تبعها ورافقها من كلام تصعيدي ضد المرجعية في النجف. وهي انبعاثات ما لبثت ان هدأت وتراجعت درجة غليانها وعادت الى أحجامها الطبيعية. والفضل في ذلك يعود الى الموقف الهادئ الذي اعتمدته مرجعية السيستاني لذلك تميزت بياناتها ومواقفها الأولى بالتركيز على أمور، عدة: الأول وأد الفتنة في البيت الشيعي، اذا صح التعبير، وكانت، وما زالت، عوامل ذلك حاضرة وأصحاب المصلحة فيه كثيرون. وليس من نافل القول أن يرى البعض ان الأفق العراقي قد لا يكون مفتوحاً على حرب طائفية سنية - شيعية لأسباب موضوعية وذاتية كثيرة، بل ان هناك احتمالات لانفجار نوعين من الاقتتال الداخلي الأول: شيعي - شيعي والثاني كردي- كردي. الثاني الوقوف في وجه دعوات الثأر والانتقام ضد رموز النظام السابق واعوانهم والمتعاونين لذلك تم التركيز منذ البداية على ضرورة اعمال القانون والقضاء في فض نزاعات المرحلة الماضية ومعاقبة من تدينه المحاكم في ظل قضاء عادل. الثالث عدم القبول بأي دور لسلطة الاحتلال في رسم مستقبل العراق سواء من حيث وضع الدستور الدائم للبلاد أم من حيث الاشراف على الانتخابات العامة. ورأت مرجعية السيستاني ضرورة أن تلعب الأممالمتحدة دوراً فاعلاً في هذا المجال كبديل للدور الأميركي وكعامل مساعد على شرعنة اجراءات المرحلة الانتقالية. وتمكنت المرجعية، على حذرها، من أن تفرض على الادارة المدنية الأميركية أن تتراجع عن خططها في أكثر من مجال: أول هذه التراجعات كان في الأيام الأولى التي سبقت تشكيل مجلس الحكم. اذا كانت الادارة الأميركية تخطط لتشكيل مجلس استشاري عراقي يساعد الحاكم المدني بول برايمر من دون صلاحيات تشريعية أو تنفيذية. وأمام معارضة المرجعية جرى تعيين مجلس الحكم الانتقالي بصلاحيات كاملة. وتحت ضغط مواقف المرجعية تم التراجع عن تشكيل لجنة غير منتخبة لصياغة الدستور وتقرر أن الدستور تضعه هيئة منتخبة انتخاباً عاماً حراً ومباشراً. ولتلبية رغبة المرجعية تم ارسال بعثة الأممالمتحدة لدرس امكان اجراء انتخابات عامة قبل 30 حزيران. وفي هذا السياق شكل مجيء بعثة الأخضر الابراهيمي انتصاراً لرأي السيستاني، واقترحت آلية وجدولاً لإجراء الانتخابات قبل نهاية سنة 2004 أو بداية سنة 2005. - لم تترك المرجعية الموقف عائماً بل طالبت بما يأتي: أ- بأن تتعهد الأممالمتحدة بقرار صادر عن مجلس الأمن أنه لن يتم، لأي سبب، تأجيل الانتخابات عن الموعد المحدد. ب- ألا يكون للحكومة الانتقالية سوى صلاحية محدودة تكون من خلالها قادرة على تصريف الأعمال الروتينية وتلبية شؤون الناس المعتادة مؤجلة كل قرارات أخرى الى الحكومة المنتخبة كي تتخذ الموقف المناسب منها. - رفضت المرجعية الصراعات و"معارك" هامشية من مثل تلك المتصلة بالقانون 137 المتعلق بإدارة الأحوال الشخصية أمام محاكم مدنية أم أمام محاكم شرعية تخص كل دين، ومذهب معتبرة أن تعديل القوانين وإلغائها في صلب صلاحيات الحكومة المنتخبة وليس أحد غيرها. بين موقف المرجعية وتقرير بعثة الأممالمتحدة صدر قانون إدارة الدولة عن مجلس الحكم الانتقالي، ما اعتبره المراقبون الاقليميون والدوليون خطوة مهمة في اتجاه استعادة العراق سيادته وتشكيل حكومة منتخبة. والمساران عادا الى التداخل مع تفجيرات كربلاء وبغداد أثناء إحياء ذكرى العاشر من المحرم للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين. ومن النتائج المباشرة لهذا الحدث: - التأكيد على وجود سعي متواصل لاحداث فتنة بين المسلمين، لكن ردود الفعل الأولية على هذه الجريمة تشير الى ان الحرب الطائفية ليست من خيارات الشعب العراقي وأن هناك وعيا وحساسية عاليين في هذا المجال. - تأجيل، ولو لأيام قليلة، التوقيع والاعلان الرسميين على القانون الانتقالي لإدارة البلاد. والأهم من هذا وذاك أن تفجيرات كربلاء وبغداد تؤكد أن هناك جهة أو جهات، ذات قدرات كبيرة على ممارسة الارهاب بتقنيات متطورة، وان هذه الجهة تلعب في الوقت الضائع علّها تتمكن من حرف القطار العراقي عن المسار الذي اسمه الخط بين المرجعية والأممالمتحدة. هذا الخط الذي ليس فقط تقدمت عليه الاحداث الايجابية بل كان الحصن الذي لجأ اليه العراقيون بفئاتهم السياسية والاثنية والدينية المختلفة لتجاوز الشدائد والمحن التي مروا بها منذ سقوط النظام السابق. وهذا الخط هو الوحيد المرشح لحمل العملية الانتخابية الى مرساها الصحيح. وهذا لا يمنعنا من القول ان أحد طرفي هذا الخط يتعرض أكثر فأكثر لضغوط كي يبدل من اسلوبه وينخرط على الرد على التحديات بمثلها. ونجحت المرجعية، حتى الآن، برد مثل هذه الضغوط متحصنة بأسلوب فقهي متجدد يفكك القضية الى عناصرها الأولى ويحكم على ولكل منها على حدة قبل أن يعيد تركيبها ليقدم الحكم العام. فالأمن مسؤولية قوات الاحتلال وكل تفجير واعتداء على الأمن هي المسؤولة عنه بالمعنى الشرعي والعملي والقانوني وليس بالمعنى الايديولوجي الذي يركز عليه الخطاب السياسي لبعض القوى في العالم العربي. والانتخابات العامة المباشرة هي المصدر الوحيد لشرعية أي حكومة مقبلة في العراق. وهنا يحضر المعنى العملي الاجرائي الذي يلزم جميع فئات الشعب العراقي وليس معناها وأبعادها الايمانية التي تحدد موقفاً مترامي الاتجاهات حول مسألة شرعية الحكم والحاكم وهو ما تأخذ به كل فئة وفق معاييرها الفقهية والفكرية. وهذا ينطبق على الدينيين واللادينيين وعلى المذهبيين وغير المذهبيين داخل الطرف الواحد. والمتأمل في فقه ادارة الأزمة عند المرجعية في النجف يجد أنها تتصرف مرة من موقعها القيادي العام فهي مسؤولة عن الجميع دون تمييز كتلك المقولة التي كانت ترددها الخلافة الراشدة في عهد عمر بن الخطاب لو أن ماعزاً سقطت في أرض السواد العراق فإن عمر سيسأل عن ذلك، وتتصرف مرة أخرى وفق مقولة لخليفة راشد آخر هو الامام علي بن ابي طالب الذي كان يقول انه سيسلم بالأمر ما سلمت أمور المسلمين حتى لو كان حقه بالذات لم يسلم. فهذه الذرى التي عرفت العدالة الاسلامية بعض وجوهها أيام عمر بن عبد العزيز الأموي وفي العهد العباسي هي التي تقدم عناصر الحكم الأولى للمرجعية النجفية التي تستلهم أيضاً تراث أئمة الزمان في التعامل مع سلاطينه. من هنا يمكن القول ان خروج العراق سالماً من محنته مرتبط ببقائه على الخط الواحد بين المرجعية الاسلامية في النجف والمرجعية الاممية في نيويورك. وجوهر الموقف أن حكمة الاعتدال وحدها التي تحقق للشعب العراقي اهدافه في اخراج المحتل وبناء دولة العدالة بين ابنائها بغض النظر عن العرق واللون والدين والمذهب. * كاتب لبناني.