بعيداً من القول الأكاديمي عن الفن بأنواعه وفروعه الأدب، المسرح، السينما، النحت، الموسيقى، التصوير... الخ ودور كل منها في حركة النفس والوجدان، فإن الفن - بلا شك - يقوم بدور رئيس في تهذيب الوجدان الجمعي. وكلما تتبعت تقاليد وحركة مجتمع ما، تدرك في الحال مدى تغلغل الفن في حياة ذلك المجتمع. وتعاين ذلك حتى على مستوى الأسرة، وعلى مستوى الفرد الواحد، الذي يرتقي شعوره وتهذيبه بقدر مستوى ثقافته وتشرّب جوانحه للفن الجميل الراقي. ولذلك ذهب الفلاسفة في الشرق والغرب والفنانون الكبار الى حاجة الإنسان الى الاستزادة من الفنون لتهذيب النفس، ودعوا الى اكبر من ذلك... الى ان الفنّ ضرورة لتطهير النفس من الرذيلة والدعوة الى الفضيلة، وما يرتقي بالإنسان الى اعلى درجات سلم القيم. فهذا ابن سينا في إشاراته يأمر بسماع الألحان و"عشق الصور" اياً كانت. ويجعل ذلك مما يصفي النفوس. وفي كتاب الفارابي الضخم الموسيقى دعوة صريحة عن ضرورة الفن المتاح في عصره. ويجنح بنا الحديث الى زرياب واسحق الموصلي والقيان. ولكن، بعد التاريخ الطويل من الفن المتاح، يبرز سؤال موجع: ما سبب انتكاسة الفن عند العرب، عدا فن القول؟! تلك اشكالية برسم المختصين! ان الإنسان فنان بذاته، وحاجته الى ذلك الزاد ضرورة حتى لو اضطر الى اختراع فنه بنفسه وابتدع "ترنيمته" ابتداعاً، كما يستجيب الرضيع لإيقاع معين ويتمايل معه، اذ ما ذلك الا استجابة طبيعية لكوامنه الفطرية. وتلك الشعوب البدائية التي تعيش في أدغال افريقيا، لا تستر إلا سوآتها، تتجاوب طرباً مع ايقاعات الطبيعة، فتعتبر ذلك جزءاً من ثقافتها، وفلكلوراً تعتز به يحكي هويتها، ويدل على ثقافتها! هنا تلفت تلك الحشود الإعلامية الهائلة لمحاربة التطرف في مناهجنا التعليمية والتربوية، وكأن التطرف لا يخف او يزول إلا بمعالجة بعدٍ واحد من ابعاد ثقافتنا المحلية. هب ان المناهج الدينية ألغيت تماماً... فهل يمكّننا هذا الاجتثاث التام من إلغاء حدة التطرف والغلو في نفوس ابنائنا؟ ان التطرف باتجاهاته المختلفة وأسبابه المناخية والبيئية والتعليمية وغيرها، وكل بحسب تخصصه قادر على ملامسة هذه الأسباب. بل إن نقص ثقافات وضرورات اخرى يصبح عاملاً من عوامل التطرف، كما يكون نقص فيتامين او غذاء ما في جسم الإنسان، سبباً لمرض نفسي او عصابي، او حتى بيولوجي. ومن تلك الجوانب التي أثّر في غيابها ارتفاع جانب التطرف في المزاج، او تطرف ملكة الحكم، او في تناول أو تلقي العلوم وتوابعها، ثقافة الفن التي قد تكون معدومة بالقياس الى غيرنا من المجتمعات في الشرق او الغرب. فعلى مستوى الأسرة يواجهك اولاً البناء المنقول بشكله المعماري الباذخ والخالي في داخله من اللمسات الفنية التي يدل غيابها على الذائقة الفنية المعدومة لساكنيه. ومعالجة المناهج التعليمية وحدها غير كاف للقضاء، او التخفيف، من ظاهرة التطرف، ما لم ترافقها جهود جبارة لتدشين ظاهرة مضادة اسمّيها "الظاهرة الجمالية" بكل ابعادها ومستوياتها، وتنمية الحس الفني والروح المرهفة لدى المواطن العادي بجعله يتنفس هذا "العالم" في كل انحاء الدولة، في المدرسة والشارع والمعهد والجامعة والديوانية والمنابر الإعلامية بلا استثناء. ولو تأملنا المدرسة بصفتها المحضن الأساس للطالب - بعد الأسرة - لرأيناها عبارة عن كتلة اسمنتية صماء، لا تنبض بالحياة والروح المفعمة بالعاطفة الموجبة، فلا لوحات تشكيلية راقية تستفز اهتمام الطالب وترقى بذوقه الفني وبالتالي الأخلاقي، ولا مادة - عدا التربية الفنية والرياضية المهمشتين - تربي الذائقة الجمالية التي ترتفع بروح الإنسان، وتحلق به الى عوالم من الجلال والدهشة، تقلل بدورها من النزعة المتطرفة، سواء في الممارسة الحياتية او الملكة النقدية او المعاملة الإنسانية، بل في ممارسة الدور الإنساني للإنسان نفسه. مدارس بمبان حكومية أنفقت فيها الملايين، لا يمتع نظرك فيها مسطح اخضر، او شجرة عامرة، او مادة تربوية تغذي الروح وتطرب لها النفس. وهنا تحضرني ذكرى فدوى طوقان - رحمها الله - في كتابها "رحلة جبلية، رحلة صعبة" عندما سافرت الى اميركا للدراسة تروي ان اول ما تعلمته هو "التصويت" اي كيف تتحدث! احباط وقلق وارتياع تتسرب الى قلبك عندما تشاهد اطفالاً يتسابقون الى إثبات الرجولة والخشونة، وتداول مصطلحات البلطجة والاستهتار والتحدي، وهجاء لجانب العطف والشعور بالعالم والحياة من حوله. كل ذلك لغياب الفن الذي يغذي الروح ويهذبها، ويدفع بقيم التسامح والشعور بالآخر والتعايش معه. ولو سألنا انفسنا عن اسباب الهوة السحيقة التي تفصلنا عن الغرب، اخلاقياً على الأقل، لوجدنا ان من الأسباب الرئيسة طغيان الفن في كل شؤون حياتهم، من المتسول الذي يعزف الألحان لاستجداء المارة، الى بناء الكاتدرائيات، وبينهما درجات متراكمة من الفنون التي اصبحت ضرورة يتبتل إليها الإنسان كل يوم. وهذا ليس وليد الصدفة، وإنما غذته اجيال من الحضارة والبناء والتجربة التي لا تعرف الخوف والتردد، وإذا فاتنا هذا البناء فلا اقل من ان نقلد، او نقرر تلك الفنون وبكثافة ونمارسها بجد وإخلاص لا كضرورة "سياسية" فحسب، بل كحاجة فكرية ونفسية وحضارية تختصر ازماناً من القلق والتخلف الحضاري، وتلغي جهوداً تحارب طواحين الهواء. ان الحال التي يعيشها الغرب، ويستمتع بنتائجها، هي وليدة حقب متعاقبة من الفن وكل حقبة يرافقها تدشين هائل من الفكر النقدي ليقيم على انقاضها فكرة جديدة. وهكذا بحركة دائبة، وصيرورة دائمة، الى ان اصبح الفن قبلة، بعد ان اجتمعت فيه كل الفنون ومقومات العمل الفني بصورته المرئية المدهشة! وبما اننا لا يمكننا ان نغالب منطق الحياة بالنهوض الحضاري، فيجب - على الأقل - ان نفهم اننا لا يمكننا ان نسيطر على الإنسان عندنا ونتعايش معه قبل ان نروض الحيوان المفترس الكامن في اعماقه. * معلم لغة عربية - الرياض.