"التحكيم" كان له مفهوم لا سيما في البلاد العربية واصبح له مفهوم آخر مختلف تماماً. قبل ربع قرن كان مفهوم التحكيم هو التوفيق والصلح وبعد ذلك تغير هذا المفهوم واصبح مفهوم التحكيم هو حسم المنازعات، أي أن التحكيم اصبح قضاء تختاره ارادة الطرفين ويختار كل طرف قاضيه. هذا التطور الذي طرأ في الربع الأخير من القرن الماضي جعل كل دول العالم تغيّر قوانينها التحكيمية، ابتداء من مطلع الثمانينات الدول الاوروبية، بدئاً من فرنسا الى سويسرا الى بلجيكا الى بريطانيا الى المانيا الى هولندا، ثم توالت دول اوروبا الشرقية وسارت الدول العربية على هذا الدرب بدئاً من السعودية مروراً بلبنان وانتهاء بالاردن بحيث لم يبق خارج هذه الحركة سوى اربع دول هي سورية والعراق والمغرب وليبيا. وساد قوانين التحكيم في العالم العربي تياران، القانون الفرنسي الذي فرّق بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، والدول العربية التي تبنته هي لبنان والجزائر وتونس، وباقي الدول سارت على خط القانون النموذجي الذي وضعته لجنة قانون التجارة في الاممالمتحدة اليونسترال. وكل هذه القوانين وجدت للاستجابة لطلب التجارة والتوظيفات الدولية ولجلب التحكيمات اليها. وحجر الزاوية في هذه القوانين هو ابعاد المحاكم القضائية عن التحكيم بحيث تكون مساعدة له اذا احتاج لمساعدة مثل جلب شاهد، لا معرقلة لسيره. واعتمدت كل القوانين التحكيمية مجموعة من الحريات: - حرية التعاقد التي تجيز نزع اختصاص المحاكم. - حرية التعاقد التي تجيز لكل طرف اختيار قاضيه. - حرية التعاقد التي تجيز للطرفين الاتفاق على مكان للتحكيم. - حرية التعاقد التي تجيز للاطراف اختيار قانون اجراءات المحاكمة التحكيمية او نظام اجراءات المحاكمة المتبع لدى مركز تحكيمي، من دون التقيّد بقانون اجراءات المحاكمة المطبق في البلد الذي يجري فيه التحكيم الا ما يتعلق بالنظام العام. - حرية التعاقد في اختيار القانون المطبق على التحكيم الذي يمكن ان لا يكون قانون البلد الذي يجري فيه التحكيم. - حرية التنازل بعد صدور الحكم عن طرق المراجعة. وكان التطور التشريعي كبيراً وخطيراً، ولكن الملاحظ ان هذا التطور التشريعي في اوروبا جاء يلحق باجتهاد المحاكم ويكرس هذا الاجتهاد، بينما جاء هذا التطور في البلاد العربية ليرغم المحاكم على تغيير اتجاهاتها، وبقيت المحاكم عصية! فالقضاء في البلاد العربية لا يزال تحت ظل الاعتقاد بأن التحكيم لا ينزع اختصاصه بل ينزع سلطانه! وهذا يعطل الاثر الذي بحث عنه المشرعون حين عدّلوا قوانين التحكيم ويؤدي الى ابتعاد التحكيمات الدولية عن البلاد العربية، وذهابها الى الدول الاوروبية حيث القضاء حريص على حماية حرية التعاقد وحرية التحكيم. ولكن ماذا تلاحظ في البلاد العربية؟ السعودية: ظلت المحاكم الشرعية بعد صدور قانون التحكيم السعودي الجديد تعتبر ان الشرط التحكيمي غير نازع لاختصاصها وتسير بالدعوى على رغم الشرط التحكيمي وعلى رغم تمسك احد طرفي النزاع بالتحكيم. وهو امر يتراجع خطوة ثم يتقدم خطوتين ولم يحسم حتى الآن على رغم صراحة قانون التحكيم السعودي العصري والذي يعترف بالشرط التحكيمي. سورية: صدر حكم تحكيمي دولي بين شركة "ستال أي جيستيل اند الويز" السويسرية و"الشركة العامة للاسمدة" السورية، وهي شركة حكومية. وحين قدم الحكم الى مجلس الدولة للحصول على الصيغة التنفيذية، ابطل مجلس الدولة الحكم. لماذا؟ لأن الحكم لم يضع في مطلعه عبارة "باسم الشعب السوري". مصر: ورد في المادة 19 1 من قانون التحكيم المصري ان طلب رد المحكم يقدم الى المحكم نفسه، فاذا رفضه يحال الامر على المحكمة القضائية، فابطلت المحكمة الدستورية هذا النص من القانون معتبرة انه مخالف لاحكام الدستور معتبرة ان المادة 67 من الدستور المصري "تمتد بالضرورة الى كل خصومة قضائية اياً كانت طبيعة موضوعها جنائياً او مدنياً او تأديبياً، اذ ان التحقيق في هذه الخصومات وحسمها انما يتعيّن اسناده الى جهة قضاء او هيئة قضائية منحها القانون الفصل فيها...". واعتبر المجلس الدستوري ان البند 1 من المادة 19... اناطت الفصل في خصومة رد المحكم بهذا المحكم نفسه، وألغت المحكمة الدستورية البند 1 من المادة 19 من قانون التحكيم المصري. وهذا مفهوم ومقبول ومشروع بل هو تصحيح لوضع لم يكن سليماً! ولكن اجتهاد المحاكم في تطبيق هذا القرار الدستوري ذهب ابعد من ذلك بكثير، اذ ذهب الى غير ذلك، ذهب الى تطبيق هذه الاحكام على غير القانون المصري حين يطبق في مصر. وهكذا فإنه إذا طبق قانون التحكيم المصري فإن القضاء المصري هو المختص بالنظر برد المحكمين. ولكن التحكيميات الدولية كثيراً ما تحيل الى نظام تحكيمي يطبق على اجراءات التحكيم او قانون غير القانون المصري يطبق على اجراءات التحكيم، او يعين الطرفان في العقد سلطة لتسمية المحكم او للنظر في رده. قالت محكمة استئناف القاهرة في حكم اصدرته 4/29/2003 بين"الشركة المصرية للانتاج الاعلامي" وشركة "سكانسكا": "وحيث ان المادة 19/1 من قانون التحكيم المعدّلة بالقانون رقم 8/2000 قد جرت على ان "يقدَم طلب الرد كتابة الى هيئة التحكيم...، فاذا لم يتنح المحكم المطلوب ردّه خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديم طلب الرد، يُحال بغير رسوم الى المحكمة المشار اليها في المادة 9 من هذا القانون للفصل فيه بحكم غير قابل للطعن"، ومفاد ذلك، ان المحكمة المذكورة في النص هي وحدها - دون غيرها - صاحبة الولاية بالنسبة لنظر طلب رد المحكم والفصل فيه، وانه لا يجوز لأطراف التحكيم الاتفاق على ما يُخالف ذلك. ولا ينال من ذلك القول بأن المادة السادسة من قانون التحكيم قد اجازت لطرفي التحكيم الاتفاق على اخضاع العلاقة القانونية بينهما لاحكام عقد نموذجي او اتفاقية دولية او اي وثيقة اخرى بما تشمله هذه الوثيقة من احكام خاصة بالتحكيم، او الاستناد الى نص المادة 25 من القانون المذكور بادعاء ان الاطراف قد اتفقوا على اخضاع اجراءات التحكيم للقواعد النافذة في مركز القاهرة للتحكيم قواعد حسم منازعات التجارة والاستثمار، لأن تطبيق حكم المادتين المذكورتين بالنسبة إلى اجراءات التحكيم مقيّد بعدم مخالفة القواعد المتفق عليها للقواعد الآمرة في قانون التحكيم. ونتيجة لهذا الموقف فان كثيراً من الشركات الاجنبية في عقود التحكيم التي ابرمتها مع شركات مصرية أو عربية واختارت القاهرة كمكان للتحكيم وعيّنت سلطة تسمية تبت بتسمية المحكمين وعزلهم هي "مركز تحكيم القاهرة" على سبيل المثال، هذه الشركات ستجد ان الاجتهاد القضائي سيصطدم بالنية المشتركة للطرفين الواردة في الشرط التحكيمي ويخالفها، لأن الاجتهاد اصبح يعتبر السلطة القضائية هي المختصة للبت بطلب رد المحكم، ليس حين يكون القانون المصري مطبقاً، بل حين يكون نظام غرفة التجارة الدولية التحكيمي هو المطبق او نظام تحكيم اليونسترال... والذي سينجم عن ذلك ان الشركات الاجنبية لن تقبل بعد الآن بسهولة ان تكون القاهرة مكان التحكيم. لبنان: على خطى الاجتهاد المصري صدر في بيروت عن محكمة بداية بيروت حكم قضائي يبت بطلب رد محكم. جاء الحكم صورة في الاتزان والعدل ومعالجة الموضوع بعدل وانصاف من كل نواحيه الا ان مشكلة هذا الحكم كانت انه يصطدم بسلطان الارادة لناحية الاختصاص. فالشرط التحكيمي احال لنظام مركز التحكيم اللبناني الذي يحيل البت بطلب الرد الى محكمة مركز التحكيم الدائمة. وكانت محكمة مركز التحكيم الدائمة بتت الموضوع وردت طلب الرد، فراجع طالب الرد المحكمة القضائية التي اعتبرت نفسها مختصة على رغم الشرط التحكيمي وان كانت قد اعتبرت ان شروط عزل المحكم غير متوافرة. سائر الدول العربية: في ورشة عمل قانونية درست قانون التحكيم الأردني، وشارك فيها عدد كبير من القضاة الاردنيين لا سيما رؤساء واعضاء محاكم الاستئناف، جرى استعراض الاجتهاد القضائي الاردني الذي يتبين منه احترام كبير لسلطان الارادة ولكن الاجتهاد في دولة الامارات وفي الكويت وفي اليمن متأثر كثيراً بالاجتهاد المصري وهو يتقدم خطوة لاقدام سلطان الارادة ثم يتراجع خطوتين او ثلاث خطوات. كل ذلك يدعو الى التفكير... لعل لقاءات قانونية وورشات عمل قضائية بين القضاء والمحامين العرب تطلق مجالاً للنقاش الحر حتى يتابع الاجتهاد القضائي مسيرة المشرع، ولا يعتبر ان التحكيم ينزع سلطة القضاء بل التحكيم ينزع اختصاص القضاء في حسم النزاع ويبقى حكم التحكيم خاضعاً لرقابة القضاء في مدى تقييده بالقواعد الآمرة وبالنظام العام. لقد فرض التحكيم نفسه على التجارة والتوظيفات الدولية، وليس من حقنا ان نبقى بعيدين عنه ولا يجوز ان تهرب التحكيمات من العواصم العربية لا سيما وان الفكر القانوني التحكيمي قد تطور في العالم تطوراً هائلاً ليس اقل دلائله من ان نسبة 20 في المئة من اطروحات الدكتوراه تنصب كلها حول مواضيع قانونية تحكيمية فضلاً عن ان مجلات التحكيم القانونية مع الكتب القانونية الكثيرة الكثيرة جداً والتي تعالج قوانين التحكيم والفقه والاجتهاد في العالم تبدع كلها وكل يوم فكرة قانونية جديدة تسهل للتحكيم دوراً اكبر وتجعل من سلطان الارادة سلطاناً. * محام دكتور في الحقوق.