في معظم الأنظمة القانونية الداخلية، ومعاهدات التحكيم الدولية، يطرح موضوع استقلالية المحكم وحياده. وفي قوانين التحكيم الدولية يمر المشرّع بهذا الموضوع من دون تأكيد واشارة اليه، فيما في قوانين التحكيم الداخلية هناك تأكيد صريح على ان المُحكّم يجب ان يكون مستقلاً وحيادياً، واعتبرت محكمة النقض الفرنسية ان أسباب عزل المُحكّم هي أسباب عزل القاضي في التحكيم الداخلي. في دعوى URY C. GALERIES LAFAYETTE اعتبرت محكمة النقض "ان الاستقلالية الذهنية لا بد منها لممارسة السلطة القضائية أياً كان المصدر، لأنها صفة اساسية للمحكّمين". كان هذا التعريف من محكمة النقض في تحكيم داخلي. وفي تحكيم دولي استعادت محكمة استئناف باريس هذا التعريف، ثم استقر الاجتهاد الفرنسي على هذا التعريف للمُحكّم في التحكيم الدولي. وحين كان الاجتهاد الفرنسي يعيد صياغة هذا التعريف اعتبر استقلالية وحياد المُحكّم "اساس مهمته القضائية" او "شرطاً" مطلقاً لكل اجراء تحكيمي" واحياناً يضيف القضاء شرط "حياد المحكّم وموضوعيته". وفي القانون النموذجي للتحكيم اليونسترال يشترط في المحكم "حيدته واستقلاله". وفي هذا الاتجاه ذهب القانون المصري الذي اشترط ايضاً في المُحكّم "استقلاله وحياده". وكذلك قانون التحكيم الدولي في البحرين والقانون اليمني. اما قانون الامارات العربية المتحدة فاشترط في المُحكّم الشروط المشروطة في القاضي، واشترط القانون الهولندي "الاستقلالية والحياد" وكذلك القانون التونسي. واعتمدت اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الاخرى التي أنشأت مركز واشنطن نظام اللائحة لاختيار المُحكّمين وقضت بأن الاشخاص الذين يعينون بالقوائم يجب ان يكونوا من ذوي الاخلاق العالية ويكون مسلّماً بمقدرتهم في ميادين القانون او التجارة او الصناعة، او المال، ويمكن الاعتماد على استقلالهم في الرأي. وستكون للمقدرة القانونية اهمية خاصة بالنسبة للاشخاص الذين يعينون في قائمة المُحكّمين. ويضيف نظام مركز واشنطن: "يراعي الرئيس فضلاً عن ذلك في اختيار من يعينهم بالقوائم اهمية ضمان تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم في تلك القوائم وكذلك الاشكال المهمة المختلفة للنشاط الاقتصادي". وفي الحالات التي يذهب فيها المُحكّم بعيداً عن الحياد والاستقلال وبشكل ظاهر، فإن ذلك يؤدي الى جواز عزله. اما اذا بقي متستراً وملتزماً الرصانة ولا يظهر سوى العطف على مطالب الطرف الذي سمّاه والحرص على فهم سائر المُحكّمين لوجهة نظر وحجج الطرف الذي سماه فلا يطرح المُحكّم مشكلة. ويبقى رئيس المحكمة التحكيمية هو الضمان والرقيب وهو الذي يجب ان لا يتحيز لأنه حجر الزاوية في الحياد والاستقلال. ونصت كل انظمة مراكز التحكيم بصراحة على حياد المُحكّمين واستقلالهم من اليونسترال مروراً بنظام تحكيم غرفة التجارة الدولية الى مركز لندن للتحكيم الدولي. وينص نظام اليونسترال على إجازة عزل المُحكّم اذا رسمت الظروف شكّاً حول حياده واستقلاله، ونظام تحكيم غرفة التجارة الدولية يذهب أبعد من ذلك الى اجازة عزل المُحكّم في حال اخل بموجب الحياد او لأي سبب آخر. وفي الولاياتالمتحدة يقضي قانون التحكيم الفيديرالي بأن يكون كل المُحكّمين مستقلين وحياديين ويقول: "ان المُحكّمين الذين يختارهم كل طرف يجب ان لا يعتبروا انفسهم ممثلين لهذا الطرف او محامين له. بمجرد تسميتهم يجب ان يفكوا اي ارتباط مع الذي سمّاهم اذا كان ثمة ارتباط سابق". ومن المسلّمات ان المُحكّم يجب ان يبقى مستقلاً وحيادياً خلال سير التحكيم، حتى ان بعض القوانين أجاز عزل المُحكّم لنفس اسباب عزل القاضي. ولكن يجب ان لا نذهب بعيداً في ذلك، فالمُحكّم المعين من طرف يجب ان يكون مستقلاً وحيادياً والمُحكّم الثالث اي رئيس المحكمة التحكيمية هو حيادي ومستقل بالفعل، وهو الذي يمكن تشبيهه بالقاضي. وفي مطلق الأحوال فإن النظام التحكيمي الذي اختاره الطرفان هو الذي يحدد حقوق المُحكّمين وواجباتهم في الحياد والاستقلال. وفي نوع من الواقعية اعتبر نظام تحكيم الهيئة الاميركية للتحكيم ونظام تحكيم نقابة المحامين في اميركا ان المُحكّمين غير الحياديين الذين يسميهم الأطراف يمكن ان يكونوا ميّالين الى من حكّمهم، ويمكنهم ان لا يسلكوا موقف المُحكّم الحيادي الثالث. ولكن نقابة المحامين الاميركيين عدّلت عام 1990 نظامهما وقضت بأن المُحكّمين الذين سماهم الأطراف في التحكيم التجاري الدولي يجب ان يلتزموا الحياد الا اذا اتفق الاطراف على غير ذلك. الى اي مدى يجب ان يلتزم المُحكّم المعين من طرف الحياد؟ هل هو حياد مطلق؟ ام انه حياد نسبي؟ ام حياد من نوع خاص؟ ان عطف المُحكّم على مطالب الطرف الذي سماه وتفهمه لهذه المطالب وحرصه على ان يتفهمها سائر المُحكّمين مفهوم ومقبول لا سيما في الشرق. ولكن تحول المُحكّم الى محام بل الى جندي للطرف الذي سمّاه غير مقبول لأن فيه خروجاً عن الحد الادنى من الحياد والاستقلالية، وهو أمر يعرّض هذا المُحكّم للعزل. لكن اثبات مسلك المُحكّم المتحيز صعب للغاية، اذا كان للمُحكّم رأي مسبق في النزاع ليس من خلال كونه مُحكّماً في دعوى تحكيمية اخرى بل من خلال دراسة وضعها حول النقطة القانونية موضع البحث. فماذا يكون وضع المُحكّم في هذه الحالة؟ الاجتهاد الفرنسي اعتبر ان كتابات المُحكّم لا تسمح بوضع حياده موضع الشك وهي لا تعكس عداء شديداً من المُحكّم ضد الطرفين. يبقى ان معنى النزاهة في التحكيم الدولي كامن في الصفتين اللازمتين للمحكم اي الحياد والاستقلالية. ووفقاً للفقه فإن مسافة يجب ان تفصل المُحكّم عن الثقافة القانونية والسياسية والدينية والمحلية، اي يجب ان يتجاوز المُحكّم تقاليده وان يتمتع بانفتاح فكري على انواع اخرى من الفلسفات والمدارس الفكرية والثقافات. وحصل ذلك في دعوى PHILIPP BROTHERS وكذلك في دعوى عيّن فيها رب العمل مُحكّماً في النزاع الاساسي العالق بينه وبين المقاول ثم أعاد تسميته في النزاع المتعلق بتسييل الكفالة المصرفية المعطاة من مكتب دراساته. وحكمت محكمة بداية باريس باستبعاد المُحكّم عن القضية الثانية بحجة ان "معرفة المُحكّم بالاجراءات السابقة ليس من شأنها رسم شكوك مشروعة حول حياده وموضوعيته في الحكم في الدعوى الجديدة، طالما ان شخصه ليس موضع اي منازعة جدية". لكن المحكمة اضافت ان الحكم التحكيمي الاول كون تقويماً لمسؤولية مكتب دراسات رب العمل وان لم يكن هذا المكتب طرفاً في النزاع التحكيمي الاساسي، وهكذا قررت المحكمة عزل المُحكّم. والاجتهاد الفرنسي يعتبر انه في غياب أي حكم سابق "يمكن ان يشكل من قبل المُحكّم رأياً مسبقاً ضد طرف"، فإن مشاركة المُحكّم في تحكيم ثان متلائم مع تحكيم اول ليس موضع اي مأخذ. وفي حالات مشابهة اعتبرت محكمة استئناف باريس ان المُحكّم يمكنه ان ينظر في تحكيمين متوازيين الا "اذا صدر في الدعوى الاخرى قرار يمكن ان يشكّل من جهة المُحكّم رأياً مسبقاً، لا سيما اذا شارك المُحكّم في الدعوى الاولى بإصدار حكم ضد طرف". وفي هذه الحالات تظهر المصالح المشتركة بوضوح بين المُحكّم وأحد الطرفين الذي هو الطرف الذي سمّاه وهي مصالح كافية لخلق شكوك مشروعة حول حياده ونزاهته. واحياناً تكون العلاقة والروابط ليس بين المُحكّم والطرف وانما بين المُحكّم ومستشار هذا الطرف وهو وضع يدعو ايضاً لشك مشروع حول حياد المُحكّم ونزاهته. واذا نظر محكم في نزاع وأخذه موقفاً فيه ثم عينه طرف آخر في نزاع آخر مطابق في وقائعه ونقاطه القانونية للنزاع الاول، فهل يكون هناك مساس باستقلالية المُحكّم وحياده اذا عين هذا المُحكّم في النزاع الثاني؟ مفهوم الحياد والاستقلالية ليس من السهولة اعطاء تعريف دقيق لمعنى حياد المُحكّم واستقلاليته. واذا كانت الاستقلالية تبدو كواقع ظاهر يمكن تقديره بموضوعية، فإن الحياد والنزاهة هما حالة ذهنية ونفسية لهما طابع ذاتي اكثر مما هو موضوعي. ولأن اثبات الحياد والنزاهة أمر صعب، واثبات عكسهما أمر سهل للغاية، ذلك لأن خروج المُحكّم عن الحياد والنزاهة لا يظهر مسلكه الا في حالات استثنائية. وقد عرف الاجتهاد الفرنسي استقلالية المُحكّم بأنها "عصب مهمته القضائية"، لأن المُحكّم بمجرد تعيينه يدخل في نظام القضاة الخالي من اي ارتباط لا سيما مع اطراف النزاع وان الظروف التي تثار للشك في هذه الاستقلالية والمنازعة بها يجب ان تتوفر بها روابط مادية وذهنية وهي حالة من شأنها اذا ثبتت ان تؤثر على حكم المُحكّم اذ تشكل خطراً اكيداً على حقوق احد الطرفين. وهكذا اعتبر مُحكّما غير مستقل ذلك الذي: يعمل مستشاراً يتقاضى أتعاباً لدى أحد طرفي النزاع خلال سير اجراءات التحكيم. تصرف كممثل للطرف الذي سمّاه او تلقى تعليمات منه. ويضع القانون النموذجي للتحكيم الدولي أحكاماً للحياد والاستقلال تنص على انه: 1 - على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه مُحكّماً ان يصرح بكل الظروف التي من شأنها ان تثير شكوكا لها ما يبررها حول حيدته واستقلاله. وعلى المُحكّم، منذ تعيينه وطوال اجراءات التحكيم، ان يفضي بلا ابطاء الى طرفي النزاع بوجود اي ظرف من هذا القبيل، الا اذا كان سبق له ان أحاطهما علماً بها. 2 - لا يجوز رد محكم الا اذا وجدت ظروف تثير شكوكاً لها ما يبررها حول حيدته او استقلاله او اذا لم يكن حائزاً لمؤهلات اتفق عليها الطرفان. ولا يجوز لأي من الاطراف من طرفي النزاع رد محكم عينه هو او اشترك في تعيينه إلا لأسباب تبينها بعد ان تم تعيين هذا المُحكّم. وفي عام 1987 وضع الاتحاد الدولي للمحامين نظاماً حول قواعد سلوك المُحكّمين الدوليين لا يفرّق بين مُحكّم مسمى من طرف والمُحكّم الثالث، ووفقاً لهذا النظام فإن المُحكّمين يجب ان يتحلوا بالاستقلالية عن اطراف النزاع، والحياد في العلاقات مع الاطراف او اي شخص له علاقة بأحد طرفي النزاع. الاستقلالية الاستقلالية هي غير الحياد لأنها تفترض حالة فكرية وذهنية معينة. الانحياز احياناً يكون من الممكن ادراكه ولكن من الصعب اثباته. وكثيراً ما يكون هناك خلط بين الاستقلالية والحياد. فيما الحياد يفسر في بعض الاحيان من زاوية الجنسية بحيث لا يكون المُحكّم الثالث من اي من جنسيتي طرفي النزاع. وقد يكون الاطراف على استعداد للتخلي في بعض الاحيان عن حياد المُحكّم بحيث لا يمانعون ان يكون من جنسية أحد الطرفين، ولكنهم ليسوا على استعداد ولا بشكل من الاشكال ان يقبلوا ان يتخلى المُحكّم عن استقلاليته وان يحكم وهو مرتبط بأحد الطرفين. الحياد يمكن للمُحكّم ان يكون حيادياً بحيث لا يكون من جنسية او من دين اي طرف ولا يكون مستقلاً. وبالعكس يمكن للمُحكّم ان لا يكون حيادياً لأنه من جنسية او ثقافة او حضارة احد الطرفين وان يكون قادراً مع ذلك على اعطاء رأي وموقف مستقل في صميم النزاع. ويطرح كثيراً حياد المُحكّم في الدعاوى التحكيمية الناشبة بين شركة أجنبية ودولة من دول العالم النامي التي تسمي دائما محكّماً يكون موظفاً او خبيراً او قاضياً من تابعيتها. وهذا الامر يطرح موضع حياد هؤلاء المُحكّمين، والملفت للنظر ان محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية التي تطلب من المُحكّمين تصريحاً بحيادهم واستقلالهم عند تسميتهم، تقبل مثل هؤلاء المُحكّمين برغم ارتباطاتهم القانونية الوثيقة بالطرف الذي سماهم. من هنا فإن الحياد هو الجنسية المحايدة في النتيجة؟ والملاحظ ان بلد مولد المُحكّم او البلد الذي يحمل جنسيته لا يمثل الاهمية التي كانت تعلق على حياده او تتخذ اساساً لحياده. لحظ القانون النموذجي هذا الواقع اذ نص على انه "لا يمنع اي شخص بسبب جنسيته من العمل كمحكّم، ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك". ومع ذلك فإن الجنسية تعتمد عمليا كمقياس للحياد فاذا كان الخلاف بين شركة مصرية وشركة فرنسية فإن المُحكّم الثالث يجب ان يكون من جنسية حيادية اي من غير جنسيتي الشركتين. وذلك يفضي في كثير من الاحيان الى ايجاد محكّم له جنسية حيادية ولكنه لا يعرف شيئاً عن القانون المطبّق على اساس النزاع. ولكن العرف والواقع الذي فرض نفسه هو ان يكون المُحكّم من جنسية حيادية مختلفة عن جنسية طرفي النزاع. ونصت على ذلك القواعد التحكيمية لليونسترال بكثير من الرفق اذ قالت: تراعي سلطة التعيين وهي بصدد اختيار المُحكّم، الاعتبارات التي من شأنها ضمان اختيار محكم مستقل ومحايد وتأخذ في الاعتبار انه من المستحسن ان يكون المُحكّم من جنسية غير جنسية أحد اطراف النزاع" حتى لا تعين محاكمها مرة اخرى محكّماً من جنسية أحد الطرفين. كذلك ينص نظام محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية على انه "يتم اختيار المُحكّم الواحد او رئيس محكمة التحكيم من بلد غير الذي ينتمي اليه الاطراف". وفي الاتجاه نفسه ذهب نظام مركز القاهرة الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي المأخوذ من قواعد تحكيم اليونسترال، وكذلك فعل نظام محكمة لندن للتحكيم الدولي اذ نص نظامها على انه "اذا كان الاطراف من جنسيات مختلفة، الا اذا اتفقوا على غير ذلك، فإن المُحكّم الأوحد او الرئيس الذي يجري تعيينه يقتضى ان لا يكون حاملاً أياً من جنسيات الاطراف". الامر ليس سوى أمر مظاهر، فحياد المُحكّم ليس ضمانته في جنسيته ولكن المظاهر مهمة. فحياد المُحكّم ليست ضمانته في جنسيته ولكن المظاهر لها اعتبارها والشكل ليس أهم من المضمون ولكن للشكل أحكامه وآثاره. وموضوع الجنسية المحايدة اصبح مسلماً به كمؤشر واساس لحياد المُحكّم، حتى ان دولة كولومبيا البريطانية التي تبنت القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته اليونسترال، عينت محكمتها القضائية في نزاع تحكيمي بين طرفين كندي وياباني محكّماً كندياً فعدّلت القانون ونصت صراحة وبشكل جازم على ان المُحكّم الثالث يجب ان يكون من غير جنسية طرفي النزاع، حتى لا تعين محاكمها مرة اخرى محكما من جنسية أحد الطرفين. ويبقى سؤال هو: هل ان المُحكّم الذي يصرح عن علاقته السابقة بالطرف الذي سمّاه يبقى حيادياً، بغض النظر عن الجنسية؟ بالطبع كل محكم يجب عند تسميته ان يبيّن اي علاقة كانت تربطه بالطرف الذي سمّاه والتي من شأنها ان تؤثر في حياده في ذهن الطرف الآخر، فإذا اطلع الآخر على تصريح المُحكّم وقبل بما صرح به ولم يعترض على حياده فإن حياد المُحكّم يصبح محصناً، والمُحكّم حين يصرح عند تسميته يجب ان يصرح بكل الاسباب التي يمكن ان تكون مدعاة لعزله. ولا يصبح حياده محصناً إلا اذا قبل الطرف الآخر بتصريحه هذا. اتصالات المُحكّمين بالأطراف المُحكّم الحيادي المستقل يجب ان لا يكون له اي اتصال بأطراف النزاع خلال سير الدعوى. وهذه القاعدة متفق عليها في كل الأنظمة التحكيمية. ومع ذلك فخلال جلسات المحكمة التحكيمية التي فصلت في النزاعات التجارية الايرانية - الاميركية تصاعدت روائح اشاعات تقول ان أحد المُحكّمين نقل للطرف الذي سماه مشروع الحكم التحكيمي، الأمر الذي جعل هذا الطرف يدخل في مفاوضات سريعة مع خصمه نجمت عنها مصالحة أبرمت في آخر لحظة قبل صدور الحكم التحكيمي. وفي دعوى اخرى "همس" المُحكّم في اذن الطرف الذي سماه بتقديم مستندات اضافية تثبت أمراً كانت المذاكرة توصلت الى اسقاطه لنقص في الادلة. وتعتبر سرية المذاكرة عنصراً اساسياً في اجراءات المحاكمة التحكيمية، وبعض القوانين التحكيمية نصّ على ذلك كما نصت عليه أنظمة نقابات المحامين ومراكز التحكيم. فالاتحاد الدولي للمحامين الانكلو اميركي يلزم بصورة صريحة ان تبقى المذاكرة سرية. هل يحق للمحكّمين ان يتصلوا خلال الدعوى بالاطراف الذين سمّوهم؟ هذا السؤال لا يحتاج الى تردد بالقول ان المحّكمين لا يحق لهم الاتصال بالاطراف، إلا في مرحلة واحدة وقصيرة وهي مرحلة اختيار المُحكّم الثالث اذا كان المُحكّمان مكلفين باختيار المُحكّم الثالث، اذ ذاك يقبل اتصال المُحكّمين بالأطراف الذي سمّوهم للتداول معهم في اسم المُحكّم الثالث حتى لا يأتي مفاجئاً او غير مقبول من اطراف النزاع. الجنسية وحياد المُحكّم أصبحت الجنسية هي مؤشر ومفهوم حياد المُحكّم كما ذكرنا سابقا. وكل انظمة مراكز التحكيم الدولية تشير الى ان المُحكّم المنفرد والمُحكّم الثالث يجب ان يكونا من غير جنسية الطرفين. لكن هذه القاعدة ليست من النظام العام وهي نسبية في مفهوم الحياد. ففي الإمكان ان يتفق الطرفان على عكس هذه القاعدة. بل ان الاجتهاد الفرنسي ذهب أبعد من ذلك واعتبر ان القاعدة الواردة في انظمة مراكز التحكيم لا تقيد المحكمة الفرنسية حين يطلب منها تعيين محكم دولي، لأن المُحكّم هو قاض وليس وكيلاً لأحد الطرفين بحيث يكون موضع شبهات سببها جنسيته، وهكذا عيّنت المحكمة الفرنسية محكما ثالثاً فرنسي الجنسية في نزاع بين طرف فرنسي وطرف مكسيكي، بناء على طلب وردها لتعيين محكم حيادي. ولكن اذا كان هذا الاتجاه محصناً لا يقبل النقد على الصعيد القانوني الا ان الوضع يصبح دقيقاً على الصعيد العملي والواقعي حيث المطلوب إبعاد اي شبهة او قرينة او مؤشر على انحياز المُحكّم. وطرح موضوع الجنسية بمفهومه الثقافي والفكري في دعوى تحكيمية امام غرفة التجارة الدولية، اذ عيّنت محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية محكّماً ثالثاً من الجنسية اليونانية في خلاف بين شركة مغربية وشركة المانية. وقدمت الشركة المغربية طعناً امام المحكمة القضائية الفرنسية بقرار محكمة غرفة التجارة الدولية مدلية بأن الجنسية اليونانية هي جزء من الجنسية الاوروبية. لكن المحكمة القضائية في قرار اصدرته في 18/1/1991 اعتبرت انه لا يمكن للقاضي ان يحل محل المُحكّمين الذين لهم اختصاص النظر باختصاصهم ولا محل مركز التحكيم حين يسير التحكيم طبقاً لنظامه. وهكذا نرى ان المحكمة القضائية تهربت من الاجابة على السؤال حول ما اذا كان مفهوم الجنسية مفهوما ثقافياً حضارياً ام لا. واذا كان من الصعب تحديد تعريف دقيق لاستقلالية وحياد المُحكّم الا انه يبقى في الإمكان التعريف عن طريق النفي، وهو ان لا تكون هناك شكوك مشروعة لها ما يبررها في حياده واستقلاله، من خلال الظروف والوقائع المحيطة به. القانون النموذجي للتحكيم الذي وضعته اليونسترال هو الذي كرس فكرة الشكوك الي لها ما يبررها حول حيدة واستقلالية المُحكّم والتي تبرر عزله. ويحرص كل طرف في التحكيم على ان يعين "محكّمه" وهذا الحرص يتمسك به الذين اختاروا التحكيم، تمسكاً شديداً. فهل المُحكّم المعين من طرف هو محاميه وجنديه ووكيله، ام ان المُحكّم يجب ان يكون حيادياً ومستقلاً عن الطرف الذي عينه؟ هناك موقفان في هذا الموضوع. الأول ظهر في الولاياتالمتحدة في التحكيم الداخلي يفرق بين المُحكّم المعين من طرف والذي لا يكون حيادياً والمُحكّم الحيادي الذي يشترط فيه الحياد والاستقلال كما يشترط في القاضي. وهذا ما ورد في نظام هيئة التحكيم الاميركية حيث المُحكّمين الذين يختارهم أطراف النزاع ليس مفترضاً بهم الحياد وليسوا ملزمين تقديم تصريح عن حيادهم ولا هم معرضون للغزل. والاجتهاد الاميركي يسير في هذا الاتجاه وكذلك تسير في هذا الاتجاه القواعد التي وضعتها نقابة المحامين الاميركيين مع الهيئة الاميركية للتحكيم. أما سائر المُحكّمين فعليهم واجبات الحياد والاستقلالية. هذا اتجاه لم يبق مستمراً طويلاً، فاتحاد نقابات المحامين في القواعد التي وضعها عام 1978 للتحكيم، نص على ان المُحكّمين الدوليين يجب ان يتوافر فيهم الحياد والاستقلال ويبقوا بعيدين عن مساندة اي طرف. والهيئة الاميركية للتحكيم عدّلت موقفها حين نصت على انه في التحكيم الدولي يشترط في المُحكّم ان يكون حيادياً مستقلاً الا اذا اتفق الاطراف على غير ذلك. ومع ذلك فإن اصواتاً فقهية ترتفع في اوروبا داعية الى اسقاط حجاب الخبث عن المُحكّمين المعينين من الأطراف او المُحكّم المعيّن من دولة يكون موظفاً يعمل في جهاز هذه الدولة. والاتجاه الفقهي الاوروبي يقول بأن يكون هناك حد ادنى من النزاهة وان لا يكون هناك تجاوز او انحياز غير منضبط. ولكن يبقى الاتجاه الغالب متمسكا ليس بالحد الأدنى للنزاهة بل بالحد الاقصى لحياد واستقلال المُحكّم المعين من طرف، لأن كل تسوية في هذا الموضوع سيئة لسمعة التحكيم لأنه لا يمكن المساومة على وظيفة القاضي التي يمارسها المُحكّم وا كانن مُعيّناً من طرف في النزاع. وفي هذا الاتجاه ذهبت اكثر القوانين العصرية وكذلك أنظمة مراكز التحكيم الدولية. وباستثناء القانون الاميركي فإن كل القوانين والاتفاقات الدولية متمسكة بحياد واستقلالية المُحكّم المعين من طرف في النزاع ولا تفرق اطلاقاً بينه وبين المُحكّم الثالث او المُحكّم المنفرد. ومع ذلك نلاحظ مثلاً ان الاجتهاد السويسري للمحكمة الفيديرالية اعتبر ان حياد واستقلال المُحكّمين الذين سمّاهم اطراف النزاع يجب ان لا توزن بنفس دقة ووزن وحياد واستقلال المُحكّم المعين من شخص ثالث سلطة التسمية او من القضاء. اما الاجتهاد الفرنسي فإنه قاطع متشدد حول هذه النقطة، فهو يلزم كل المُحكّمين بمستوى واحد من الحياد والاستقلال الذهني ويعتبر ان عملية تعيين طرف لمحكم ليست تصرفاً منفرداً من هذا الطرف ولو كانت بمبادرة من طرف منه بل هو يعبر عن إرادة الطرفين. * دكتور في الحقوق - محام - رئيس الهيئة العربية للتحكيم - امين عام مجلس التحكيم الاوروبي - العربي.