راجت في الآونة الآخيرة عريضة سياسية صادرة عن "لجان الدفاع عن حقوق الانسان في سورية"، تطالب السلطة برفع حال الطوارئ المفروضة على البلاد، منذ تسلم حزب البعث الحكم في الثامن من آذار مارس 1963، و"الغاء مستتبعاتها والآثار التي نجمت عنها" القانونية والسياسية والاقتصادية. ودعت اللجان المواطنين السوريين للتوقيع على هذه العريضة، في اطار حملة هدفها جمع مليون توقيع. وهو رقم قياسي بمعايير بلد يتجاوز عدد منتسبي أجهزة الامن فيه مليون نسمة، وتحول الخوف الى ثقافة شعبية. فما كان يقال عن العراق في هذا المجال، ينطبق على سورية، مع الفارق في الكم، وليس في النوع. ان الملاحظ في المطالب المطروحة انها لم تتبدل منذ سنوات. الوضع "الجديد" راهن عليه قطاع واسع من المجتمع، لكن الحال يرفض ان يحول. فالسلطة الراسخة عند نموذج الاستبداد الشرقي، ترفض ان تخطو خطوات كبيرة من أجل الانتقال نحو وضع ديموقراطي، لأنها تخاف، على ما يبدو، من حل الأزمة المستعصية لصالح المجتمع. يقول المثل العربي "الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون"، وها هي الحال مع تركة الرئيس السابق. فتجربة قرابة اربع سنوات تؤكد ان الرئيس الابن غير قادر على ولوج المرحلة الجديدة للانتقال الى طريق الديموقراطية. وهناك من يعتقد، بين قيادات المعارضة، أن النظام يطمح من وراء تأجيل حل الأزمة الراهنة، الى عقد صفقة مع الولاياتالمتحدة على حساب المجتمع السوري، وتوقه الى التغيير، لكن الأميركيين يتدللون عليه حتى الآن، وينظرون إلى المسألة من منظور مختلف. منذ ان درجت سياسة العرائض والبيانات ونحن نعثر على بند الافراج عن المعتقلين السياسيين. وعلى رغم ان ملفات كثيرة قد تمت تسويتها على هذا المستوى، فإن هناك الكثيرين من المعتقلين السياسيين لا يزالون في السجون التي لا تزال مفتوحة وتطالب بالمزيد. وهذا الأمر يجب ألا يُترك هكذا، فمن مسؤوليات قوى المجتمع المدني، والهيئات الدولية الضغط على السلطة السورية لكي تلزم جانب الصراحة والشفافية في هذا الميدان. فأمر جيد ان يتم الافراج، بين الفينة والاخرى، عن دفعة من هؤلاء كما حصل مؤخراً، لكن يجب ان يحصل هذا الأمر وفق أسس أولها الوضوح والصراحة، وهدفها إفراغ السجون في صورة نهائية. فعلى السلطة، اليوم، ان تعلن على الملأ عن عدد هؤلاء الذين ما برحوا يقبعون فيها، وما هي الأسباب والدوافع التي تحول دون تحريرهم، حتى تتاح لهم إمكانية محاكمة عادلة. وهذا يقود بالضرورة الى تسوية قضية شائكة تتعلق بالمفقودين الذين لا يعرف أحد مصيرهم حتى الآن، وهم بالآلاف. لقد حدثتني سيدة فقدت شقيقها في 1984 أن أخباره انقطعت منذ ان اعتقلته أجهزة الأمن بتهة الإنتماء الى حزب البعث العراقي. ولم تفلح والدته حتى الآن في الوصول الى خبر مؤكد حول مصيره. وهذه الحالة ليست فردية، بل تخص آلاف السوريين واللبنانيين. ثم ان الصمت حيالها لن يجعل الزمن يطمسها، بل يعمق جراحها اكثر. فالمطلوب علاجها، إذاً، ضمن نظره جرئية تتناول كشف المخفي في ملفات الماضي الاسود. ويؤكد تكرار المطالب ان السلطة مصرة على تجاهل دعوات الانفتاح والديموقراطية، لكنه يكشف، في الوقت ذاته، عن مراوحة في المكان، لم تعد تعكّر مزاج اصحاب الحكم الذين يضربون المثل بهذه الوسيلة النضالية، من باب تسامح السلطة مع خصومها. فهي تتركهم ينتقدونها بحرية هي دليل على سعة صدرها وقبولها وجود الرأي الآخر. ان قوى المجتمع المدني تدرك أن العريضة والبيان يبطلان ان يكونا مع مرور الزمن طريقة في الاحتجاج والرفض، ويتحولان الى اسلوب في المراجعة السياسية، تفقده وهجه ومفعوله قوة الروتين والعادة. لقد تحدث البعض عن الدعوة الى عصيان مدني في ذكرى الانقلاب الذي قاد البعث الى السلطة في الثامن من آذار مارس. وهذا أمر جديد على الحياة السياسية في هذا البلد، وهو يحصل للمرة الاولى. ومن دون شك، فإن السوريين الذي يعيشون في الداخل، يستطيعون الحكم أكثر من غيرهم حول امكانية وجدوى هذه الخطوة. الا ان مجرد التفكير فيها يعني ان هذه المحطة تستطيع ان تشكل نقطة لقاء لكل متضرر من الحكم. فالمطلوب إدراكه أن اللقاء تحت هذه اللافتة، بعد صمت اربعة عقود قام خلالها حكم البعث بتعقيم الحياة السياسية، وتفريغ الثقافة من حمولتها، سوف يبدأ بوصفه محاولة تعبير سلمي عن الكبت، لكنه سوف ينتهي الى الفعل. لقد لخّص المعارض رياض الترك آلية الاستبداد في جملة واحدة. فبعد خروجه من السجن بعد 17 فيه، قال في حوار مع "قناة الجزيرة" الفضائية: "اليوم مات الديكتاتور". فما كان من السلطة الا ان أعادته الى ماوراء القضبان. فهي إنما أرادت من عملية اعادة سجنه تجريد خطابه من المغزى، لكي يبدو وكأنه ارتكب مغالطة سوف يعتذر عنها، وأن الأمر ليس إايذاناً بنهاية إذعان المجتمع السوري.