لا ندري ان كان الحادث الذي تعرضت له القوات اليابانية في بلدة السماوة العراقية، من دون اصابات لحسن حظها، هو آخر ما ستتعرض له من هجمات. الا ان وصول هذه القوات الى تلك البلدة جنوب الرافدين سبقته تحولات يابانية لم تكن في الحسبان في مسيرة مضنية عمرها ربع قرن تبدأ وكأنها خارج سياق "انتصارات" "المعجزة اليابانية" منذ 1945. فقد اخذ كثيرون من نقاد التجربة اليابانية وخصومها يظهرون منذ ثمانينات القرن العشرين نوعاً من الارتياح الظاهر او الخفي، للازمات غير السهلة التي تتعرض لها اليابان حالياً، بدءاً بأزمتها الاقتصادية في العقدين الاخيرين، وصولاً الى ازمتها الاجتماعية والروحية التي اتخذت منحى خطيراً قبيل نهاية القرن المنصرم بتفجر "اصولية" يابانية، لم تكن متوقعة، تتملكها الرغبة في الإبادة والانتقام الى حد نشر الغاز السام في وجه المجتمع كله من دون تمييز وهي ظاهرة سبقت، بسنوات، احداث ايلول سبتمبر التي اعلنت جهات "اصولية" اسلامية مسؤوليتها عنها... هذا بينما كان المستعربون اليابانيون الى وقت قريب يسألون اصدقاءهم العرب: اصولية؟... ماذا تعني اصولية؟. وفي غمرة هذه الازمات وجدنا بعض "العرّافين" المنذرين بالشؤم يضيف الى هذا كله المغزى القدري لزلزال مدينة كوبي المدمر الذي وقع في اليابان قبل سنوات ليوحي بغضب السماء وباقتراب يوم القيامة والدينونة بالنسبة الى اليابان المزدهرة المدهشة "عقاباً" لها على معجزة التحديث والازدهار السريع التي "تحدت" بها قدر الوقوع في قبضة الاحتلال الاجنبي بعد اول واشنع محرقة نووية في التاريخ، الامر الذي يشير الى ان الوقوع تحت احتلال اجنبي ليس نهاية العالم وانه رهن بارادة الشعوب. وستبقى الطريقة التي واجهت بها اليابان في ساعة المحنة، ذلك الاحتلال بالتحول الى اعادة البناء الفوري على رغم وطأته، من النماذج المشعة في هذا العصر. ولكن بلا شك، فإن اليابان تواجه اليوم مشاكل غير يسيرة. وذلك في تقديرنا الكبير والتقدم المتسارع الذي لا بد ان يراكم من الازمات ما يساوي حجمه من الانجازات. ثم ان الخط البياني للرأسمالية عرضة في كل مكان لمثل هذه الانحناءات الحادة ولهذه الدورات المتعاقبة من الازدهار "ثم التأزم والكساد" ثم الازدهار من جديد وهكذا دواليك بحسب القوانين المعروفة للظاهرة الرأسمالية التي لن تكون الرأسمالية اليابانية استثناء لها بطبيعة الحال، خصوصاً مع اتساع آثار "العولمة". اما في ما يتعلق بأعراض الفراغ الروحي الذي يتحول قلقاً وعنفاً و"ارهاباً" وسط خواء العالم المادي الحديث - في الغرب او الشرق - فان اليابان ايضاً معرضة له كغيرها و"الخصوصية" اليابانية في هذا الشأن تثبت ان هذا "الارهاب الاصولي" غير مرتبط - ضرورة - بالفقراء والمجتمعات الفقيرة والمعدمة وحدها، وان الاغنياء والمجتمعات الميسورة ايضاً يمكن ان تصاب به لأسباب تتعلق ب"الفقر" الروحي والفساد الاجتماعي والسياسي اكثر مما تتعلق بالفقر المادي، وذلك ما اتضح ايضاً من دراسة خلفيات بعض العناصر من منطقة الخليج العربي التي تورطت في اعمال او شبهات ارهابية من دون ان تكون بالضرورة منتمية الى بيئات فقيرة مادياً. واذا كان من "نقد" يوجه للظاهرة اليابانية الحديثة في هذا الصدد فهي انها بتتلمذها المنهجي على الغرب الحديث قد اخذت منه لا مبالاته في شؤون الروح مثلما اخذت منه اهتمامه الشديد بعالم الطبيعة والمادة والمصلحة الاقتصادية، وان ظهرت مؤشرات انبعاث روحي فيها من السابق الحكم عليه، هكذا جاءت النهضة اليابانية لتؤكد على قيم الاستهلاك الدنيوي شأنها في ذلك شأن مثيلاتها في الغرب فلم تتضمن اشعاعاً روحياً منذ البدء يمكن ان يميزها عن مادية الغرب المتآكلة والتي بدأت المجتمعات الغربية، خصوصاً المجتمع الاميركي، تدفع ثمنها من حياة اجيالها الجديدة وامنها الداخلي وصحتها العقلية، وذلك ما أخذه عليها، مثلاً، مفكر غربي ذو جذور ماركسية سابقة كروجيه رجاء غارودي الذي استشعر شخصياً في نهاية رحلته بين الافكار والمعتقدات الحاجة الى خلاص روحي تمثل في اعلان اسلامه. غير ان هذا النقد "الفلسفي" او "الروحي" يشمل مختلف النهضات في عالمنا المادي الحديث من غربية وشرقية على السواء ويعبر عن ازمة الانسان الروحية في العصور الحديثة اجمالاً. والواقع ان المسؤولية الخطيرة، على الصعيد الاقليمي والدولي عموماً، هي مصدر القلق الحقيقي والعميق بالنسبة الى اليابان، اذا لم تحسن القيادة اليابانية ومعها النخب اليابانية التكيف الفكري والنفسي والعلمي مع متطلبات هذه الحالة الجديدة ومقتضياتها، وما تفرضه من مسؤوليات خطيرة ودقيقة تختلف تماماً عن الموقف الآمن والمربح المريح الذي تعودته اليابان منذ دخولها تحت المظلة الدفاعية الاستراتيجية الاميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والى يومنا هذا. ولعل مسارعة الحكومة اليابانية الحالية الى ارسال قواتها الى العراق ضمن "التحالف الدولي" على رغم المعارضة الداخلية الشديدة لها، يفسر الاستجابة التي لا مفر منها للحالة الجديدة التي تمر بها البلاد. ذلك ان الازمة الكبرى في اليابان بحسب تقديرنا تتركز في كيفية التعامل مع هذه "الحقيقة - المسؤولية" التي غدت على الابواب، وليس في مظاهر تلك الازمات الراهنة التي ذكرناها. بل يمكن ان نذهب الى القول ان هذه الازمات واستفحالها هو انعكاس لاغفال التكيف السريع مع تلك الحقيقة الكبرى في المشهد الياباني والعالمي او لتأجيله اكثر مما ينبغي. وبلا شك فان لواشنطن حساباتها الخاصة بها لدفع اليابان الى المعترك الدولي لتحقيق "توازن القوى" مع الصين في الشرق المتسع بالمصالح والاخطار، ولا نشك في ان الدهاء الياباني سيساير واشنطن سياسياً لبعض الوقت الى ان يتحول الى منافستها كما حدث في معجزة السباق الاقتصادي. وفي كل الاحوال فقد جاء وقت التحول في اليابان من العقلية المركنتالية التجارية الضيقة لمديري الشركات والمصانع اليابانية الى عقلية القيادة الاستراتيجية المسؤولة في العالم. وشتان بين هذين النوعين من العقلية والقيادة. واذا كان اليابانيون قد انزعجوا بحق لوصف ديغول لهم بأنهم باعة الترانزستور فانه قد حان الوقت لبروز ديغول ياباني يدخل باليابان نادي القيادة العالمية. واذا كان الياباني قد اثبت قدرته في بدء النهضة على التحول من وضعية الاقطاعي المنعزل في ارخبيله البعيد الى دينامية الرأسمالي التاجر صاحب الشركة العالمية القادرة على الحركة والانتاج السريع والتعامل مع الاسواق العابرة للقارات، فان الاختبار التاريخي الذي يواجهه الياباني المعاصر: هل في امكانه التحول من عقلية الصانع التاجر الذي لا يهمه غير الربح - او باختصار "الحيوان الاقتصادي" - كما يسميه بعض النقاد - الى عقلية رجل القيادة العالمية المسؤول الذي يمكن ان يتقبل التضحية والخسارة بما يتجاوز انانية المركنتالي الذي لا يفكر الا في مصلحته الخاصة وهي الصورة التي ترتبط بالصورة النمطية لرجل الاعمال الياباني عامة في الوقت الحاضر؟ والاهم من ذلك ان يتحرر السلوك السياسي والعسكري المتجدد لليابان من ترسبات المغامرات الخارجية لقواتها في الماضي غير البعيد. تلك هي مسألة المسائل في يابان اليوم والغد وعما اذا كانت اليابان سترقى الى مستوى التوقعات العالمية المنتظرة منها؟ ومعرفتي الفكرية باليابان وبمقدرتها على التكيّف الجذري في اوقات الانعطاف التاريخية الحاسمة، خصوصاً منذ نهضتها في عهد الميجي وكذلك بعد ضربها بالقنابل الذرية الاميركية، تجعلني اجيب بالايجاب على هذا السؤال. ذلك ان الانعطاف والتكيف المدهشين اللذين حققتهما اليابان بعد المحرقة النووية والهزيمة الشاملة من اجل اعادة بناء مجتمعها الجديد يثبتان مدى قدرة اليابانيين على انجاز مثل هذه التحولات، شرط التصدي لها جذرياً بالفعل. وهو انعطاف علينا ان نعترف بأنه ليس سهلاً على الاطلاق لانه انعطاف من وضع غير طبيعي اصلاً، فرضه واقع العالم وتوازن قواه بعد الحرب العالمية الثانية واستطاعت اليابان ان تحوله من هزيمة عسكرية الى نصر اقتصادي باهر في عقود قليلة مستفيدة من المظلة الاستراتيجية الاميركية والدعم الاميركي، كما فعلت المانيا في الجانب الآخر من العالم، والواقع ان المهزومين الرئيسيين في الحرب العالمية الثانية وهما اليابانوالمانيا قد وجدا نفسيهما الآن ابرز المنتصرين بتفوقهما الاقتصادي ووضعهما الاستراتيجي المريح في ظل المظلة العسكرية الاميركية، وذلك ما يغريهما بالاستمرار فيه، على رغم انزعاج الاميركيين المتزايد من ذلك. واذا كانت اليابان لم تعلن "تمردها" على واشنطن كما فعلت المانيا اخيراً في شأن العراق، فان اوساطاً يابانية لا تخفي اعجابها ب"استقلالية" فرنسا حيال السياسات الاميركية عموماً، ملمحة الى ان اليابان تستطيع ان تبقى حليفة للولايات المتحدة ولكن "على الطريقة الفرنسية"، في اقل تقدير. واذا كانت المانيا قد تجاوزت هذا الوضع غير الطبيعي بالعودة الى وحدتها القومية الكبرى في ظل الرابطة الاوروبية وبتضحيات جسيمة في ازدهارها الاقتصادي بعد الوحدة، فان اليابان مقبلة - شاءت أم أبت - على هذا النوع من "العملية الجراحية" التاريخية الكبرى بحسب ظروفها الخاصة بها. واول شروط هذه العملية التحول الى شريك استراتيجي وعسكري كامل في الدفاع عن ذاتها ودائرتها الاقليمية في شرق آسيا والشرق الاقصى عموماً، مع كامل المسؤوليات الاقتصادية والعسكرية والسياسية المترتبة على ذلك، اضافة الى تحمّل مسؤوليات دولية اكبر واكثر جدية في بعض المناطق الحساسة من العالم، خصوصاً منطقة الخليج والشرق الأوسط والعالم الاسلامي عموماً. وسيرتبط حصول اليابان على مقعد دائم في مجلس الامن بهذا النوع من المسؤوليات، اذ لا يمكن ان يكون مثل هذا الامتياز الدولي رمزاً شرفياً من دون مقابل، ولعل سرعة ارسال القوات اليابانية الى العراق في هذه الاوقات الصعبة، بمثابة محطة لا بد منها على الدرب الطويل الى مقعد دائم في مجلس الامن جنباً الى جنب مع القوى الكبرى في العالم... وما مبدأ "الدفاع عن النفس" الذي اعلنت اليابان التزام قواتها به في العراق سوى دفاع عن النفس في الواقع ضد تلك القوى المنافسة اكثر مما هو ضد المهاجمين داخل العراق! واذا كانت جارتها الاصغر: كوريا الجنوية قد اصبحت المشارك الثالث - بعد الولاياتالمتحدة وبريطانيا - من حيث التواجد العسكري في العراق فلنا ان نتصور طبيعة السباق الذي تخوضه اليابان في الوقت الراهن! ومن اهم الدوافع الضاغطة في هذا السياق كما اشرنا صعود القوة الصينية العظمى المجاورة وتهديدها لكيان فورموزا الصين الوطنية التي ستكون اليابان اقرب المعنيين بمصيرها في حال تعرضها لهذا الاحتمال. واذا كانت اكبر حربين في القرن العشرين لم تقعا الا بين القوى الرأسمالية، فدعونا نأمل الا يعيد التاريخ نفسه بعد اكتمال تحويل الصين الى الرأسمالية - حيث الوضع هناك شبيه اليوم بأوروبا مطلع القرن العشرين. واياً كان الامر فكما اضطرت المانيا الغربية الى تقديم تضحيات اقتصادية جسيمة لاستيعاب شطرها الشرقي والارتفاع بمستواه والخروج من الوضع غير الطبيعي الذي كانت فيه على رغم مغرياته وفوائده المادية، فان اليابان ستكون مضطرة - عاجلاً ام آجلاً - الى الاقدام على هذه التضحية المادية والمعنوية الكبيرة لتحمّل مسؤوليتها الجديدة التي استحقتها عبر عقود من البناء والعمل والصبر. وكلما تأخرت في التكيف مع هذا الاستحقاق وفي تحمل مسؤولياته، كلما تزايدت الازمات المتعددة التي تعاني منها الآن، لان معظم هذه الازمات انعكاس لتأخر الاعلان عن "النضج" النفسي والعقلي للقوة اليابانية الكبرى في بُناها الفوقية على رغم اكتمال نضجها المادي. * مفكر بحريني.