أفراد محصورون في مكان مغلق، يتصارعون تحت أعين الكاميرا والمشاهدين لينتصر منهم فرد في النهاية. "البقاء للأقوى" طريقة جديدة للبرامج التلفزيونية تحصد نجاحاً منقطع النظير في العالم. عام 1999، بدأت هولندا "تلفزيون الواقع" عبر حلقات شاهدها ثلاثمئة مليون متفرج من أنحاء العالم كافة. ومنذ ذلك التاريخ، الذي قد يدخل التاريخ من كثرة ما أثير حوله من نقاش وتحليل، اعتمدت تلك البرامج في خمسة عشر بلداً في أميركا. وضع 16 متسابقاً في جزيرة معزولة وكانوا يأكلون حتى دود الأرض، وتابعهم خمسون مليوناً. في اسبانيا راقبت 27 كاميرا عشرة أشخاص مجهولين، ودارت معهم عيون 12 مليون متفرج، أي ثلث السكان. في فرنسا أطلق تلفزيون الواقع حلقات "لوفت ستوري"، اذ حبس عدد متساوي من الشابات والشبان المستعدين لكل شيء في شقة ورصدت جميع تحركاتهم خلال 70 يوماً. في كل أسبوع، تتم تصفية أحد المشاركين وإخراجه من المجموعة باستفتاء آراء المشاهدين. لا شيء يحدث حقاً. لا آراء تطرح، بل شباب يواجه بعضه بعضاً، ويقف أمام تحديات من أجل البقاء. كلمات ليست كلماتهم يقول فيليب موريه الكاتب الفرنسي في تحليله لتلفزيون الواقع: "التلفزيون منذ خمسين عاماً، لم يكن شيئاً سوى الشيء الذي يحل مكان الحياة. إنه مليء بالفراغ الذي تركته الحياة خلفها ... في "لوفت ستوري"، فتيان وفتيات يعبرون غرفة، لا شيء آخر. يتكومون تحت أغطيتهم ... ويضمون المخدات إلى صدورهم، ولا يقومون إلا بضم المخدات إلى صدورهم... ويكررون عبارات "هذا واضح" "هل تدرك ما أريد قوله؟"... وهم لا يريدون قول أي شيء .... يضجعون على ألآرائك في انتظار أن يرموا خارجاً". أمام انتشار ظاهرة تلفزيون الواقع ونجاحها عالمياً، قبل أن تنجح عربياً، لا مفرّ من استعادة مفهوم "مجتمع الاستعراض" Sociژtژ de Spectacle الذي أطلقه غي دوبور، وراج في فرنسا بعد 1968. فكل شيء يتحول إلى عرض بفضل التلفزيون: الوقائع حروب، سياسة، حركات اجتماعية لم تعد موجودة كوقائع بل كعروض. الواقع أنزلت قيمته وبقي العرض هو المهم... وبتركيز الناس على العروض يفقدون اتصالهم بالحياة الواقعية. وبعد 50 سنة من التلفزيون، يقول موريه، ان الناس أصبحوا مشابهين لما يشاهدونه على شاشاتهم. لم يعودوا حقيقيين... .إنهم يعبرون عن أفكار ليست لهم، ويستخدمون كلمات ليست كلماتهم، ويتخذون مواقف مستوحاة من مشاهداتهم. أي أنهم أصبحوا مشابهين لما يعرضه التلفزيون بحيث يمكن وضعهم فيه! وهذا هو تلفزيون الواقع، بحسب موريه. ولكنه ليس الواقع الذي يدخل التلفزيون، بل هو التلفزيون الذي يمحو الواقع ويبتلعه. 3 ملايين اتصال هاتفي بعد النجاح الساحق ل "لوفت ستوري - 1" جاء الجزء الثاني لكنه لم يشد المتفرجين كسابقه. كما بدأت القناة الفرنسية الأولى عرض "ستار أكاديمي" الذي ربح في 16 حلقة "مصيرية" منه، مئة وعشرين مليون يورو أتت من المواد المباعة والمتعلقة بالبرنامج والاسطوانات والصور الموقعة يكفي توقيع أحد المشاركين على لعبة الكترونية لتختفي من الأسواق والاتصالات الهاتفية 3 ملايين اتصال في النهائيات!. القيم التجارية وحدها تبقى وتكسح كل القيم الأخرى، وهي التي خلقت هذه المكونات السحرية للوصفة التي نجحت في لصق الملايين أمام الشاشة الصغيرة في فرنسا وبلدان أخرى: استخدام أناس عاديين، مراقبتهم، مكافأتهم. "في اللوفت لم يكن لدى الشباب ما يقولون، يقول المخرج السينمائي جان جاك بينيكس، كل ذلك كان اعتيادياً، وهذا ما يطمئن الجمهور ومن هنا النجاح". "في تلفزيون الواقع يبدو المشاركون كعرائس متحركة تضحك وتبكي وتصرخ في حركات مدروسة، لا تعكس أي شخصية. إنها شخصيات غير خطرة ويمكن بالتالي وضعها في التلفزيون. شخصيات عادية ترغب في الظهور، في الاعتراف بها، ليس لتميز فيها بل فقط لإظهار الأنا المتضخمة لديها... نجوم تلمع بفضل سطحيتها" كما عبر أحد المعلّقين الصحافيين. وكلما كان ما في الداخل ضئيلاً، كلما حاولنا البروز أكثر. مع انتشار العشرات من البرامج المشابهة في فرنسا، ظهر أيضاً تعبير "التلفزيون المزبلة"، فكيف يمكن وصف برامج يحشر فيها 12 شخصاً ليعيشوا معا 12 أسبوعاً وتخصص لهم عشرة سرائر فقط؟ أو شاب واحد أريد له أن يكون فائق الجاذبية ؟ لتقع عشر فتيات في غرامه ولتتم تصفيتهن واحدة بعد الأخرى في كل أسبوع، وهو يبدي تأثراً مفتعلاً في كل مرة على فقدانها ؟ وتكثر الأسئلة كذلك. هل كل ذلك لعبة أم حقيقة؟ برامج مبرمجة أم واقعية؟ هل المشاركون ممثلون أم هم دمى في مسرح للعرائس؟ استبعاد المتوازنين نفسياً أحد مقدمي حلقات لوفت ستوري يقول: "ليس ممكناً وضع سيناريو لبرنامج تلفزيون الواقع. بالطبع، فإن المرشحين موجهون ومخطط لهم. لكن ليس هناك سيناريو مكتوب مسبقاً. مثلاً كأن يتعانق فلان وفلانة". ويعترف الجميع بأن المشاهد المختارة لتعرض على الجمهور والمونتاج، هي التي توجه عواطف الجمهور نحو المشاركين وطريقة تلقيه لهم. كما أكد المشاركون أنهم لا يرون أنفسهم إلا جزئياً في ما يعرض. ويتم اختيار المشاركين بدقة.... فالشخصيات الورعة تستبعد وكذلك الشخصيات المتوازنة نفسياً إلى حد كبير. ويخفف الطبيب النفسي جيرار تشيدري، من أهمية هذه الظاهرة بعكس الكثيرين: "في كل زمان تنتشر ظاهرة ما وال"لوفت" يترجم الرغبة التي لدينا جميعاً بمعرفة كيف يعيش الجار؟ المحتوى ليس على مستوى ثقافي. إنما يتلخص بسلوك أساس للإنسان: الطعام وجذب الآخرين. الشخصيات هي هنا لتسلينا وليس لتمرير رسالة حتى لا يمل المشاهد. والمشاهدون يبحثون عن لحظات استرخاء وعن "الفانتازم" بشكل سري على إحدى الشخصيات. والادعاء أن هذه البرامج تقود إلى البلاهة يوليها أهمية أكثر مما تستحق لأن الناس تحافظ، بشكل عام، على حسها النقدي. إنما الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة الى المراهق فليس لديه النضج لتحليل ما يرى وموازنته".