البريد الذي وصلني هذه المرة من الجزائر، كان جميلاً. انه ديوان شعر وصلني في البداية كمخطوط للشاعر ياسين بن عبيد، ثم عاد فوصلني مطبوعاً وصادراً عن منشورات دار الكتب، في العاصمة الجزائر، للعام 2003 بعنوان "معلّقات على أستار الروح". ولمست من خلاله، كم ان في استطاعة الكلمات ان تخترق الازمنة والأمكنة والبلاد والأجساد، بل النفوس، اختراقاً، مثلما يخترق البرق جلد السماء. انها أي الكلمات هي التي تجعلنا في هذا اليوم بالذات، من القرن الحادي والعشرين، نستحضر الى ساحتنا امرأ القيس والمتنبي وطرفة بن العبد وعروة بن الورد ومجنون بني عامر، من مسافة آلاف الأعوام في الزمان، مثلما تجعلنا على تماس مع جبران خليل جبران، هو الراقدة عظامه في جوار الأرز، ومع يوشكين المدفون في ثلوج سيبيريا، ومع غارسيا لوركا ذي القبر الضائع، والنجوم الدامية على الكتفين. بريد الشعر الموافي من الجزائر، وصل كمثل حمامة بيضاء هربت من أفق دامٍ، أو فرت من ثغرة مفتوحة في جدار الجحيم... فالجزائر ارتبطت بأذهاننا مدة طويلة، تتجاوز خمسة عشر عاماً مضت، بالمذبحة، والموت الغامض والعشوائي، والقتل القتل القتل الواصل الى حدود السريالية... فهذه البلاد الجبلية الخضراء المغروسة في صدر افريقيا كرمح، طالما كانت تتمزق وتمزق ذاتها وأبناءها تمزيقاً كاد يقتل الأطفال والنساء والشيوخ كما يقتل الطيور والأزهار والقصائد. وكنا نسأل أنفسنا، وأخبار المجازر تتوافد الينا عبر بريد الدم: هل في امكان الشعر ان يتنفس في هذه الارض المحروقة؟ ايستطيع شاعر بعد ان يكتب قصيدة، ومغن ان يصدح بأغنية، ومسرحي ان يعرض على المسرح شيئاً آخر سوى أعراس الدم؟ قُتِل هناك الشعراء، وتم اغتيال المغنين، وطعن الروائيون والمسرحيون، وأغمدت الخناجر في ظهور النساء والصغار، فماذا بعد؟ وأنّى لشاعرٍ ان يكتب؟ من اجل كل هذا وسواه، فرحت بهذا البريد من الشعر، الآتي من غامض علم الله... حسناً... ها هي "معلقات على أستار الروح" تصلني، وها انني مدعو للاحتفال بشيء آخر غير "الموت الجزائري"... بالحب الذي تنضح به القصائد، ونكهة الروح التي طالما عذبت هناك واستبيحت... وقد آن للشعر ان ينهض بها من عذابها المقيم. وكنت غالباً ما أسأل نفسي، في فوران الدم الآثم، أين هي تجليات الدم الصوفي الأبيض المطهر، في تلك البلاد من المغرب الافريقي؟ لا بد من ان يغسل هذا ذاك، وتشرق الانوار المحمدية، من الغسق الافريقي القاتم، مثلما اشرقت اشراقتها الكبيرة من ظلمات الجاهلية. وكان لي امل بالشعر الطالع من اشراقات الروح هناك، في المغرب والجزائر والسودان، فنار المجاذيب لا بد ستظهر ثانية جذوتها الخضراء... ولا بد من النار الخضراء، تأتي ثانية وتضيء. وفرحت "المعلقات على أستار الروح". أَنِسْتُ بها قبساً من تلك النار، وهو قبس أرسل بشعاعه الاول من فتحة الديوان: "يا سيدي/ أنت أنا/ وبيننا كشف حجاب/ لك حمد النعمى/ رأيتك كما لا ترى إلا حلماً/ ... الى القائم على مملكة الفتوحات". وهذا القائم على مملكة الفتوحات، هو قطب رحى القصائد، وجاذبها وناظم سلكها، والنار التي يسعى اليها المحب، نار المحبوب، وهو قائم "مجتلاه خفاء" كما يقول الشاعر، بل هو البلوي المشتهاة حيث يهمس بإذنه: "ومالي من بَلاك شفاء"... فمفردات الوجد الصوفي من الخفاء والتجلي، والحب والمرض في الحب، والطريق والسالك، والروح وغصون الروح، والنار والليل والمجاذيب والتيه، وجمر التوجس والجمر الأخضر وليلى والمجنون والتجريد والتوحّد... كل ذلك وسواه هو عدّة الشاعر في قصائده. هي قصائد غزل، بل حب، ربما ذكّرتنا ببعض غزليات ابن الفارض، ويجري الشاعر في معظمها على وزن "البسيط" لما في هذا الوزن من انسياب وارتياح نَفَس، وقليلاً ما يحيد عنه، حتى كأنه وزن هذا الحب بالذات، الذي اشتُقَّت تفاعيله وإيقاعاته من البسيط. يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "نار الحب": "نار/ ولكن على اكتافها/ ارتفعت/ أوجاعنا/ راية خضراء تشتعل/ إنّا وجدنا طريقاً/ غير منكشفٍ/ لمن سَرَوْا مثلنا/ بالنار/ وارتحلو". وهي نار خضراء، على كل حال، وجمرها أخضر. يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "على جمر التوجّس": تورّطني عيونكِ/ في دمائي/ هنا راياتها/ كالجمر/ خُضر...". فأي نار هي النار الخضراء يا ترى، سوى نار القلب المشتعل بالحب؟ بل لعلها آتية من مجاز الجمر الذي يقول فيه الشاعر: "وداخل في عيون الليل/ تشربني/ ظلماؤه/ في مجاز الجمر/ والحجر/ التيه كانت/ ولولا التيه/ ما كبرت/ فيّ القصائد/ رسماً غير مندثر...". مجاز الجمر، والحجر، ظلماء. والظلماء تيه، والتيه تيه عذب بل هيام العاشق وتوهانه في عيون الليل، كالتوهان في بيداء العشق. هنا التيه لقيا. انه التيه الجميل. اصل الخصب والشعر، وفي التيه يطوى القلب لكي يُنشر... يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "وقفة على باب القمر": "طويتك يا قلب/ عند المرايا/ التي هشّمتك/ كطي الكتاب...". فالطي هنا في المرايا التي هشّمت القلب، هو نشر له في الشظايا... والحال، أن تأويل أبيات ياسين بن عبيد، هو تأويل يبقى بنا مقيمين عند حدود الظن... وشأنه شأن شرح الحال، فإنه لا يشرح. يقول من قصيدة "عائد من سِفْر التلوين": "لستُ أدري/ وَها/ قريب صداها/ ممكن لي الوصول/ أم مستحيل". والحبيبة التي يكني عنها الشاعر، ويلمح، ويواري، هي اكثر من امرأة وقصيدة. ولعلها ليلى الشعق الصوفي الخالدة، تلك التي اطلقها في الشعر والمعنى مجنون بني عامر، ذات مرة، من كثبان نجد، وطرح بها في كثبان الأسطورة، وتموجات رمالها. يقول ياسين بن عبيد: "لليلى شعارٌ في الهوى/ أم تردد/ ونار لليلى في الرؤى/ وتنهد/ وبيني وبين النور/ ليلى، محيلة/ على شجر/ يدنى اليه التوحد/ انا في هواها/ جملة غير واحدٍ/ انا في هواها/ واحد يتعدد...". فالجملة في الواحد، والواحد المتعدد، رموز تأخذ مصدرها من مفهوم وحدة الوجود... هذه الوحدة التي تحيل كل شيء الى رمز واحد، يحيل بدوره الى كل شيء، ومها تسمى باسمه، فهو شيء آخر غير اسمه. يقول الشاعر: "تهمي وتمطر/ آهات ودالية/ مظفورة عنباً/ ما شكله العنب؟...". هذا، على ان قصيدة الديوان، بلا منازع، هي القصيدة المسمّاة "فاتح تاريخ الروح" التي تستحق وقفة خاصة بها. وهنا نصها كاملاً: هذا هو الفاتح/ الممتد/ من وهجٍ/ فوق الخرائط/ ممتداً على شمم/ لم يركب النجم/ إلاّ/ ضوؤه فرس/ وشمسه الشمس/ لم تخطئ/ نجوم فمي/ دم غريب/ تحلى من ارومته/ شيء من القمر/ المحبوس في قلمي/ ما كان أدناه/ لو كنا الى زمن/ نأتي على زمن/ نمشي بلا قدم/ تيهاً بتيه/ تبدّلنا/ وما التفتت عين الغروب الينا/ لحظة الألم/ إلا لتأخذنا عنا/ مودّعة/ فينا العوالم/ فلتأخذ الى العدو/ يا أيها الفاتح/ الريّا سحابته/ ري الينابيع/ لم تنضب/ ولم تدم/ لا بدّ من ولهٍ/ لنا به جسداً/ مخضوضباً/ نازف الأحزان/ والنغم/ تقول منا البقايا/ أين من مدنٍ/ مرّت بها الريح/ عطشى الروح/ والحلم/ إنّا شربنا على أيدٍ/ قصائدنا/ لوزيّة الراح/ لم تكتب/ بغير دم/ قد حوصر الفرح المشروع/ في ظلل من الغمام الذي/ ما شفّ للهمم/ وشب من حولنا/ عهد مواسمه حبلى/ ولكن/ عليها/ ناب ملتهم".