مضت ثلاثة أيام ولم تأت اميلي الى الجامعة. بدأ زملاؤها في الصف يتساءلون ويتكهنون اسباب غيابها. وحين سألوا اريك، صديقها الذي كان يأتي معها كل صباح ووصل اليوم وحده، قال انها مريضة. اخبرهم انها كانت مصابة بما يشبه مرض الانفلونزا الناشفة، التي لا تسبب السعال ولا العطس، ولكنها ترهق الجسد وترفع حرارته قليلاً. وقال إريك ان الادوية الشائعة في مثل هذه الحالات والتي وصفتها لها والدتها في شكل شبه تلقائي، لم تخفف من حرارتها المرتفعة، ولم تعد اليها نشاطها الذي فقدته، كما لم تزل ألم حنجرتها. وأضاف اريك للزملاء المتحلقين حوله ان امها ستأخذها الى الطبيب اليوم، ليشخص مرضها الذي اخطأ أهلها في تشخيصه."لا اعرف اكثر من ذلك"، قال اريك في النهاية، واضاف انه قد يعرف المزيد عن مرض صديقته خلال النهار، لأنها ستتصل به حالما تخرج من عيادة الطبيب. عمّ فجأة جو من الانتظار في كافيتيريا الجامعة حيث كان الطلاب يتحدثون، وشيء من الخوف الذي تسببه الامراض التي لم تشخص بعد. كان الطلاب في الصف، حين قام اريك وخرج بعجلة، حاملاً هاتفه الجوال بيده. عرف الجميع انه تلقى اتصالاً من اميلي او من والدتها. خرج بعجلة وأحدث جلبة كأنه يحاول ولو قليلاً ان يلفت انتباه الآخرين، ويعلمهم بمدى خوفه على صديقته وانشغاله عليها. هو لم يحاول حتى ان يخبئ هاتفه الجوال في جيبه، كما يفعل عادة الطلاب لئلا يراهم الاستاذ. حمله بيده، ظاهراً واضحاً للعلن، كأنه بانشغاله على صديقته، لا يخاف القصاص او كأنه يفتعله عن قصد، عارفا ان انشغال الاستاذ على اميلي يمنعه من الاعتراض. بقي اريك بضع دقائق في الخارج، ثم دخل بتكتم وخفة لم يملكهما حين خرج. كانت نظرات زملائه كلها متجهة نحوه، ومحملة بالتساؤلات الصامتة. لم يتأخر الاستاذ بسؤاله عن النتيجة. فاجاب اريك بنبرة مطمئنة لا تشبه نبرته السابقة، بأن اميلي مصابة بال"مونونوكليوز". لم نفهم ما قال الى ان أوضح انه المرض المعروف عامة ب"مرض التقبيل". الجميع في فرنسا يعرفون مرض التقبيل هذا، الذي يصيب الكثيرين في عمر المراهقة، ويعرفون انه ينتقل بالتقبيل، لذلك يسمى ايضاً بمرض العاشقين. لم يحتج اريك الى التفسير اكثر من ذلك ليهدأ خوف زملائه وانشغالهم على اميلي، فعلت ضحكاتهم وبدت الابتسامات على وجوههم امام الموقف الذي فقد كثيراً من خطورته وجديته بلحظات، جعلت اريك، هو ايضاً، يضحك. فهو سبب مرض اميلي، والجميع في الصف يعرف ذلك. فهو العاشق وهو المقبّل. هو الذي نقل العدوى اليها، من دون حتى ان يكون مصابا بالمرض. فال"مونونوكليوز"مرض من تلك الامراض التي يخلق الجسم مناعة ضدها حين يصاب المرء به للمرة الاولى، ولا يعود يصاب به ولو نقل اليه الفيروس. وهناك اجسام تصاب بالمرض مرة، وغيرها لا تصاب الا بالفيروس فيبقى كامناً فيها ولا تظهر عليها عوارض المرض. لا يعرف العلماء لماذا يحصل ذلك للبعض دون الاخرين. ولا علاج لهذا الالتهاب غير العلاج الذي يكوّنه الجسد المريض نفسه. ارتبك اريك قليلاً، وبدا عليه ما يشبه الخجل. فهي قبلاتهما، هو واميلي، التي احدثت كل تلك الجلبة، وشغلت الاذهان في الصف. ارتبك لأنه نقل المرض اليها حين قبلها. التحرر الجنسي عند الفرنسيين يجعلهم لا يخفون قبلاتهم الغرامية في الشوارع او في المدارس او في الجامعات. وقصص الحب التي يعيشها المراهقون في المدارس الفرنسية في اعمار مبكرة تضحك اهلهم وتسلّيهم، ولا تغضبهم. ويصاب المراهقون في فرنسا بهذا المرض في اعمار مبكرة بالنسبة الى مراهقي البلاد العربية. ولأن لا خطورة فعلية على من يصاب بمرض التقبيل، فلا عقد حياله. ليس كمرض السيدا مثلاً، او غيره من الامراض المتناقلة جنسياً وتؤدي الى الموت أحياناً. لا تظاهرات ضد مرض التقبيل كما تلك التي عجّت بها شوارع باريس قبل ايام، حيث نزل الفرنسيون الى الشوارع، حاملين يافطات تدعو الى الحماية الجنسية قبل الزواج، فهي"الطريقة الوحيدة للتسلية من دون المخاطرة بحياتنا"كما كتب على احدى اليافطات التي كان يحملها شاب وفتاة وضعا واقيين ذكريين ضخمين على رأسيهما. لا عقد حيال ال"مونونوكليوز"، غير ان الحب وقبلاته يفقدان شيئاً من سحرهما، كما حين عادت اميلي الى الصف بعد ايام، ولا تزال آثار المرض بادية على وجهها.