أحدثت وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ضجة في الكويت ليس بين أحمد والمسيح، وإنما حول كيف تتعامل وسائل الإعلام المملوكة للدولة مع هذا الحدث، ما أدى إلى جدل على تكوين موقف رسمي من هذا الحدث نتيجة لاختلافات واضحة داخل الحكومة وبين أعضاء مجلس الأمة، وبين هاتين المؤسستين الحكومة ومجلس الأمة. إلا أن أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، حسمها بأن أرسل ابن أخيه الشيخ أحمد الفهد الصباح لتمثيل الكويت في جنازة الرئيس عرفات، وليقوم بواجب تقديم العزاء للأسرة وللشعب الفلسطيني. كانت في ذلك رمزية انتبه إليها الكثير بمن فيهم الكاتب الكويتي ناصر الدويلة، الذي أشار في"القبس"20/11/2004 الى "معنى عميق"في اختيار وزير الطاقة، اذ"كان والده الشهيد فهد الأحمد، الذي قتله جنود صدام حسين أحد أبطال الفدائيين الفلسطينيين، وحارب في صفوف المقاومة الفلسطينية، وبذل ماله وخاطر بحياته من أجل القضية الفلسطينية". واذا كان أمير البلاد استطاع حسم موقف الكويت الرسمي، الذي عسى أن يذكر البعض بأن الكويت دولة وليست بقبيلة أو جماعة، إلا أن الموقف الشعبي ظل متأرجحاً بين ما يكتب وما يقال. لذا فإن مراجعة لما كتب عن وفاة عرفات وشخصيته أن في الكويت أو خارجها، ستكون محاولة للتوليف بين آراء متمايزة، وسيساهم نقاش آراء أصحابها على التعرف الى أصحاب هذه الآراء، والى شخصية عرفات. ولقد اخترت مقالات لأربعة كتاب، اثنان اقرأ لهما وأعرفهما شخصياً هما الكويتيان عبد اللطيف الدعيج وشفيق الغبرا، واثنان أعرفهما من خلال ما ما ينشرانه في"الحياة"وهما الشاعر والكاتب المغربي محمد بنيس والكاتب التونسي محمد الحداد. وللقارئ العربي الذي لا يطلع على الصحافة الكويتية، فإن الدعيج كان على مدى حياته مناضلاً سياسياً وكاتباً يومياً جريئاً، وهو من النادرين من الكتاب الكويتيين الذين يكرسون حياتهم للكتابة الصحافية، لا يلبس الغترة والعقال، لكن غترته وعقاله في كتاباته الصحافية. ومعظم كتاباته هي عن الشأن المحلي الكويتي، وتتمحور على رفض تقليص مساحة الحرية للفرد، سواء من جانب الدولة أو من التجمعات الدينية السياسية التي عادة ما يسميها"قوى التخلف". نشر الدعيج موضوعه الأول عن وفاة عرفات في 13/11/2004، تحت عنوان"إنصافا لعرفات"والثاني"دفاعاً عن طارق العجمي أيضاً"وللتوضيح فإن طارق العجمي يعمل وكيلاً مساعداً بوزارة الإعلام في الكويت، وهو الذي كان مسؤولا عن بث فيلم وثائقي عن عرفات بعد إعلان وفاته، لم تتقبله غالبية الكويتيين، لأنه لم يتضمن ذكراً للموقف السيئ للرئيس عرفات من الغزو العراقي. لكن هاتين المقالتين تظلان مظهراً جلياً لما قد يقع فيه الكاتب اليومي من كبوات لا لشيء، وإنما لضرورات الكتابة اليومية، خصوصاً اذا كان الكاتب جريئاً ومبدعاً مثل عبد الطيف الدعيج، اذ وقع في تناقضات لا تتوقع من كاتب بمستواه. قد يرجع ذلك الى أنه لم يعد يرى في التجمعات السياسية الدينية إلا بعض أهدافها المعلنة وغير المعلنة بتقليص الحريات، على رغم أن هناك تقاطعات كثيرة تبقى مشتركة بين جميع التيارات السياسية في الكويت، والمصلحة العامة تقضي بتأكيد ذلك، ولعل أبرزها اهتمام هذه التجمعات السياسية الدينية بالقضية الفلسطينية وجعلها على سلم أولوياتها وهو موقف لا يحبذه الدعيج، فيبدو أنه قد ضجر من هذه القضية، لذا فهو يصرح ب"أن قضية فلسطين لم تعد وليس من المفروض أن تعني لي شيئاً"، كما يقول:"أنا كتبت وأكتب للمرة الثانية وربما العاشرة، فلم أعد أتذكر أنني لست معنياً بقضية فلسطين، وليس من المفروض أن تعني قضية فلسطين غير الفلسطينيين"، هذا في الوقت الذي يرى ان عرفات"لم يمت شهيداً وحسب وإنما عاش شهيداً"كما يعتقد ان الأمر يظل مختلفاً عن معنى الشهادة ومفهومها الذي تعلمناه وتربينا عليه، فالرئيس عرفات توفي في مستشفى في باريس. إلا أن الدعيج يبدي انزعاجاً من الكويتيين لأنهم لم يصفحوا عن عرفات ويتساءل"إن كان الرسول يبدي استعداداً ليس للصفح عن أبي جهل وحسب، ولكن لأن يعز الإسلام به، فكيف لا يصفح الكويتيون عن عرفات"وهو في المقال نفسه يبرر موقف الكويتيين بقوله انه"قد تكون المواقف الاستفزازية للسيد عرفات أثناء الغزو العراقي هي التي تقف خلف ذلك. وقد يكون اندفاعه الجامح في التأييد العلني للغزو هو الذي سبب الكراهية الأبدية لدى الكويتيين له ولمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية". وهذا غير مقبول من قبل الدعيج. اذ انه يبرر عدم الصفح نفسه الذي يزعجه أكثر من أن ينجح في تفسير أو تعليل الأسباب التي أدت إلى أن يتبنى عرفات هذا الموقف السياسي الذي لم يؤذِ الكويتيين بالقدر الذي سببه لمئات الألوف من الفلسطينيين. هذا كما أن الكويتيين لا يكرهون عرفات ولا منظمة التحرير ولا السلطة الفلسطينية، لكن هناك إجماعاً لدى كثير من الكويتيينوالفلسطينيينوالعراقيينواللبنانيين على ان الشعب الفلسطيني العظيم كان دائماً يستحق قيادة أعظم. هذا موقف واضح لدى الكثير قبل 2 آب 1990، وقد تعزز بعده. أما عن الرسول ص وصفحه عن عمرو بن هشام أبو جهل وقوله"اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين"فهذه مقولة صادقة، جاءت من الرسول في بداية الدعوة الإسلامية، وكانت بمثابة ترغيب لعمرو بن هشام لدخول الإسلام، ولا تعني الصفح أبداً. ولربما كان ينقص عمرو بن هشام براعة عرفات السياسية، لكن ألا يفتقد عرفات كذلك شجاعة عمرو بن هشام. وربما علينا أن نتذكر أنه في بيت عمرو بن هشام الذي قتل في بدر، نشأ ايضاً ابنه عكرمة الذي قاتل المسلمين في بدر وأحُد والخندق ورفض إجماع قريش على مصالحة الرسول ص بعد فتح مكة. فهجرها راغباً عبور البحر. وقد أمر الرسول ص بقتله قائلاً:"اقتلوا عكرمة ولو تعلق بأستار الكعبة". لكن زوجته لحقته وأقنعته بالعدول عن هجرته. ولما علم الرسول ص بدنو عكرمة من مكة أخبر الرسول ص أصحابه قائلاً:"سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت". وقد أوردت هذه القصة لأوضح أن الرسول غفر لعكرمة بن عمرو بن هشام وليس لوالده. هذا وقد استشهد عكرمة في اليرموك بعد أن أبلى بلاء حسناً تحت قيادة خالد بن الوليد الذي كان رفيقه في قتال المسلمين في أحد. ولربما كانت شجاعة عكرمة وتضحيته في سبيل الإسلام سبباً لأن يغفر الله لوالده والله أعلم. ورغم اختلافي مع الدعيج في كثير مما ورد في مقالتيه، أجد نفسي متفقاً معه في استهجان إصرار الحكومات العربية على رفض منح الجنسية للفلسطينيين بحجة أن ذلك سيخفف الضغوط الدولية لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. سيذكر التاريخ أن ترك مئات الألوف من الفلسطينيين على مدى أكثر من خمسة عقود في المخيمات وحرمانهم من مزاولة العمل في بعض الدول التي يقيمون فيها جريمة ضاعفت معاناتهم، وفاقمت مأساة تشريدهم. وبمقدر ما جاءت كتابات الدعيج مليئة بالعواطف مثيرة للجدل، كان مقال شفيق ناظم الغبرا"عرفات في التاريخ"في"الحياة"16/11/2004 موضوعياً لدرجة أنه كان يمكن أن يكتبه أي كاتب"موضوعي"مهتم بتاريخ الشرق الأوسط، أو أنه كان من الممكن أن يصدر عن أرشيف أي صحيفة معرفاً بعرفات. وهو أسلوب يشترك فيه كثير من المتخصصين في العلوم السياسية الذين يتعاملون مع الكتابة الصحافية بالطريقة نفسها التي يتعاملون بها مع ما ينشر في الدوريات البحثية، مضيفين المعلومات ومدخلين الضجر الى قلوب القراء. وبالنسبة الى عرفات لا بد من تأكيد أنه كان لهذا الرجل دور كبير في التاريخ، لكن دوره لا يكتب ولا يعرف بهذه العجالة. أما الشاعر والكاتب المغربي محمد بنيس، فهو من الكتاب الذين يتطلب إدراك المتعة والمعرفة والمضمون في نصوصه أن تُقرأ أكثر من مرة، اذ أنه لا يستطيع أن يكتب من دون شاعرية وجمال في الأسلوب وغنى في المفردات، حتى عندما يكتب عن موضوع سياسي مثل شخصية عرفات ومآثره. وقد تكون تعابير بنيس في"حلم اسمه ياسر عرفات"الحياة 19/11/2004، شبيهة بما دوّنه الفيلسوف والشاعر هيغل عن نابليون عندما شاهده في مدينة"ينا"في ألمانيا في العام 1806 بعد الفتح الفرنسي لهذه الأراضي التي لم تكن موحدة في ذلك الوقت في دولة ألمانية واحدة شبيهة بتعابير محمد بنيس في فقد كان يرى"الروح المطلق"مجسدة في شخص نابليون الذي كان هيغل يرى فيه أنه جاء ليس ليغير ألمانيا وإنما العالم بأجمعه، رافعاً الوعي الإنساني إلى درجة أعلى من السمو والتسامي. فبالنسبة الى محمد بنيس"لم يكن ياسر عرفات قائداً سياسياً فقط. بل إنه قائد روحي، يقود شعبه إلى معارج الحلم، ولا يتخاذل. ياسر عرفات السياسي هو الذي كان يخضع للضعف والقوة. مرة ينتصر بالدهاء وأخرى يتلاعب به المتربصون من قوى عربية ودولية.... ذلك كان صادراً عن القائد السياسي الذي تربى تربية عربية وليس له أن يغلق ما تربى عليه. لكن الشخص الذي أضاء الطريق على امتداد أربعين سنة هو القائد الروحي، المجنون بفكرة الحرية المقيم في مسكن الحلم". لا شك أن نصوص محمد بنيس عن عرفات نصوص جميلة، لكنها تشذ عن الواقع وتبعدنا عن الحقيقة التي علينا أن نصبو للاقتراب منها، وليس بالتمسك بها لكي نتجنب تشويهها. فعرفات كان قائداً سياسياً ولم يبلغ أبداً درجة القائد الروحي، كان مدفوعاً بالسيطرة على من حوله أكثر من كونه"مجنونا بفكرة الحرية"، وكانت أبرز أدوات السيطرة لديه، سلطة المال وليس غنى الفكر. وقد يخلق غيابه أزمة سياسية، لأنه استأثر بمركزية في اتخاذ القرارات عانى منها حتى رفاقه. يؤكد ذلك عبد الجواد صالح عضو المجلس التشريعي الفلسطيني الذي أخبر مراسل"نيوزويك"8/11/2004 بأن المشكلة" تكمن في أن عرفات اختزل المؤسسات الفلسطينية بشخصيته، اذ كان يعتقد أنه كل شيء". كما أن المرشح للرئاسة الأستاذ الجامعي من نابلس عبد الستار قاسم الذي قضى ثمانية شهور في سجون السلطة الفلسطينية، والذي رشح نفسه رافعا شعار"الإصلاح ومكافحة الفساد"، لم يرشح نفسه إلا ليذكّر بضرورة تغيير المنهج وليس الأفراد فقط. واذا كان هيغل رأى القائد الروحي في شخص نابليون، فإن هذا قد انتصر في فتوحات عسكرية خلدت في التاريخ، لأنها غيّرت العالم بما في ذلك ألمانيا التي ينتمي إليها هذا الشاعر الفيلسوف. عسى أن لا يجزع الذين يجدون في عرفات قائداً روحياً من رفضنا لهذه الفكرة، فالعالم العربي لم يشهد في القرن العشرين أبداً ذلك القائد الذي يجمع بين غنى الفكر والقيادة السياسية، والذي يستمر تأثير فكره بعد غيابه، مما يؤهله ليكون قائداً روحياً، ولعل الشخصية الأقرب لكونه كان يمكن أن يكون قائداً سياسياً وروحياً هو أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري، لكن كونه مسيحياً شكل عائقاً أدى إلى تدنٍ نسبي لمن التفوا حوله، وانخفاض عدد المنتمين إلى الحزب سواء في سورية أو في لبنان، وشبه غياب تام عن العراق. لعل الأقرب إلى الموضوعية في المقالات الأربعة التي تشكل موضوعنا هنا ما كتبه محمد الحداد "الحياة"21/11/2004، تحت عنوان"لا تقسوا على ياسر عرفات"، اذ يدعونا إلى الابتعاد عن رثاء سطحي ننزلق فيه الى كلمات عديمة الذوق والأخلاق. ويضيف أن عرفات"فوّت على نفسه أكثر من فرصة نجاح بمقاييس السياسة العادية، لأنه كان تكتيكياً من دون استراتيجية، مناوراً من دون خطط، وكانت تلك نتيجة حتمية للمسافة الشاسعة التي تفصل المنشود عن الممكن: لكن لم يكن وحيداً في ذلك المأزق ولن يكون أكثر جدارة من غيره باللوم والنقد، عرفات كان نحن جميعاً". هذا وبعد تسارع الأحداث والكوارث على العالم العربي والتي لعبت القيادات الديكتاتورية في جلبها، لا بد من درس آلية اتخاذ القرار السياسي لدى هذه القيادات، وهذا أقل ما يمكن أن ينجز للكشف عن الحقائق لتستفيد منه الأجيال القادمة. وأشير هنا إلى قرارين متلازمين مهمين لا يزال العالم العربي يعاني من نتائجهما. أولهما قرار صدام حسين باحتلال الكويت، وقرار عرفات بتأييده ظناً منه أن ذلك يشكل فرصة لتحقيق انتصار للشعب الفلسطيني. فقد كان عرفات يعتقد أنه وجد فرصته الذهبية بتحقيق انسحاب إسرائيلي من الضفة مقابل انسحاب صدام وقواته من الكويت، مما ظنه انه مصلحة مباشرة تبرر لديه عدم الوفاء للكويت. لقد رحل عرفات، ونحن بقلوب صادقة نطلب له الرحمة والمغفرة، أما صدام فقابع في سجن تحت حراسة أميركية. ويعتبر صدام ورفاقه المسجونون ثروة من المعلومات للكشف عن آلية اتخاذ القرارات السياسية أبان فترة حكم الطاغية. لا شك أن الفلسطينيينوالكويتيينوالعراقيين والعرب أجمعين يتوقون لمعرفة ظروف وآلية اتخاذ القرار السياسي الكارثي الذي اتخذته المنظمة بتأييد الغزو العراقي للكويت. كما يتوق العرب إلى معرفة الأسباب التي أدّت إلى اغتيال صلاح خلف أبو أياد في تونس في 14/01/1991، فالكاتب العراقي صلاح النصراوي يؤكد في"الحياة"بتاريخ 24/11/2004 أن ذلك كان لموقفه الحازم أمام صدام حسين برفض الغزو وإدانته. والمعروف عن أبو أياد الذي عاش في الكويت وعمل فيها مدرساً والتقى فيها عرفات، أنه كان وفياً لهذا البلد، كما أنه ارتبط بصداقات متينة مع الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في الكويت، إضافة إلى علاقاته القوية مع الكويت والكويتيين على المستوى الرسمي والشعبي. إن معرفة أسباب العبث السياسي الذي يعاني منه العرب، ضرورة لإيجاد الوسائل لنتمكن من الخروج من المستنقعات والإحباطات التي وضعنا أنفسنا فيها. يجيب الشاعر الفلسطيني محمد القيسي الذي انتقل إلى رحمة الله قبل فترة عن تساؤل طرحه الشاعر العراقي هاشم شفيق عما إذا كانت ثمة احباطات في الخارج قائلاً: "ما أكثرها يا عزيزي دلني على مكان أو مناخ صحي في العالم العربي المترامي الأطراف والكوارث. كان لدينا وطن محتل وثورة طليقة، فصار لنا وطن في الغيب وثورة سجينة". والشعراء لا يكشفون عن مأساتهم ومأساة الوطن لإدامة الإحباطات، وإنما لحثّنا على الخروج منها، إلى تلمس الطريق الذي سيفضي بالنور على قلوبنا وعقولنا. * كاتب وباحث كويتي.