عندي تصنيفات عدة للبشر شعوباً وأمماً. وبالنسبة الى العرب فهناك مراتب أدناها "واطي"، وهو الإنسان الذي ينكر أصله أو يتنكر له، ويتعامل مع عدو أو يهاجم وينتقد لمجرد أن يستقبله مسؤول صغير في وزارة خارجية أو يتحدث في التلفزيون. أما بالنسبة الى اليهود فهناك صنفان عندي: يهودي يمكن عقد سلام معه، ويهودي لا يمكن عقد سلام معه. دنيس روس، منسق عملية السلام في الشرق الأوسط حتى نهاية إدارة بيل كلينتون، يهودي من النوع الذي يمكن عقد سلام معه. وفي حين انني انتقدت بعض عمله ومواقفه على امتداد عشر سنوات أو نحوها، إلا انني شعرت دائماً بأنه يريد سلاماً بين الفلسطينيين واسرائيل وان السلام الذي يسعى اليه مقبول وصالح للبقاء. عادت إليّ هذه القناعة عن روس والسلام وأنا أنتهي من قراءة كتابه "السلام الضائع: القصة الداخلية للقتال من أجل السلام في الشرق الأوسط"، فقد وجدت نفسي وأنا أختلف مع عرض روس لتفاصيل أهم مراحل المفاوضات، ولكن مع تقديري فيض المعلومات ودقتها، وجهد الرجل بين الفلسطينيين والاسرائيليين في قضية شائكة عاطفية بالغة التعقيد، يمتزج فيها التاريخ بالخرافة. لم أتجاوز الصفحة السابعة قبل أن أختلف مع أفكار روس، فهو يعتبر كلام العرب عن اللوبي اليهودي ونفوذه "خرافة". ثم اختلفت معه قرب النهاية في الصفحة 718، وهو يبرئ ايهود باراك وبيل كلينتون من أي مسؤولية عن فشل عملية السلام، ويحملها لياسر عرفات. حملت أبو عمار في حياته حصته كاملة من المسؤولية عن فشل عملية السلام، إلا انه حتماً لم يكن المسؤول وحده، وكنت أتمنى لو أن دنيس روس أنصف الرجل في قمة كامب ديفيد، في تموز يوليو من السنة ألفين. فقد كان حكمه ان كلينتون حاول جهده، وكذلك باراك، ولكن عرفات قال لا لكل شيء. أبو عمار فعلاً رفض المعروض عليه في كامب ديفيد، ولكن روس يعترف في مكان آخر من الكتاب بأن الاقتراحات الأميركية في كامب ديفيد لم تكن شاملة، فهي لم تتضمن مقترحات عن ترتيبات الأمن وعودة اللاجئين، وإنما "كانت خليطاً مما قاله لنا ايهود باراك، وما اعتقدنا انه قد يقبل بالنسبة الى الانسحاب من الضفة الغربيةوغزة، وما اعتقدنا انه قد يكون الحل لقضية القدس الحساسة". أهم مما سبق، على أهميته، ان اتفاق الأطر الذي عرضه الرئيس كلينتون على الرئيس عرفات بعد ذلك بخمسة أشهر، وتحديداً في 23 كانون الأول ديسمبر التالي كان أفضل كثيراً مما تلقى أبو عمار في كامب ديفيد باعتراف روس، مما يعني انه كان مصيباً في الرفض والانتظار بضعة أشهر ليتلقى عرضاً أفضل. الاجتماع الأخير بين أبو عمار وبيل كلينتون كان في الثاني من كانون الثاني يناير 2001، وقبل أبو عمار اتفاق الأطر، بعد أن حاول تعديله، إلا أنه بعد أن عاد الى غزة، وفي وجه تحفظ بعض مساعديه، عاد الى التردد وضيّع الفرصة. ووجدت في الفصل 25 ما يشرح بعض ما استغلق عليّ في المرحلة الأخيرة من المفاوضات في طابا. وهنا أيضاً لا أعترض على سرد الأحداث كما يورده روس، فهو دقيق في ما يسجل، إلا انني أعترض على ما يهمل، فهو يقول ان ايهود باراك قبل اتفاق الأطر، وأن أبو عمار رفضه. وهذا ببساطة موازية غير صحيح، فرئيس وزراء اسرائيل قبل العرض ثم أرسل الى الرئيس الأميركي رسالة في 20 صفحة تتضمن تعديلات مقترحة، وأبو عمار رفض، ثم قدم تعديلات من عنده ليقبل. وبكلام آخر فالموقفان يعكسان طبيعة الاسرائيلي والفلسطيني، فالأول يقول: نعم ولكن، والثاني يقول: لا، ولكن، ويبدو الأول ايجابياً على رغم انه لا يختلف في موقفه عن الثاني. دنيس روس يتوقف في سرده عند اتفاق الأطر قرب نهاية السنة ألفين، غير ان الرواية لا تكتمل إلا بالحديث عن جولة المفاوضات في طابا قرب نهاية كانون الثاني 2001 . وقد سجلت ما أعرف من القصة في حينه، وأعود إليها في اختصار شديد، فأقول انني كنت في جناح أبو عمار في فندق في دافوس عندما دخل علينا كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات قادماً من طابا وهو يحمل خرائط للقدس. وقال أخونا صائب ان الطرفين اتفقا ولم تبق أي نقاط مهمة، والفلسطينيون ينتظرون حكومة اسرائيلية جديدة للتوقيع. الاسرائيليون انتخبوا آرييل شارون ليدمر عملية السلام، وشارون هو الذي دخل الحرم القدسي الشريف في أيلول سبتمبر السابق وأطلق الانتفاضة التي أخّرت العملية السلمية، كما ان انتخاب الاسرائيليين بنيامين نتانياهو عطل تقدم العملية بين 1996 و1999 . غير ان هذا كله لا يلغي مسؤولية أبو عمار عن جانبه في عدم الاتفاق، فالعمليات الانتحارية مكنت نتانياهو من الفوز بفارق نصف واحد في المئة، والتردد والمماطلة مع العنف المرافق أقنعا غالبية من الاسرائيليين بأن الجانب الفلسطيني غير جاد في طلب السلام. وجدت في الكتابة مجموعة كبيرة من القصص المعبرة، مثل الرواية الأميركية عن محاولة تسميم الأخ خالد مشعل بمادة كيماوية في عمان، وكيف هدد الملك حسين بقطع العلاقات اذا لم يرسل الاسرائيليون العقار المضاد. وفي النهاية وليضمن نتانياهو اطلاق عميلي الاستخبارات الاسرائيلية قبل ذهاب الشيخ أحمد ياسين من الأردن الى غزة. وروس يصف الأب الروحي لحماس بأنه مقعد وأعمى، مع انه كان مبصراً. وفي قصة ثانية يحكي روس كيف ثار نتانياهو لمجرد ان السيدة هيلاري كلينتون تحدثت في مقابلة تلفزيونية مع أطفال من جمعية بذور السلام عن دولة فلسطينية. ولا يرى روس ان الثورة دليل على أن رئيس وزراء اسرائيل لم يكن يريد قيام دولة فلسطينية أو يتوقع قيامها على رغم كل المحادثات. دنيس روس يتحدث عن الاسرائيليين ويقول "نحن"، ويبدو الفلسطينيون بعيدين عنه، وعندما اعترض اسحق رابين على بعض التفاصيل قال له ان يتذكر انه هو الذي بدأ العملية كلها. أما نتانياهو فالكتاب يسجل قول روس له "اننا نعمل بموجب أجندتك". وهو في الكتاب كله يكرر التزام الولاياتالمتحدة بأمن اسرائيل وحمايتها، ويتعامل مع الأمن من منظور اسرائيلي يغلب هذه النقطة على كل اعتبار آخر، وهي مهمة فعلاً، إلا أنها غالباً ما تستعمل عذراً لرفض ما يمكن قبوله. مرة أخرى، كتاب دنيس روس قراءة إلزامية عن عملية السلام، ولا يهمني أن روس يهودي ومثله مساعده ارون ميلر، رئيس جمعية بذور السلام الآن، فالمهم انه يهودي يمكن عقد سلام معه، لأنه معتدل يريد السلام. وكنت أنتقد أحياناً "حاخامات" وزارة الخارجية، أملاً بأن يحركهم الانتقاد ليثبتوا انهم غير منحازين الى اسرائيل، إلا أن ميلر اتهمني مرة، وكنا معاً في الدار البيضاء، بأنني أهاجمه لأنه يهودي. وقلت له انني أهاجم سياسته لا دينه، إلا أنني توقفت بعد ذلك عن ذكر "الحاخامات" لشعوري بحساسية المستهدفين به لمثل هذا الكلام.