تزامن عقد القمة الخامسة والعشرين لدول مجلس الخليجي في البحرين هذا الأسبوع مع تجاوز عمر المجلس العقد الثالث ببضع سنوات 25/5/1981. ومع إنقضاء هذه الفترة، تباينت الآراء حول تقويم أداء المجلس وقدرته على مواجهة تحديات المستقبل. فبعضهم يرى أن إنجازاته ما زالت محدودة، فيما يرى آخرون أن المجلس حقق انجازات في مجالات دعمت نموه واستمراريته، على رغم تعرضه لأزمات حادة كانت كفيلة في حالات مماثلة بالقضاء عليه. ويعتقد فريق ثالث أن إلقاء اللوم على المجلس فيه كثير من التجاوز، اذ بقدر ما تمنحه الدول الأعضاء من صلاحيات بقدر ما يمكن مؤسساته العمل بفاعلية. وتباين الآراء على هذا النحو، يتطلب التعرف الى حجم التحديات التي واجهها المجلس خلال مسيرته وقدرته على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية المستقبلية. لا تتجه مسيرة أي تجمع إقليمي دوماً في خط مستقيم، بل تعرف تقدماً وتراجعاً، لكن المهم أن تكون المحصلة إيجابية. وبالنسبة لأي تجمع إقليمي، كمجلس التعاون، هدفه تحقيق التكامل بين أعضائه في كل المجالات، ليس المهم توافر المدى الزمني المناسب الذي يسمح بتقويم أدائه فحسب، بل في مدى استفادة هذا التجمع من الدورة الزمنية في تحقيق أهدافه المرحلية، ومدى استجابته لدواعي زمانه ومتطلبات التغيير بإعادة النظر في أهدافه المرحلية، ومدى استعداد الدول الأعضاء لتزويد تجمعهم بالصلاحيات التي تمكنه من تطوير الأداء وتفعيله لتحقيق مزيد من طموحات التكامل والإندماج. وقد واجه الجلس عواصف وزلازل سياسية، كان يمكن أن تعصف به، بدءاً من الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت نحو ثماني سنوات، مروراً باحتلال صدام للكويت ثم معارك تحريرها عام 1991، التي دارت بين مستبد عربي ومنقذ أجنبي الولاياتالمتحدة أساساً، اعترفت له أطراف خليجية بالجميل، وتوثقت العلاقات إثرها بين دول مجلس التعاون والولاياتالمتحدة. ولكن بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، بدأ الشك المتبادل والتفكير في إعادة النظر في أسس العلاقات الأميركية - الخليجية، لا سيما بعد إعلان الرئيس جورج بوش خلال ولايته الأولى نية إدارته إحداث تغيير في البنية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. ثم جاء إسقاط نظام صدام حسين على يد قوات التحالف آذار - مارس 2003 والوجود العسكري الأميركي المكثف في العراق، ليطرح تساؤلات حول صيغة هذه العلاقات التي تمثل محور ارتكاز رئيس في منظومة الأمن الخليجي وحول مضمونها ومستقبلها. وفي الواقع لا تزال هناك صعوبات عدة تواجه جهود التوصل إلى نقطة التوازن في علاقات القوى الإقليمية في منطقة الخليج، والتي تُشعر مختلف الأطراف الخليجية بالأمن وتوفق بين متطلبات الأمن الوطني لدوله، والالتزامات الإقليمية الأمنية الجماعية المقننة في إطار المجلس وسبل تفعيلها والترتيبات الأمنية الدولية المُكملة وطبيعتها المتغيرة وكلفتها المالية والسياسية، ومرد الصعوبة إعادة بناء منظومة الأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون من منظور خليجي. اذ أن المعطيات الأمنية الإقليمية الحالية ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، نتيجة المواقف الأميركية المتغيرة وأجندتها غير المعلنة تجاه دول المنطقة. كما أن حسم الوضع في العراق ودوره العربي والإقليمي ما زال يتسم بالغموض، فضلاً عن غموض التوجهات الإقليمية لإيران. يضاف إلى ذلك أن مبادئ الأمن القومي العربي تآكلت تحت وطأة الغزو العراقي للكويت. كما تلعب الأطراف الخارجية الفاعلة دوراً واضحاً في ترسيخ مفاهيم عربية أمنية إقليمية انقسامية مغاربية - مشرقية - خليجية. ويصعب توافر توافق عربي لاستنهاض مفهوم جديد للأمن القومي العربي في المدى القريب المنظور. مجمل هذه الأوضاع وغيرها يجعل مجلس التعاون أمام خيار صعب ومشتتاً بين ضغوط المخاوف وقصور البدائل، وهو ما يرجح استمرار الصيغة الأمنية الخليجية الراهنة لفترة مقبلة، مع احتمال إعادة النظر في مضمون ونسب مكونات شقها الدولي، لا سيما في بعدها الأميركي بخاصة، ووفق محصلة إعادة تقويم العلاقات الأميركية - الخليجية في الفترة المقبلة، ونتائج النقاش الدائر حالياً حول بلورة رؤية حلف شمال الأطلسي لتطوير علاقاته الأمنية في منطقة الخليج، وتوسيع نطاق عمله خارج النطاق الأوروبي، في إطار صيغ متعددة لتوزيع المهمات والمسؤوليات والعائد. كما سيتوقف مضمون هذا الخيار على مدى تحقيق دول المجلس مزيداً من التماسك والتضامن، وترجيح المصالح الكلية الخليجية على الاعتبارات الفرعية، وزيادة الشعور بأن مصيرها واحد ومشترك. وإذا كان تطور أي تجمع إقليمي على نسق مجلس التعاون، يقاس بمدى التزام الدول الأعضاء قراراته ومراحلها التنفيذية، فإنه كلما تزايد حجم التزامهم كلما دل ذلك على حدوث تطور إيجابي في مسار التكامل، وزيادة جاذبية هذا التجمع بالنسبة لأعضائه، وشعورهم بالجدوى من الإنضواء تحت أطره المؤسسية. وبالعكس كلما تزايدت مساحة عدم التزام الأعضاء بالقرارات كلما أضعف ذلك من صدقية التجمع الإقليمي وفاعليته. ولتقويم مجلس التعاون من هذه الزاوية توجد ملاحظتان، الأولى: أن المحادثات الخليجية - الخليجية المتعلقة بإقامة اتحاد جمركي مثلاً ظلت تراوح مكانها وتأجل تحقيقه لبضع سنوات، بسبب اعتراض إمارة دبي على الأخذ بالتعريفة الجمركية الموحدة، والتي تشكل حائطاً جمركياً موحداً في التعامل مع الأطراف الخارجية، وعرقلت الكويت توقيع الاتفاقية الأمنية الموحدة الأولى بسبب الاعتراضات الدستورية عليها، فضلاً عن عدم تقبل السعودية استخدام مواطني دول المجلس البطاقات الشخصية في التنقل بينها لاعتبارات أمنية مرحلية. وتعامل مجلس التعاون مع هذه المواقف وغيرها بروحية المجاملة، ربما لشعور بعض أعضائه بأن التكامل الإقليمي ما زال رغبة ولم يصبح بعد حاجة وضرورة وضاغطة. وتجنب المجلس فرض القرار أو حسمه مفضلاً السير بخطوات بطيئة ولكن مؤكدة وراسخة. وقد أثر هذا الأسلوب - بطبيعة الحال - في مسيرة التكامل ومراحلة المتزامنة. والملاحظة الثانية: أن قرارات المجلس الأعلى لمجلس التعاون، وهو أعلى سلطة فيه، لا يتم تنفيذها بشكل تلقائي في دول المجلس، بل لا بد من استصدار قوانين محلية على مستوى كل دولة لتنفيذ ها، والتي يُتَرك أمرها وسبل تنفيذها لرؤية الأجهزة البيروقراطية التي تتفاوت مواقفهما بين حماس زائد وعدم مبالاة. فيما تتمتع قرارات الاتحاد الأوروبي - على رغم صعوبة المقارنة لعدم توافر شروطها - تتمتع بصيغة تنفيذية مباشرة في كل الدول الأعضاء في الاتحاد. فالأولوية في التنفيذ هي للقرارات الأوروبية المشتركة. وهذا الوضع ناجم عن تبني دول الاتحاد لمفهوم مرن للسيادة يسمح باتخاذ قرارات فوق وطنية "Supra - National"، وهي جوهر عملية التكامل ومن أهم مبادئه. أما الدول الخليجية الحديثة الاستقلال، فلا تزال غيورة على سيادتها. كما أن تملك الدولة للقطاع النفطي تطلب تبني أسلوب التخطيط المركزي لإعادة البناء، وأدى ذلك إلى تركيز السلطة على المستوى الداخلي وجعلها تميل في أحيان كثيرة إلى إعطاء أولوية للاعتبار الوطني على الإقليمي. يضاف إلى ذلك أن الاقتصادات الخليجية المتشابهة لا تسهل عملية التكامل والتبادل التجاري، وهي ما زالت في مرحلة الانتقال من الاقتصاد الأحادي التكوين إلى اقتصاد متوازن النمو ومتنوع التركيب، بعكس تنوع الاقتصادات الأوروبية، التي تبرز الفوارق في حيازة عوامل الإنتاج والمزايا النسبية المحفزة للتكامل الأوروبي وتنشيط التبادل بين الدول الأوروبية. ناهيك عن أن التجربة الأوروبية انقضى عليها قرابة 46 عاماً، فيما لم ينقض على التجربة الخليجية سوى 23 عاماً، ومن هنا فإن المقارنة التقليدية، التي يحلو لبعض الكتاب إجراؤها، بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون، قد تكون ظالمة للمجموعة الخليجية. إلا أنه يمكن القول بصفة عامة أن مجلس التعاون أصبح يتمتع بالوزن الأكثر ثقلاً في المجال الاقتصادي في المنطقة، وحقق انجازات معقولة، ويتمتع بقدر ملحوظ من التأثير في التفاعلات السياسية العربية، ويمارس أحياناً نوعاً من استقلالية الحركة النسبية في التعامل مع القوى والتكتلات الاقتصادية والسياسية الدولية. غير أنه لا يمكن الإدعاء بأنه توصل إلى وضع سياسة خارجية خليجية موحدة، فما زال المجلس يكتفي - في إطار نصوصه - بالتنسيق بين سياسات الدول الإعضاء بهدف التقليل قدر الإمكان من التباين في مواقفها ومصالحها، وهو أمر انتقالي وطبيعي، فحتى في الاتحاد الأوروبي الذي حقق مرحلة أكثر تطوراً في مستوى الإندماج الإقليمي، لم تستطع حتى الآن توحيد سياسات دوله خارجياً. لا شك في أن مجلس التعاون يمر في هذه الفترة بالمرحلة التكاملية الانتقالية، التي يفترض أن يتحقق خلالها الانتقال من مرحلة التأسيس إلى بدايات الإندماج التجاري والتشابك الاقتصادي الفعلي، وهي عادة تمثل الفترة الصعبة والحرجة لأي تجمع إقليمي، فهي مرحلة بدء تطبيق آليات الإندماج سواء تلك المتعلقة بالمشروعات المشتركة أو استكمال حرية انتقال السلع والخدمات، وتعميق المواطنة الاقتصادية، وتبني اسلوب التفاوض الجماعي مع مختلف الأطراف والقوى الاقتصادية والسياسية والمصالح الكلية للمجلس. وفي هذه المرحلة تستشعر الدول الأعضاء أن جزءاً من اختصاصاتها يقتطع منها تدريجاً لصالح تكوين نوع من السيادة الجماعية تعبر عن مصالحهم المشتركة، والذي قد تشبهه بعض الدول الأعضاء، بالتسلل الصامت للبعد الإقليمي الجماعي إلى ملاعبها الخاصة أو حدائقها الخلفية. وبطبيعة الحال كلما تزايدت مساحة الجزء المقتطع من اختصاصات وصلاحيات الدول الأعضاء لصالح التجمع الإقليمي، كلما تزايدت مقاومتها لهذا الوضع، لا سيما وهي دول حديثة الاستقلال نسبياً، إلى أن يترسخ اقتناعها بجدوى العمل الجماعي المشترك. ومن هنا تتطلب هذه المرحلة الانتقالية التعامل مع مشاكلها ومصاعبها بلياقة وحسم في الوقت نفسه، عند وجود حالات للتعارض بين المصالح الخاصة لبعض الدول والتي تتداخل فيها عادة المصالح الاقتصادية مع الاعتبارات السياسية، وبين المصالح الكلية للتجمع الإقليمي، لأن التساهل في مثل هذه الحالات سيزيد من إتساع نطاقها وتكرارها، وبالتالي فقدان التجمع الإقليمي مبررات وجوده بإفراغه من مضمونه. تبقى في النهاية نقطة مهمة تتعلق بمدى ملاءمة المقاربات الآليات المطبقة، وضرورة استحداث مقاربات مفاهيمية وتطبيقية تتسق مع ظروف ومتغيرات المكان والزمان، والتكيف مع المستجدات والمتغيرات الإقليمية والدولية، ومتطلبات علاقات مجلس التعاون الإقليمية. وفي تقديرنا أنه بعد قرابة ربع قرن على إقامة هذا المجلس، آن الآوان لاستجابة مجلس التعاون لدواعي زمانه ومتطلبات التغيير، بإعادة النظر فى الصلاحيات الممنوحة لمؤسساته الوزارية وبخاصة لأمانته العامة. فالصلاحيات الحالية غير كافية لتمكين مؤسسات المجلس وأمانته من تطوير الأداء وتفعيله، وقاصرة عن تمكين هذه المؤسسات التنفيذية والاشرافيه من القيام بأدوارها المستقبلية المأمول فيها، والتي أصبحت تتطلبها المقاربة الوظيفية لتحقيق الإندماج الاقتصادي والتي تبناها المجلس منذ الموافقة على الاتفاقية الاقتصادية الموحدة. * ديبلوماسي مصري سابق ومتخصص في شؤون التكامل الاقليمي.