لن تحجب أجواء الفرح الطاغية على الكويت باعتقال عدوها اللدود صدام حسين حقيقة أن قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي يستضيفها هذا البلد في 21 و22 الشهر الجاري، تنعقد في ظل أوضاع دولية إقليمية بالغة التعقيد، في مقدمها التوابع المتتالية لأحداث 11 أيلول سبتمبر والمتمثلة في التهديدات الأميركية في إطار ما تسميه إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وعبر إصدار قوانين لمحاسبة دول تعتبرها "مارقة"، ناهيك عن استمرار تداعيات الزلزال السياسي الناجم عن احتلال العراق لأجل غير منظور. كما تتزامن القمة مع الأزمة المستمرة للنظام الإقليمي العربي ومع تصاعد الهجمات الإرهابية التي شهدتها بعض دول المنطقة السعودية وتركيا والمغرب وسلبية المجتمع الدولي إزاء الممارسات القمعية لحكومة آرييل شارون وتجميد جهود السلام. وهي تطورات وأحداث ستفرض نفسها من دون شك على أجواء القمة الخليجية ومداولاتها. وتأتي القمة مع مرور أكثر من 22 عاماً على إنشاء مجلس التعاون وهو تراكم زمني نسبي يسمح بتقويم إنجازاته. ومثّل عقد التأسيس الأول 1981-1990 الفترة الحرجة، وتوافرت خلاله العوامل المحفزة التي غلبت عليها المخاوف الأمنية المشتركة الحرب العراقية - الإيرانية والأوضاع في أفغانستان... الخ، وتمكن المجلس من اعداد بعض المخططات والبرامج لتحقيق بعض الأهداف الاقتصادية، كما اكتسب خلال هذا العقد شرعيته الإقليمية والعربية والدولية. واستهل العقد الثاني 1990- 2000 بحدث خطير تمثل في غزو العراق للكويت وأدى الى "خطف" بضع سنوات مهمة من عمر المجلس وعطل اتساق مسيرته لاستيعاب جانب مهم من موارده المالية والبشرية والعسكرية في عملية تحرير الكويت. وأثّر ذلك في حجم إنجازات المجلس وأدى إلى مزيد من تدويل أمن منطقة الخليج وقضاياها ومواردها. ومع ذلك أخذت المسائل الاقتصادية تسترجع مكانتها تدريجاً خلال هذا العقد الذي دخل فيه المجلس في سباق مع الزمن لتعويض هذه الفترة الاعتراضية لمسيرته، وأصبح الشأن الاقتصادي يستوعب غالبية جهود المجلس واهتمامات اجتماعاته. ومع ذلك بقيت فجوة تراكمية في ذهن المواطن الخليجي حينما يطالع الحديث الوردي أحياناً عن التطلعات والطموحات، ويقارنه بالمحدودية النسبية للإنجازات. ثم استهل المجلس أعوامه الثلاثة الأولى من عقده الثالث 2000 - 2003 محصناً بقدر من الواقعية والنضج السياسي، فركز على توسيع نطاق الإنجازات العملية التي تمس مصالح المواطن الخليجي في الدرجة الأولى. وبطبيعة الحال ظلت قضية الأمن تحتل أهميتها المتقدمة، والتي بدأت تتخذ أبعاداً جديدة بعد أحداث 11 أيلول، وبرزت خلالها معضلة التوفيق بين متطلبات الأمن الإقليمي الجماعي وحاجات الأمن الذاتي الوطني، نتيجة لما طرأ من تغير مرحلي في العلاقات الخليجية - الأميركية وعلى المنظور الأميركي لأمن الخليج. وكالعادة يتضمن جدول أعمال قمة الكويت عدداً من المواضيع المهمة، في مقدمها مكافحة الإرهاب. وأبرزت العمليات الإرهابية في السعودية أخيراً الشعور المشترك بمخاطر التطرف ودفعت دول المجلس إلى إيجاد إجراءات موحدة لمواجهة هذه الظاهرة، وصولاً إلى التفكير في وضع اتفاق أمني جديد يختلف عن اتفاق التعاون الأمني السابق الذي واجه صعوبات سياسية وتنفيذية بسبب تباين الاجتهادات. وسيستأثر الشق الإقليمي/ الدولي من الموضوع الأمني باهتمام خاص في القمة. فمنظومة الأمن الإقليمي الخليجي المشترك واتفاقيته الإطارية أصبحت تواجه تحديات جديدة ناجمة عن إسقاط نظام صدام حسين والمستقبل المجهول للنظام العراقي المقبل، الذي فرضت الولاياتالمتحدة نفسها وصياً على تأهيله وتحديد شكله السياسي، وعينت نفسها قيماً على إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، ووضعت دولاً خليجية في خانة الاتهام والإدانة، الأمر الذي يحدث ارتباكاً وحيرة في التفكير والرؤى الأمنية لهذه الدول التي كانت تعتمد على الولاياتالمتحدة كحليف موثوق به. أما النسبة إلى العلاقات مع إيران، فهي تمثل بنداً دائماً على جداول أعمال القمم الخليجية، ولا تزال نقطة التركيز فيه تدور حول استمرار رفض طهران عروض التسوية السلمية والسياسية لمشكلة الجزر الإماراتية أو عرضها على محكمة العدل الدولية. وإذا كان المراقبون للسياسة الإيرانية لاحظوا أخيراً أنها اتسمت بالواقعية والعقلانية في تعاملها مع الموضوع الشائك المتعلق بتخصيب اليورانيوم، ونجحت في تجنب الشرك المنصوب لها، فإن أهل المنطقة يأملون في أن تمتد هذه الحكمة إلى أسلوب التعامل مع قضية الجزر للحيلولة دون استغلال أطراف خارجية لها لإشعال فتيل صراعات إقليمية جديدة في منطقة شهدت أربع حروب إقليمية مدمرة خلال عقدين. الإنجازات الاقتصادية وفي ما يتعلق بالإنجازات الاقتصادية فإن في مقدمها تحقيق الاتحاد الجمركي في كانون الثاني يناير 2003 ودخوله المرحلة التنفيذية الانتقالية التي ستمكن مجلس التعاون من التعامل مع الدول والتكتلات الخارجية بحائط جمركي وسياسة اقتصادية وتفاوضية موحدة. وسيعرض على القمة تقرير يتضمن تصورات عن خطوات إقامة السوق الخليجية المشتركة في موعد أقصاه سنة 2007 والعملة الخليجية الموحدة والبرنامج الزمني لإقامة الاتحاد النقدي الخليجي في موعد لا يتجاوز سنة 2010. وبطبيعة الحال فإن هذه الإنجازات سبقها عدد آخر من الخطوات التكاملية الممهدة، كالسعي إلى تحقيق مساواة مواطني دول المجلس بمواطني الدولة العضو الموجودين فيها، والاستراتيجيات المشتركة والتنمية الشاملة وخطط قطاعية مشتركة في مجالات الموارد البشرية والنفطية والصناعية وغيرها، وإنشاء عدد من المؤسسات المشتركة كمؤسسة الخليج للاستثمار وهيئة المواصفات والمقاييس وهيئة الربط الكهربي وغيرها. غير أن جديد هذه الإنجازات يتمثل في إعطاء المجلس، لا سيما خلال عامي 2002 و2003، اهتماماً متزايداً للأبعاد الثقافية والتعليمية والاجتماعية المشتركة خصوصاً في ما يتعلق بمركز المرأة الخليجية وسبل تفعيل دورها الاجتماعي والأسري والسياسي والاقتصادي، وهي مواضيع أصبحت الأمانة العامة و"الهيئة الاستشارية" للمجلس منشغلة بها منذ فترة، وتحقيق إنجازات ملموسة فيها في المرحلة الحالية سيسهم في إضافة بُعد وحدوي جديد يدعم الهوية المشتركة ويعزز من الشعور بالانتماء لمجتمع خليجي ذي هموم وطموحات وتحديات مصيرية مشتركة. ولا يزال تقويم إنجازات المجلس موضع جدل، ففيما يرى بعضهم أن المجلس أثبت وجوده وصمد أمام العواصف المدمرة وحقق تقدماً ملموساً في عدد من المجالات، يرى آخرون أن ما تحقق دون مستوى الطموحات. إلا أن الموضوعية تفترض الإشارة إلى عدد من الملاحظات، وهي: إن أي تجمع إقليمي لا يستطيع أن يذهب إلى أبعد مما يريد أعضاؤه، خصوصاً أنهم تبنوا مدخلاً متدرجاً لتحقيق التكامل بين دوله واحتفظوا بصلاحياتهم السيادية كاملة. لذا فإن تطوير أداء المجلس يتطلب تبني مفهوم أكثر مرونة للسيادة. إن تجمع مجلس التعاون، شأنه شأن بقية التجمعات الإقليمية، يتأثر بما يسود في بيئته من تطورات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ويتحرك في إطار القواسم المشتركة لمواقف أعضائه ومدى حجم الإرادة السياسية المتوافرة. إن عملية التكامل الوظيفي بين دول الخليج العربية تتم بين دول تتشابه في هياكلها الاقتصادية والإنتاجية مما يزيد من صعوبتها، ويتبدى ذلك واضحاً إذا قورنت إنجازات مجلس التعاون بإنجازات تجمع ك"الاتحاد المغاربي"، مثلاً. ولا شك في أن الاستثمار الإيجابي للمخزون التاريخي والثقافي والاجتماعي والخصوصية الخليجية في تشييد صرح التكامل الخليجي، وتجاوز المنظور العاطفي ومستوى التعلق الوجداني إلى ما هو ملموس وعملي، يتطلب العمل بجهد أكبر لبلورة أسس شعبية لخطاب ثقافي/ سياسي/ اجتماعي مماثل على مستوى الشارع الخليجي والأسرة الخليجية يعزز جهود التكامل، وهو دور منوط في المرحلة المقبلة بالنخب السياسية والثقافية الخليجية المرتبطة بهموم المجتمع الخليجي وأسئلته الصعبة. عجلة الإصلاح ومن هنا تأتي أهمية استمرار دورة عجلة الإصلاح السياسي والاجتماعي التي بدأت تشق طريقها في دول المجلس، وإن بدرجات متفاوتة، لإرساء تقاليد الحوار الوطني والفكري بين مختلف الفاعليات والنخب، والإقرار بالتعددية واحترام آراء الآخر، واتساع ثقافة التسامح والتصدي للممارسات المتطرفة، والعمل على توفير متطلبات الإصلاح الشامل للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورفع مستوى المشاركة في صنع القرار وسقفها. وإنجاز هذه الإصلاحات يمثل تحدياً كبيراً لدول المجلس وسيؤدي إلى تصليب الجبهة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة سعي الأطراف الخارجية لفرض سيطرتها وهيمنتها على دول المنطقة وتعطيل طموحاتها. تبقى قضايا تشكل جانباً من رهان المستقبل، وفي مقدمها الرد على السؤال عن مدى كفاية الصيغة الحالية للتعاون بين دول المجلس للتعامل مع متطلبات المستقبل الملحة؟ وهل آن الأوان للتفكير في صيغة أكثر تطوراً لاستهلال العقد الرابع كالصيغة الكونفيديرالية أو ما يشبه الاتحاد الأوروبي أو غيرها من الصيغ؟ كما أن الأمر يتطلب وضع منظور مستقبلي لعلاقات أكثر تطوراً مع دول الجوار العراق، اليمن، إيران، ذات الروابط الاجتماعية والإنسانية والتاريخية والحضارية مع دول المجلس، يقوم على الندية ويبتعد عن السياق العام المتقلب بين التوتر والتعاون الذي ساد في الفترة السابقة، ويجعل من مناطق الجوار مناطق أمن واستقرار وتنمية اقتصادية مشتركة. وفي إطار هذا المنظور يمكن إيجاد أسس ومبادئ للعلاقات مع النظام العراقي الجديد، بعد استرداد سيادته، تعزز من ارتباطه بمنطقة انتمائه القومي وتحول دون عزله وجعله معبراً لإشاعة عدم الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن إيجاد علاقة وثيقة مع اليمن، أكثر دول الجوار قرباً من مجلس التعاون، على الصعيد الأسري والاجتماعي والتاريخي والجغرافي، فاليمن هو بمثابة الحديقة الخلفية لمجلس التعاون الذي تبنى خطوة متقدمة لعلاقات أوثق معها. فضلاً عن البحث في كيف يتم تحقيق نقلة نوعية متطورة في العلاقات الإيرانية - الخليجية تقوم على طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تعترف بمصالح كل طرف وحقوقه، وتوفر رؤية لحل سلمي مشترك لمشكلة الجزر الإماراتية الثلاث. * مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً.