شاعر حاز قوّة البداهة من دون اعتراض. حيثما يخْلد البعض، وَهُمْ أحياء، إلى النسيان العادل أو يبدأون بإثارة امتعاض أقرب محاوريهم، نالَ هو قوّة الأسطورة، في حياته المعذّبة كما في شعره، وسكنَ ثنايا الوعي الشعريّ للعرب ولعدد متزايد من محبّي الشعر في العالم كلّه. قائم هو في مسارب الذائقة، مقيم في معاهد الحسّ، منتشر كالوعد في طيّات الخطاب الشعريّ الجديد. شاعر احتضنَ مأساته ومضى بها ومعَها إلى الهاوية. لم يلتفتْ إلاّ لجوهر ذاته الحارّ والأكثر شخصانيّة، فتبعتْه القصيدة. سجالاته خاضَها في بضع مقالات صحافيّة عاصفة ينقصها الصّحو ولكنْ أملاها تهميش مرير. ولأنّها لم تفلح في تعكير الأساسيّ عنده، فسرعان ما نسيَها التاريخ. عالياً كان حتّى في قصائد مرضه. وقصائده الذروات التي تزيد على العشرين كافية لإنقاذ أيّ شاعر من خطر النّسيان. بعشرين صفحة فرض نرفال اسمه على تاريخ الشعر الفرنسيّ. بأكثر منه تغلغل السيّاب في آتي العربيّة، حتّى ليُخيف شبحه اليومَ أحياءَ كثيرين. لسواه أن يستعين بالبيانات ويتوسّل بالمفاهيم لتأثيث القصيدة. لسواه أن يحتفي بالنّادرة العاديّة. هو صنعَ من مشهده الولاديّ في جنوبالعراق، ومن مناظر السفن الذائبة في أشعّة الغروب والنوارس الملتهبة بَياضاً والأطفال الغرقى والآباء الشيوخ يستهدون بالمصابيح الرّاعشة بحثاً بين الشطآن عن جثث الأبناء، من هذا كلّه ومن سواه صنع أسطورة الحياة في تجاذبها السرمديّ بين ألم لا حدود له وجَمال لا ريب فيه. الكلّ، حتّى بين الأجانب، يشهدون أنّه هو الأنقى والأجمَل على النّفس وقعاً. شعراء الغرب يردّدون ذلك، وطلبة السّوربون، الذين أتلوه عليهم منذ خمس سنوات وأقرأه معهم قراءة نقديّة، يؤكّدون أنّ جاذبيّته لا تضاهى. لا يهمّ أن يكون التالون اقتَرحوا صيَغاً تبدو أكثر عصريّة أو حداثة: هو حقّق الزواج المتعذّر بين مطلق البساطة وكثافة العُمق. صانع اللغة الذي عرف أنْ لا لغة بلا غور مأسويّ، وكبير المغنّين الذي أدرك أنّ الأغنية تُبنى بناءً، وأنّ أوهَن الكلام الشعريّ هو ذلك المطروح على عواهنه. رفيق البدايات الطّيب والآمِر: يهب الشعراءَ الشبّان مداخل إلى الشعر لا يدرك العقم مَن يتبعها. وصديق أواسط العُمر الذي يهمس لكَ بأنّ الحياة، أي القصيدة، إمّا أنْ تكون صراعاً أو أنّها لا تكون مزيج حاذق من استعجال الصّرخة وأناة السمفونيّة: ذلك هو الشرط. وشقيق النّهايات الذي يحيل الانحدار في الهاوية مسألة تمرين روحانيّ، ترتيب آخر للترنيمة.