الاجتماع التاريخي الذي عقده مجلس الأمن في نيروبي يومي 18-19 تشرين الثاني نوفمبر 2004 وخصصه للبحث في الشأن السوداني وأصدر القرار 1574، كان فرصة ذهبية لترشيد عملية السلام وإخراجها من الثنائية التي حبستها فيها مبادرة "الايغاد" إلى الجماعية والقومية والوطنية التي اتسمت بها كل عمليات السلام الناجحة في إفريقيا كما كان في مؤتمر الكونديسا الذي رسم الطريق إلى السلام والديموقراطية في جنوب إفريقيا 1992- 1993، وفي العالم العربي كما كان في مؤتمر الطائف الذي رسم الطريق إلى السلام في لبنان عام1989 . خلاصة القرار: حث القرار طرفي الاقتتال في الحرب الأهلية المخضرمة على إكمال الاتفاق الثنائي بينهما بنهاية هذا العام الجاري. ورحب القرار باتفاق الحكومة وحركتي العمل المسلح في دارفور في أبوجا في التاسع من الشهر الجاري. ووعد القرار بالمساعدة في تكملة تلك الاتفاقيات وبسلة مساعدات للسودان إذا أبرمت الاتفاقيات المزمعة. هذا القرار الجديد لا غبار عليه: - لو صدر بصورة روتينية، ولكنه صدر بصورة استثنائية ألهبت الخيال ودفعته الى توقع نتائج استثنائية. - لو أنه استرشد بالحقائق الميدانية التي تعلمها أجهزة الأممالمتحدة وكوادرها، فأوجدت واقعاً جديداً لا يمكن عملية السلام أن تغفلها وتمضي في سبيلها كأن النتائج المشاهدة متفقة مع المقدمات التي سبقتها. - لو أنه نبه طرفي التفاوض الثنائي الى أن اتفاقهما ضروري ولكنه وحده ليس كافياً. وأن الدعم الدولي لهذا الاتفاق يشكل ضامناً خارجياً. ولكنه لا يكفي ما لم يصحبه ضمان داخلي. وأن المطلوب أن يحول الاتفاق الثنائي إلى قومي عبر آلية متفق عليها. وأن قومية الاتفاق هي ضمانه الداخلي المكمل للضمان الخارجي. لكن القرار في شكله الحالي تجنب هذه المعاني الأساسية وشجع طرفي التفاوض على أن يعتبرا ما يتفقان عليه هو جواز المرور الدولي، بل عزز التشويه الذي علق بالجسم السياسي السوداني اخيراً بأن المنطق للقوة وأن الحجة المسموعة هي الحجة المسلحة. إن الجسم السياسي السوداني سيعاني كثيراً ذيول أربعة تشوهات علقت به أخيراً: ثقافة العنف، والعصبية الإثنية، والرعاية الخارجية للاحتجاج الداخلي، والنهج الثنائي في معالجة النزاعات الداخلية. ولكن قرار مجلس الأمن الأخير لم يحاول استخدام نفوذه القانوني المكتسب في الشأن السوداني لمساعدة أهل السودان على التخلص من تلك التشوهات. تجنب مجلس الأمن ما طالبت به منظمات الإغاثة الإنسانية التي أغضبها عدم تنزيل الاتفاقيات على الواقع، فصارت تتطلع الى عقوبات رادعة. المجلس مصيب في تجنب الوعيد بالعقوبات الاقتصادية. فهذه جربت في مجالات كثيرة ولم تكن مجدية. إذا لم يعضد مجلس الأمن فاعلية قراره بعصا العقوبات، فماذا يفعل لتحقيق الفاعلية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي تحديد أهم العيوب التي رافقت القرار 1574: 1- التعامل مع الإطار الثنائي الذي حرصت عليه وساطة الإيغاد لا مفر منه. ولكن العيب في اعتباره ضرورة لا بديل لها ولا سبيل لتقويمها، فقد كان في وسع المجلس أن يؤسس على الإنجاز الثنائي ويوجه نحو المنبر الأوسع المطلوب. 2- قبول افتراضات وسطاء الإيغاد التي ظهرت عيوبها وهي أن الحكومة تمثل الشمال كله، وأن الحركة الشعبية تمثل الجنوب كله، وأن الاتفاق بينهما يكفي لتحقيق السلام وافتراض أن القوى السياسية الغائبة الشمالية والجنوبية ستقبل ما يتفق عليه الطرفان بالتأييد أو بحكم الأمر الواقع وافتراض أن طرفي التفاوض متماسكان وراء قيادتهما وقادران على تنفيذ ما اتفقا عليه على أرض الواقع. 3- منذ اندلاع أزمة دارفور أعطى مسؤول أميركي بتصريحه الانطباع بأن عملية نيفاشا هي مركز اهتمام الأسرة الدولية. وأن مسألة دارفور ستترك الحكومة السودانية لحلها. ثم وقعت أحداث ألهبت الرأي العام العالمي بما فيها من مآس إنسانية، واهتم الإعلام العالمي بهذه المأساة بصورة أحدثت انقلاباً فرض أولوية قضية دارفور، ما أدى الى إمساك مجلس الأمن بها وإصدار قراريه الشهيرين 1556 و1564. ومع أن أحوال دارفور زادت سوءاً من الناحيتين الأمنية والإنسانية، فإن القرار 1574 خفض أولوية مسألة دارفور. إن أجهزة الأممالمتحدة وكوادرها العاملة في السودان تعلم أنه منذ توقيع الحكومة السودانية والحركة الشعبية على إعلان نيروبي في حزيران يونيو 2004، إلاّ ان الحقائق على أرض الواقع تغيرت على النحو الآتي: أولاً: اتضح جلياً أن التوقيع على اتفاقيات ليس كافياً وحده لتبديل الواقع. صحيح أن العدائيات المباشرة بين طرفي بروتوكولات نيفاشا توقفت، ولكن الطرفين اشتبكا في حرب باردة مباشرة وفي حرب ساخنة بالوكالة: تحركت ميليشيات مسلحة بقيادة غابرييل جانق ضد مملكة الشلك. وقاد مايو ردول وقردون كونج وتيموش تابان هجمات ضد أكوبو، والجكو، وفشلا. وانطلقت هجمات بقيادة شول قاكا وسيمون كاتويك مستهدفة واط وأيود، وهكذا. هذه الهجمات استهدفت مواقع الجيش الشعبي ويقال إن الحكومة السودانية شجعتها. ومن ناحية أخرى اتسع نشاط جيش تحرير السودان ضد مواقع الحكومة في دارفور، ويقال إن الجيش الشعبي لتحرير السودان يدعمها. ثانياً: أجهزة الأممالمتحدة وكوادرها تعلم أن شروخاً خطرة ظهرت في تماسك المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وأن الكيانين يعانيان تصدعات لها صلة مباشرة باختلاف الرؤى حول اتفاقيات السلام. ثالثاً: وأجهزة الأممالمتحدة تعلم أن هناك قوى سياسية وعسكرية، شمالية وجنوبية، حريصة على السلام وعلى دفع استحقاقاته، ولكنها مستنكرة لبعض الأخطاء الضارة بالوطن التي ضمتها البروتوكولات، ومستنكرة لتجريدها التام من المشاركة في تصميم البناء الوطني، وغير ممتثلة للترتيبات الثنائية. فما هي الحكمة في تغافل هذه الحقائق؟ رابعاً: هنالك عوامل غير موضوعية تفسر الأسباب التي جعلت الأمور تسير بالصورة التي أفرزت القرار 1574: - القوى الغالبة على مجلس الأمن، أي الولاياتالمتحدة الأميركية، مستعجلة للتوقيع على اتفاق سلام بأسرع فرصة ممكنة حتى إذا كانت الطبخة غير ناضجة. - الحكومة السودانية محملة بالمساءلات الجنائية ولا تستطيع أن تتصدى للوعيد الأميركي. - الحركة الشعبية تريد الإسراع بإبرام الاتفاقية إنجازاً تحتوي به الشرخ الذي ظهر في نظامها. وهي تطمع في مكاسب الوعد الأميركي. - وهناك عناصر مهمة في طرفي التفاوض السودانيين الحكومة والحركة ترى أنهما يحققان أفضل الامتيازات الحزبية في إطار اتفاق ثنائي في جوهره مهما طلي بمحسنات تجميلية... اتفاق يحميه من أية عوائق حرص السودانيين على السلام ودعم المجتمع الدولي. كان في إمكان مجلس الأمن في جلسته الاستثنائية أن يتطرق الى العيوب المحولة من "الإيغاد"، وأن يتطرق الى العوامل المستجدة على الواقع فيتخذ قراراً مبرأ من تلك العيوب ومعالجاً لتلك المستجدات، من دون أن يتطرق الى مسألة العقوبات على النظام السوداني التي انقسمت حولها آراء أعضاء المجلس. هنالك حقائق ينبغي ألا تغيب عنا هي: 1- الأممالمتحدة بصورة مباشرة وعبر الاتحاد الإفريقي بصورة غير مباشرة، صار لها نفوذ غير مسبوق في السودان، بحيث يمكن وصف السودان اليوم بأنه شبه محمية دولية. 2- مهما كان النفوذ الخارجي ومهما كانت القوات التي تحت أمره فلا يستطيع الاستغناء عن العامل الداخلي، كما اتضح جلياً من تجارب عدة آخرها ما يحدث في العراق. 3- النفوذ الدولي أكثر ما يكون فاعلية في تأييد خطة وطنية سليمة وهو يغامر بجدواه إن حصر نفسه في دعم اتفاق ثنائي لا تشارك فيه الغالبية الغائبة. مجلس الأمن يستطيع أن يستخدم وضعه القانوني والمكتسب في الشأن السوداني لمساعدة السودانيين على السير في الطريق الصحيح. كيف؟ أولاً: الإبقاء على أولوية الاهتمام بأزمة دارفور الإنسانية والأمنية، لأنها زادت وتتدهور بسرعة نحو الفوضى. وفي هذا المجال يمكن إجراء إصلاحات معينة ذات طابع قومي تساهم في احتواء المشكلات الإنسانية والأمنية وتبدأ بإجراء إصلاح إداري فوري يضع على قمة المسؤوليات الولائية أشخاصاً مؤهلين ومحل ثقة السكان. ثانياً: حث طرفي التفاوض في عملية نيفاشا على تكملة المفاوضات بينهما. ولكن التنبيه إلى أن الاتفاق بينهما مع ضرورته ليس كافياً ما لم يعقبه ملتقى جامع أو مؤتمر قومي دستوري يدعم الاتفاق ويمنحه ضماناً وطنياً ضد انحراف أحد اطرافه. ثالثاً: إدراك أن هناك مطالب مشتركة للقطاعات الوطنية والجهوية السودانية تتمثل في لا مركزية الحكم والإدارة، والتوزيع العادل للثروة، والمشاركة المتوازنة في السلطة وكل الهموم السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية والقبلية المتعلقة بدارفور وشرق السودان وأنحاء الوطن كافة. هذه القضايا لا تجدي معها الاتفاقيات الثنائية، والأجدى أن تكون جزءاً من أجندة الملتقى الجامع لبحثها واتخاذ القرارات في شأنها. إن أية نظرة موضوعية الى الحال السودانية ستفرض على صاحبها الرؤية الصائبة. صوت الأمين العام كوفي انان وحده نطق بالحق في اجتماع مجلس الأمن في 18-19 تشرين الثاني، بينما أحاطت بالآخرين الرؤى القصيرة المدى. قال كوفي أنان: "تحدثت عن الحاجة إلى اتفاق شامل، فالحل السياسي الشامل وحده الذي يتيح للسودان ككل أملاً بعيد المدى في استقرار البلد. ولذا فقد آن الأوان لإقناع الحكومة وشريكها في المستقبل، الحركة الشعبية لتحرير السودان، بإنجاح عملية نيفاشا، والمسارعة بإشراك جميع أصحاب المصلحة السودانيين والجماعات الموالية للحكومة والجماعات المعارضة لها المسلحة منها وغير المسلحة في مؤتمر وطني لمناقشة نظام الحكم الذي يريدون لبلدهم في المستقبل. وعلينا جميعاً، أي الأممالمتحدة، والاتحاد الإفريقي، والمجتمع الدولي بأسره، أن نضم جهودنا للمساعدة في تخطيط هذه العملية ودعمها". إن إغفال هذا الرأي الواضح في متن القرار 1574 يطعن في إحاطة أعضاء مجلس الأمن بالحال السودانية. قانونياً مجلس الأمن هو المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين بموجب ميثاق الأممالمتحدة. إن الحال السودانية الآن تقع تحت طائلة الفصل السابع من الميثاق. وعملياً تمارس الأسرة الدولية أعمالاً كثيرة في السودان وأجهزة الأممالمتحدة وكوادرها ملمة بحقيقة الحال السودانية. ولكن في الجلسة الاستثنائية لم يتخذ القرار المناسب للمساهمة في احتواء الأزمة السودانية. هنالك تخوف مشروع يقود إلى سؤالين مهمين: الأول: هل يعني عقد ملتقى جامع أو مؤتمر دستوري فتح الباب لإعادة التفاوض الشاق من جديد؟ الثاني: هل يفتح الباب لعضوية المؤتمر الدستوري أو الملتقى الجامع بلا ضوابط؟ الرد على السؤال الأول: - بروتوكولات نيفاشا لم تأت من فراغ. بل سبقتها قرارات أسمرا عام 1995 واتفاقيات ثنائية كثيرة بين الأطراف السودانية. ما جاء في البروتوكولات مطابقاً لتلك الوثائق توافق تراكمي متفق عليه. - وردت بنود جديدة في البروتوكولات اتفق عليها طرفا التفاوض ينبغي توسيع الاتفاق في شأنها قومياً. - هنالك بنود متعلقة بقضايا مهمة اتفق عليها في تسويات رمادية، ولأهميتها ينبغي النص عليها بوضوح بعد مناقشتها. مثلاً: هيئة الدستور - كفالة الحريات - تحقيق قومية مؤسسات الدولة - التطبيق الإسلامي بأي اجتهاد؟ - تكوين القوات المسلحة القومية - مواعيد إجراء الانتخابات وكفالة نزاهتها. الرد على السؤال الثاني: ينبغي حصر عضوية الملتقى الجامع أو المؤتمر الدستوري في مجموعات وطنية محددة هي: - الأحزاب التي ضمتها الجمعية التأسيسية 1986- 1989 وهي أحزاب معترف بها من جانب الحكومة والحركة الشعبية، وهي بحسب الثقل النيابي كالآتي: - حزب الأمة. - الاتحادي الديموقراطي. - الجبهة الإسلامية القومية. - اليوساب اتحاد الأحزاب السودانية الأفريقية. - الحزب القومي. - الحزب الشيوعي. - مؤتمر البجا. أي سبعة أحزاب. الأحزاب التي أفرزها العمل المسلح في السودان: - الحركة الشعبية لتحرير السودان. - جيش تحرير السودان. - حركة العدل والمساواة. - مؤتمر البجا. - الأسود الحرة. - قوات الدفاع عن جنوب السودان - الجناح العسكري لجبهة الإنقاذ الجنوبي. أي ستة أحزاب. القوى السياسية المدنية الجديدة وهي: - منبر جنوب السودان الديموقراطي. - المنبر المدني السوداني. - منبر السلام في دارفور. - التحالف. أي أربع مجموعات. جملة الأحزاب والقوى 17، ويضاف إليها تمثيل للنقابيين، والنساء، والشباب كما تمثله الاتحادات الطالبية على ألا يتجاوز عدد الأعضاء 150 شخصًا. وضبطا للزمن يعطى المؤتمر فترة زمانية في حدود 3 أشهر بعد إبرام الاتفاق الثنائي. في الختام: من أهم نتائج بروتوكولات السلام المسنودة والمراقبة دوليا تفكيك القبضة الأمنية الأحادية. ومن أهم نتائج السلطان الثنائي بين حزبين على طرفي النقيض الفكري فتح الباب لتنافس حاد بينهما.. تنافس سوف يخلق تعددية في الواقع مهما حرص الطرفان على الثنائية. هذا معناه أن الاتفاق الثنائي برعاية دولية سوف يؤدي إلى توسيع هامش الحريات وإلى تمكين واقع التعددية. إذا صح هذا التحليل، فهل من مصلحة استدامة أو استقرار الاتفاق أن يوظف هامش الحريات الأوسع، وواقع التعددية الأرسخ، في محاصرة قطبي الاتفاق الثنائي وعزلهما؟ أم أن الأصلح لهما ولاستدامة الاتفاق أن يجعلا اتفاقهما مركز وفاق قومي يلزم القوى السياسية والمدنية ذات الوزن تأييده وعزل من جافاه؟ هذه النتيجة ممكنة إذا حرصا على إعطاء المؤتمر القومي أو الملتقى الجامع صلاحية التصديق على اتفاقهما وحرصا على دفع استحقاقات ذلك الملتقى كشريك حقيقي في الأمر لا مجرد ديكور يؤمه أهل التوالي. كان حرياً بطرفي التفاوض إدراك هذه الحقيقة حرصاً على مشروعهما وعلى المصلحة الوطنية معاً. وكان الأحرى بالأسرة الدولية إذ فات ذلك على قطبي التفاوض أن توجه انتباهها إلى تلك الحقيقة. إنها حقيقة باقية لا تزيدها الأيام إلا وضوحاً، ولن تختفي بالتقادم. * رئيس وزراء السودان السابق ورئيس حزب الأمة القومي السوداني المنتخب وإمام طائفة الانصار المنتخب.