ثلاث مراحل عرفها قطاع غزة في حرب شارون عليه: المرحلة الأولى كانت امتداداً للحرب التي انطلقت من مخيم جنين في نيسان ابريل 2002 وشملت الضفة الغربية. وقد اتسمت بتصعيد عسكري لم يسبق له مثيل، ولنقل منذ اندلاع "انتفاضة الأقصى"، اجتياحات واغتيالات واعتقالات بالجملة، وتهديم بيوت وتجريف طرقات وعقوبات جماعية متطاولة. وكان الهدف القضاء على المقاومة ووقف الانتفاضة واخضاع الشعب الفلسطيني والمجيء بقيادة بديلة. فوصل التصعيد الى حد سماه المتعاطفون الدوليون مع هذه الاستراتيجية "افراطاً في استخدام القوة". جاءت المرحلة الثانية بعد فشل تحقيق اهداف هذا العنف الارهابي الأقصى وتأكد للجيش الاسرائيلي عبث انجاز المرمى السياسي من ورائه، ولن يتأتى من استمراره غير المزيد من الخسائر على المستوى الداخلي الاسرائيلي كما على المستوى العالمي خصوصاً بالنسبة الى الرأي العام الغربي. الأمر الذي فرض على القيادة الاسرائيلية التحول الى استراتيجية الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته مع انسحاب من 40 في المئة من الضفة الغربية وتفكيك بضع مستوطنات ثانوية. ثم الانكفاء وراء الجدار. لكن، لماذا الارتفاع بالتصعيد العسكري الى مستوى أعلى وأشد بعد طرح تلك الاستراتيجية التي سميت "فك الارتباط" الأحادي الجانب أو "خطة شارون"، وذلك ما دامت تقتضي الانسحاب من قطاع غزة. اي الخلاص الجذري من الاشتباك المباشر به ومعه؟ الجواب، ربما الوحيد، هو التغطية على الفشل والتراجع المتمثلين في خطة شارون وان كانت، في حال نجاحها، اخطر من استراتيجية المرحلة الأولى من خلال التأكيد للجمهور الاسارئيلي، وليكود بالدرجة الأولى، ان الانسحاب لا يعني الهزيمة، وان الجيش ما زال قادراً ومسيطراً وبطاشاً، فالتوسع في القتل والتدمير هنا يستهدفان التخفيف من وطأة الانسحاب الاحادي الجانب ولو الجزئي على ليكود والرأي العام الاسرائيلي وحتى الجيش نفسه من جهة، لكن، من جهة اخرى، استهدف حرمان الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي ومعهما كل فصائل المقاومة وجماهير القطاع من الاحتفال باندحار قوات الاحتلال بلا قيد أو شرط، ولا شك في ان غزة بانتصارها وامتداداته فلسطينياً وعربياً واسلامياً أمر لا تحتمله العقلية الصهيونية، ولا مرحلة ما بعد 11 ايلول سبتمبر 2001، واحتلال افغانستان والعراق واستراتيجية اقامة ديكتاتورية عسكرية، ومن ثم سياسية واقتصادية وثقافية على العالم. ولهذا يجب تحويل قطاع غزة الى مأتم كبير قبل تنفيذ خطة شارون. على ان الذي حدث كان العكس حيث تحول القطاع الى اصرار اكبر على مواصلة المقاومة والانتفاضة والصمود. فبدلاً من ان تتحول جنازة الشهيد الى مأتم ندب وعويل وانسحاق، راحت تصب الزيت على النار ليعاد انتاج ذلك الثلاثي: المقاومة والانتفا ضة والصمود. ثم اضف احباط مكيدة الإيقاع بين الشعب الفلسطيني ومصر مما أدى الى اعادة الكرة الى شباك شارون وحكومته كما الإدارة الاميركية في آن واحد. وهنا دخل التصعيد ضد قطاع غزة مرحلته الثالثة الأعلى من حيث القتل والتدمير والتجريف، كما تجلى في عملية "أيام الندم"، اذ ارتفع منسوب اعداد القتلى والجرحى واتسع مدى التدمير والتجريف وطال الأمد. ولعل رمزية اطلاق عشرين رصاصة على الفتاة الصغيرة ايمان الهمص بعد قتلها يدل على المستوى الأعلى من التصعيد الى حد فقدان الاعصاب والاغتيال على طريقة المافيا بمواصلة اطلاق الرصاص على جسد القتيل حتى يصبح مثل المنخل. بالطبع لم يتوقف كثيرون ممن تهتز مشاعرهم لقتل المدنيين من غير الفلسطينيين والعراقيين امام تمزيق جسد ايمان الهمص ذات الثلاث عشرة ربيعاً. فنحن هنا لسنا إزاء حالة تستحق غضبهم. اما السؤال ازاء تصعيد المرحلة الثالثة، فهو لماذا، وقد تخلصوا من رؤية الشيخ احمد ياسين يجول في كرسي القعيد يلوح بنظرات النصر بعد الانسحاب؟ الجواب يختلف هذه المرة عن الجواب الذي سبق وإن احتواه. فما عملية "أيام الندم" إلا معركة الجدار لما بعد فك الارتباط الأحادي الجانب. فالحرب الدائرة الآن في قطاع غزة هي حرب الجدار بامتياز وإلا لا يبقى من معنى لما يجري غير القتل من أجل القتل والتدمير من أجل التدمير، وبلا هدف محدد. فإذا تجاوزنا ذريعة منع اطلاق صواريخ القسام ذات التأثير المعنوي والرمزي اساساً وذلك بسبب عدم التناسب الهائل بين مستوى الرد وأثر تلك الصواريخ، وإذا اعتبرنا ان ما جرى من اغتيالات وقتل مدنيين وتدمير أحياء في المرحلة السابقة كاف للمحافظة على هيبة الجيش الاسرائيلي، فإن التحليل لا بد من ان يتجه الى مرحلة ما بعد انجاز الانسحاب والانكفاء وراء الجدار. وذلك من اجل فرض تهدئة تسمح لخطة شارون بأن تأتي بمفاعيلها وتحقيق هدفها. وهذا لا يكون إلا بتوقيف الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي. وبالتأكيد سيصحب ذلك مبادرات العودة الى المفاوضات أو "خرائط طريق" جديدة. وهذه ستكون مناسبة للإدارة الاميركية المقبلة، ايهما كانت جمهورية أم ديموقراطية. الأمر الذي قد يؤدي الى ما يشبه "اتفاق نيسان" 1996 في لبنان طبعاً مع الفارق، ومع الابتعاد عن التكرار البليد لا محالة. وبكلمة، ان خطة شارون لما بعد الانسحاب المذكور تتلخص بكلمتين: الجدار " تهدئة، يغطيهما سراب احياء المفاوضات والعودة الى "خريطة الطريق". واذا ما تم ذلك يحقق الجدار هدفهه الاساسي ألا وهو هجرة فلسطينية واسعة قد تبلغ مئات عدة من الألوف. فخطورة الجدار بعد تثبيته في ظل تهدئة، أو وقف للمقاومة والانتفاضة والصمود الشعبي لا تتجسد في تسميته السطحية ب"جدار الابارتايد"، ولا حتى في مصادرته لكل المياه الجوفية في الضفة الغربية واغتصاب اكثر من نصف أراضيها أو تقطيع الأوصال ووضع القرى والمدن بما يشبه المعتقلات، وانما أولاً وقبل كل شيء، التهجير الترانسفير. وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني قديماً وحاضراً ومستقبلاً: الأرض بلا سكانها. فتقطيع الأوصال والمعتقلات في ظل التهدئة مع مفاو ضات، أو طرح مبادرات تدور حول نفسها، سيضع مئات الألوف أمام خيار وحيد هو الهجرة. ولهذا فإن شرط إزالة الجدار واحباط الهدف من ورائه لا يكوننان الا بمواصلة المقاومة والانتفاضة والمحافظة على حال الصمود الشعبي وعدم "تبريده". وقد اظهرت عملية "أيام الندم" وما قبلها من مراحل التصعيد العسكري ان الشعب الفلسطيني مستعد للاحتمال والصبر والمواصلة. وبديهي ان ما من شعب يمكن ان يتحمل كل هذا إلا بخياره وقراره. فلا أحد يمكن ان يكون أشد منه حرصاً على حياته وولده وبيته وقوت عيشه. وما من أحد يستطيعان يسوقه الى هذا الطريق سوقاً. ولهذا لا يجوز احباطه، أو بيع تضحياته مقابل وعود سرابية أو تصورات واهمة في كيف يدار الصراع. أما من جهة اخرى فهذان الخيار والقرار ما كانا ليؤخذا ويدوما أربع سنوات حتى الآن لو لم تستشعر الجماهير امكان انزال الهزيمة بالاحتلال. وزاد هذا الشعور تأكيداً مع خطة شارون بالانسحاب من القطاع وتفكيك المستوطنات. وهذا ما جعل عملية "أيام الندم" تمثل معركة الجدار ومستقبله. ومن ثم جعل افشال هدف شارون من ورائها هدفاً للشعب والمقاومة والانتفاضة في قطاع غزة. ويجب ان يكون هدفاً عربياً واسلامياً ورأياً عاماً عالمياً.