كان ذلك في خريف عام 1973م، عندما كنت أدرس لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة أوكلاهوما في مدينة نورمان أوكلاهوما في الولاياتالمتحدة الاميركية، حيث كنت احد طلاب مادة تاريخ التعليم، وكان استاذ تلك المادة هو البروفسور لويد وليامز، استاذ الفلسفة وتاريخ التعليم ومن المعروفين بغزارة علمه وثاقب بصيته... وكان موضوع المحاضرة تطور التعليم في أوروبا ودور الكنيسة في بدايات التعليم والأطوار التي مر بها التعليم خلال العصور الوسطى. توقف الاستاذ في منتصف حديثه وقال موجهاً الحديث إليّ: كان للحضارة العربية الاسلامية دور مؤثر في تطوير التعليم في أوروبا من خلال الجامعات في الاندلس ودور العلم هناك. وعاد للحديث عن بزوغ الحضارات ومنها الحضارة العربية والاسلامية والاغريقية والرومانية والمصرية والصينية ودور كل منها في تطوير التعليم في العالم، كان الحديث موضوعياً وخالياً من اي تعصب لأي حضارة بعينها. تنبهت الى ان احد الزملاء في الفصل لم يرق له مجرى الحديث حيث قاطع الاستاذ مراراً بأسئلة تنبئ عن عدم الرضا، كان يرى ان اساس الحضارة الانسانية، ومنها التعليم الحديث ومصدره، الغرب المسيحي، بالطبع دخلنا في مناظرة تحت سمع وبصر استاذنا وزملائنا الذين اعجبهم النقاش، عرفت في ما بعد ان ذلك الزميل كان ممن يسمون بالمولودين المسيحيين الجدد، تدخل الاستاذ وليامز واثنى على اسهام العرب والمسلمين في الحضارة الانسانية والتعليم بالذات، اما الزميل المكابر فقد اعتبر كل ما قاله الاستاذ هو محض هراء، ومع ذلك واصل البروفسور وليامز قوله:"اننا في الولاياتالمتحدة الاميركية وصلنا الى قمة الحضارة"، وقال:"نحن مثل اشخاص في سيارة صاعدة الى قمة جبل نحن الآن على القمة، واذا لم نحكم قيادتنا لهذه السيارة ونربط الكوابح فإننا سننحدر وبسرعة". ظلت تلك الكلمات ومنذ ما يزيد على ثلاثين عاماً ترن في اذني، ولم اعلم ما اذا كانت رؤية الدكتور لويد وليامز بدأت تتحقق، والمصادفة ان يكون انكار دور الحضارة العربية والاسلامية جاء من ذلك الشخص الذي كان احد افراد ذلك الفصل الدراسي، وكان ممن يسمون بالمسيحيين المولودين من جديد والغالبية منهم يمثلون اليمين الاميركي الجديد، لا اعلم حتى هذا اليوم أكان ذلك لحقد اسود ضد الحضارة العربية والاسلامية، ام كان مجرد جهل وعدم معرفة بالتاريخ، ما اثار استغرابي وفضولي، كان ذلك الانكار الجازم لما لحضارتنا من دور بناء في الحضارة الانسانية، بالطبع لم يكن الاول ولن يكون الاخير من المنكرين. اعود لما قاله البروفسور لويد وليامز من ان الولاياتالمتحدة اصبحت على قمة الحضارة العالمية المادية الحديثة بما اجتمع لها من موارد بشرية علمية مدربة واقتصاد من اكبر الاقتصادات في العالم وانفاق على التسليح يعادل 43 في المئة مما تنفقه دول العالم مجتمعة، فقد بلغ في عام 2002 قرابة 342 بليون دولار، يضاف اليها 80 بليون دولار مخصصات الحرب على العراق، وجيش لا تغيب عنه الشمس، هل يكون في علامات القوة هذه بداية لسقوط الحضارة الاميركية؟ قد يكون في ما استخلصه الكاتب والمؤرخ المشهور بول كندي في كتابه: صعود وهبوط القوى العظمى والاشارات التي تحدث عنها ما يفيد، ومنها ما ذكره عن التوسع والانتشار الى مسافات شاسعة من العالم بأنها كانت من اسباب ضعف القوى العظمى البائدة، حيث كان لزاماً عليها ان تضخ دماءها واموالها في قنوات امداد طويلة بعيدة عن المركز الذي شبهه بالقلب مما ادى الى ان تبدأ الاطراف في الذبول ويمتد الضعف الى المركز في القلب وتموت. يقال ان التكلفة اليومية للجندي الاميركي هي من اعلى التكاليف في العالم. ولو نظرنا الى خريطة العالم الآن لوجدنا الجيوش والاساطيل الاميركية منتشرة حول الكرة الارضية، كم هي تكلفة مثل هذا الانتشار، لقد عرفنا من الارقام السابقة ان الانفاق العسكري الاميركي هو الاعلى في العالم، كم من السنوات يمكن الاقتصاد الاميركي ان يمول مثل هذا الاتفاق، وماذا سيحصل بعد ذلك؟ الايام ستنبيء، ولكنه في رأيي لن يكون لسنوات طويلة!! هذه ليست الدلالة الوحيدة لبداية ما يمكن ان يكون السقوط الكبير الذي تنبأ به البرفسور وليامز، الاكبر والادهى والامَرّ من ذلك هو فقدان الصدقية امام شعوب العالم، إذ ثبت ذلك من خلال الدراسات الاستطلاعية الاميركية، ان اعتناق اميركا لسياسة الاستباقية بالحرب وتهديد شعوب الارض والادعاء كذباً ان امنها القومي مهدد، هو امر غير مسبوق في التاريخ الحديث على الاقل، لقد اعادت العالم الى عصور الاستعمار، والذي ضحت غالبية شعوب العالم النامية والحديثة بالكثير من ابنائها وبناتها ضده في معارك التحرر الوطني ومنها اميركا نفسها. هل بالامكان اعادة عقارب الساعة الى الوراء؟ والعودة الى الايام الخوالي واستعباد الشعوب تحت ذرائع شتى ومن دون مراعاة للشرعية الدولية؟ لقد تم ذلك في افغانستان في وقت كان العالم مفجوعاً باحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، اما غزو العراق فقد عارضه عقلاء العالم كافة، لا محبة في النظام العراقي او صدام حسين، بل حفاظاً على قيم العدالة الدولية. ان محاربة الارهاب بكل صوره واشكاله مسؤولية الشعوب كافة، وفرق كبير بين الارهاب وكفاح الشعوب عن استقلالها وحريتها، ولكن اميركا تخلط بينها عندما يتعلق الامر بالقضايا العربية والاسلامية، والقانون الدولي حدد ذلك، اميركا ليست وصية على العالم ودستورها شاهد على ذلك، ولكنها تمارس دكتاتورية من نوع آخر، تحاول فرض حضارتها وقيمها على شعوب الارض وفي ذلك تعارض تام مع الحرية والديموقراطية التي تدعي انها تبشر بها. لقد فتح دخول اميركا في حرب على العراق واحتلالها واستخفافها بالنظام الدولي والشرعية الدولية، المجال امام الشعوب لكي تتصرف خارج الشرعية الدولية لأن الشرعية الوحيدة الآن هي شرعية القوة وهي نسبية بين الدول. البروفسور لويد وليامز في حديثه منذ ثلاثين عاماً كان يشير الى التفسخ الاخلاقي والتخلي عن قيم الحرية والديموقراطية والعدل التي اسس عليها المجتمع الاميركي، وكانت الفترة هي التي اعقبت حرب فيتنام، وكان هناك كثير من التساؤلات عن مشروعية تلك الحرب. المشاهد التي يراها الانسان هذه الايام على شاشات التلفاز، وسلوك الجنود الاميركيين الغزاة في العراق والمقاومة التي يلاقونها تقول بكل وضوح ان الشعوب العربية بخاصة ودول العالم النامي بعامة لن تقبل عودة الاستعمار تحت اي مسوغات مهما غلفت بأغلفة التجديد والديموقراطية. وجد هؤلاء الغرباء على ارض ليست ارضهم ووطن ليس وطنهم بأسباب مختلفة، بدايتها كانت اسقاط النظام العراقي، وهو امر غير مشروع في القانون الدولي، وبعد ان ادركوا عدم مشروعية ذلك تغير الامر الى البحث عن اسلحة الدمار الشامل، ثم رفع الغطاء واصبح الهدف الواضح هو الاحتلال لبلد عضو في الاممالمتحدة. هذا الاستخدام الفاضح للقوة الفاحشة امر لا اخلاقي ابتدعته فئة باغية ولا يمكن ان يرضاه ضمير امة يفترض انها ذات مبادئ وقيم مثلاً، لقد خشي الكثير من حلفاء اميركا مثل فرنسا والمانيا ومفكري اميركا والعالم ومن مواطني اميركا المخلصين ومحبيها حول العالم، ان يكون في ما ابتدعه من يسمون بالمحافظين الجدد بالحرب الاستباقية، بداية النهاية لقوة عظمى، فكانت هناك الاحتجاجات والمظاهرات والتي فسرت خطأ من جانب القيادة الاميركية، فبدلاً من ان تقرأ بأنها اصوات اصدقاء لاميركا صورت على انها من الاعداء. سياسة الاستباقية هذه ستبقى اميركا في حرب دائمة مع نفسها ومع العالم ولن تهنأ بالسلم يوماً من الايام، فبدلاً من ان تشارك في بناء الحضارة العالمية ومساعدة دول العالم النامي في التطور والرقي ها هي تدمر افغانستانوالعراق وقبل ذلك فيتنام ولاوس وكمبوديا. لا يروق لمحبي الخير والسلام للعالم ولأميركا بل يحزنهم ان يروا خلاصة ما حققه العقل البشري من انجاز في الحضارة المعاصرة ممثلاً بالحضارة الاميركية يذهب ادراج الرياح نتيجة لضيق الافق لمجموعة ترى انها على افضل الظن الوحيدة التي تحتكر المعرفة، وعلى اسوئه تغلب مصلحتها الخاصة على مصلحة وطنها بل مصلحة الانسانية جمعاء. * كاتب سعودي.