فيما استطاعت الإدارة الأميركية أن تؤطر سياستها الانتقامية في الرد على تفجيرات 11 ايلول سبتمبر باستراتيجيات عدة جرى ويجري تطويرها وإنتاج عدد من أشكال التكتيك الاستراتيجي والآني معاً لتنفيذها، فإن العالمين العربي والإسلامي، خصوصاً في تلك المنطقة من العالم التي يجري استهدافها بما تسميه أميركا حربها على الإرهاب، لا يزال غير قادر على تطوير موقف واضح يخرج عن دائرة ردات الفعل على ما تحاول أميركا أن تجريه من أقدار وترتيبات سياسية جديدة لحاضر بل لمستقبل الشعوب والدول في المنطقة. وعلى رغم أن عين المتابع قد لا تخطئ اقتناص أنماط من التخبط الأميركي في إدارة الأزمة التي خلفتها ضربة ايلول، وذلك في محاولة للتستر على فشلها الأمني داخلياً في تجنب الضربة ولاستعادة هيبتها الخارجية المهدرة عن طريق مصادرة الحريات وحمى الاعتقالات والمحاكمات العسكرية على المستوى الداخلي، وعن طريق سياسة عولمة المكارثية الأميركية وتصدير الرعب بإعادة توزيعه على مناطق معينة من العالم، فإن المتابع يستطيع أن يرى أن أميركا عملت خلال الشهور الثلاثة الماضية على تطوير استراتيجيات عدة لما تسميه حربها على الإرهاب، لكل واحدة من هذه الاستراتيجيات ما يناسبها من التكتيك بما يخرج الحرب الأميركية من دائرة التخبط ويجعلها امتداداً للخطاب السياسي الأميركي في السيطرة الخارجية والقطبية الدولية. وهنا سنقوم بمحاولة استخلاص تعريف وتحليل استراتيجيات الحرب الأميركية كجزء من خطاب السيطرة الأميركي عن طريق متابعة مجرى الأحداث نفسه، وليس الأحداث في حد ذاتها. إن قراءة مجرى الأحداث من اللحظات الأولى لتفجيرات واشنطن ونيويورك التي قامت فيها أميركا بإعلان الحرب كخيار وحيد على الضربة يصاحبها عناد مكابر بعدم فتح ملف أسبابها وعدم تقديم أدلة قانونية على من قام بها وبترشيح أفغانستان كساحة أولى لها إلى اللحظة الراهنة التي تمتد فيها الحرب الأميركية عسكرياً على اليمن ولم تجف دماء الأبرياء الأفغان بعد، وتتركز إعلامياً على مصر والسعودية وتطال حركات النضال الفلسطينية والجنوب اللبناني وتلوح بتهديدات غير مطمئنة لأجوع شعبين في العالم اليوم الصومال والعراق، تؤكد أن الحرب الأميركية تتبع استراتيجيات محددة في إدارة هذه الحرب. والقول بأن هناك استراتيجيات محددة تدار من خلالها الحرب يعني أن هذه الاستراتيجيات والهدف النهائي للحرب لا يرتبط فقط بالدفاع عن النفس والرد على التفجيرات ضد أميركا ولكنه يأتي كتكريس لسياسة أميركا الخارجية ما قبل أحداث 11 ايلول بما لا ينم عن أي اتجاه إلى مراجعة أو تعديل في خطاب السيطرة العالمية الأميركي. وهنا نكتفي بتناول 3 استراتيجيات من استراتيجيات حرب أميركا كما تبدو من مجرى الحدث وهي: 1- استراتيجية العمل العسكري: أ - العمل العسكري بالأصالة عن أميركا. ب - العمل العسكري التحالفي. ج - العمل العسكري بالنيابة عن أميركا. 2 - استراتيجية العمل الديبلوماسي: أ - العمل الديبلوماسي التحييدي. ب - العمل الديبلوماسي التوريطي. 3 - استراتيجية العمل الإعلامي: أ - العمل الإعلامي الوعيدي. ب - العمل الإعلامي الوعودي. أولاً: استراتيجية العمل العسكري: هذه الاستراتيجية سمح بها التفوق العسكري الأميركي والخشية الدولية من بطش آلتها العسكرية التي أبداها معظم الأنظمة في العالم حسب منظومة علاقة أميركا الفوقية بالمجتمع الدولي ما قبل أحداث 11 ايلول، وذلك ما أعطى أميركا القدرة على السرعة في اتخاذ قرار الحرب من دون النظر في أي بدائل أخرى لمعالجة التفجيرات وما نتج عنها من أزمة ثقة داخلية. وهذه الاستراتيجية التي أعلنتها أميركا صراحة وبإصرار وأخذت عليها طوعاً أو كرهاً موافقة الأممالمتحدة وحشدت لها ما أسمته بالتحالف الدولي، اتبع في تنفيذها عدداً من التكتيكات الاستراتيجية والآنية معاً. ويمكن تقسيم العمل العسكري الذي تفرع عن هذه الاستراتيجية إلى ثلاثة أنماط رئيسية: أ- العمل العسكري بالأصالة عن أميركا: وهو العمل العسكري الذي تقوده اميركا وتقوم فيه بالحرب بالأصالة عن نفسها، وقد انتزعت له الإدارة الأميركية من الأيام الأولى لاتخاذ قرار الحرب دعماً شعبياً عن طريق رصد معدلات عالية للرأي العام في تأييد القرار، كما حصلت فيه على موافقة الكونغرس على ميزانية حربية قدرت ب40 بليون دولار، وقامت من أجله باستنفار جيشها وبتسيير مختلف التشكيلات لفرقه العسكرية من أعلى قيادات الجيش، لأساطيلها الجوية والبحرية إلى فرق المشاة، بعدما ضمنت له ضرب طوق حربي حول الحقل التجريبي الأول لهذه الحرب أفغانستان باستخدام الأجواء المجاورة لها وبإقامة القواعد العسكرية على الحدود الأفغانية، خصوصاً الحدود مع طاجيكستان وأوزبكستان، هذا عدا الاعتماد على القواعد العسكرية القريبة والبعيدة في المنطقة والتي تملك أميركا حرية مسبقة قبل أحداث 11 ايلول للتحرك في مياهها . وأميركا في هذا لم تكتف بالعمل العسكري بصفته عملاً تقوم به بالأصالة عن نفسها، بل إنها قدمته على أنه عمل عسكري تقوم به أميركا بالأصالة عن النفس وبالنيابة عن العالم الغربي كله بل عن الحضارة الغربية، وهي في هذا تحشد خطابها الإعلامي المعتمد لترويج الحرب بمفردات يجري تسويقها على أنها مفردات قيمية خاصة بالحضارة الغربية وحكراً عليها مثل قيمة الحرية والعدالة، فأصبحت حرب أميركا كأنها حرب للدفاع عن هذه القيم، وأصبح كل من لا يتحالف مع أميركا عدواً ليس لأميركا وحدها بل للحضارة الغربية ككل، وعلى وجه التحديد لقيم الحرية والعدل التي لا ترى أميركا أنه يمكن إحقاقها إلا بالحرب. ومن هذا الادعاء تفرع الفرع الثاني من استراتيجية العمل العسكري: ب - العمل العسكري التحالفي: سعت أميركا على هذا المستوى من مستويات العمل العسكري الى اقامة تحالف دولي يمكنها من استعارة الشرعية الدولية كغطاء قانوني وأخلاقي لحربها ولتشن تحت غطائه هجومها العسكري والإعلامي أيضاً على من تشاء ممن تصنفهم في خانة الأعداء، وإذا كانت أميركا حتى بعد مضي 3 أشهر من إعلان الحرب استطاعت الحفاظ على الهيكل العام لهذا التحالف الدولي رغم هشاشته مما سمح للمتحدث العسكري برفقة الرئيس الأميركي في مزرعته بتكساس ما قبل المساء الأخير من عام 2001 بأن يباهي بأن هناك 50 دولة لا تزال صامدة في التحالف، منها 16 دولة موجودة ولو رمزياً في القواعد الأميركية في الخارج و 26 دولة موجود في غرف العمليات في الداخل الأميركي، فإن من الواضح للمتابع أن هذا التحالف في واقعه العسكري الفعلي يكاد يكون تحالفاً ثنائياً بين أميركا وبريطانيا، بينما اتخذ الآخرون من أعضاء التحالف أدواراً مساندة تفاوتت قوة وضعف حماسها للحرب الأميركية في ما بينها حتى ضمن منظومة العالم الغربي نفسه، بل إن بريطانيا التي أبدى رئىس وزرائها حماساً ينافس الحماس الأميركي للحرب لم يسلم من موجات النقد اللاذع داخل بلاده على موقفه التابع، خصوصاً عندما كانت الفضائىات العالمية تنقل صورة عدم التكافؤ المريع بين آلية القصف التقني الوحشي وبين الشعب الأفغاني الأعزل الذي لم يكن لديه ما يدفع به عن نفسه غائلة البطش الأميركي والبريطاني إلا بيوتاً طينية لا تتحمل قذيفة واحدة فكيف بملايين الأطنان من القذائف. وتجدر الملاحظة أيضا أنه في مجال العمل العسكري التحالفي مع حرب أميركا قد تفاوت توزيع الأدوار بين أعضاء دول التحالف كما تفاوتت أهمية هذه الأدوار فمن أدوار استخباراتية واقتصادية وعسكرية وإعلامية مساندة إلى أدوار لا تزيد على الالتزام بالصمت غير المحايد بالطبع لصالح الحرب الأميركية سواءً كان ذلك من جانب بعض الدول الأوروبية كروسيا أو من جانب الدول الآسيوية ذات الثقل المركزي في مجالات المنطقة المعنية بالحرب كالصين واليابان والهند، أو من جانب دول المنطقة المعنية مباشرة بالحرب كإيران والسعودية ومصر وسورية. فباستثناء باكستان من دول منطقة الحرب التي كان توريطها توريطاً مباشراً في العمق العسكري لحلف الحرب مطلباً ملحاً، فإن التحالف الدولي للحرب قد راوح في فعاليته كغطاء شرعي للحرب مراوحة كبيرة. وهذه المراوحة وإن لم تصل إلى حد انهياره أو إلى حد تهديد استمرار دول المنطقة كجزء منه، فإن تلك المراوحة قد خلفت للإدارة الأميركية إشكالية في مدى إمكان الاعتماد على صمود موقف دول المنطقة مع التحالف من دون قيد أو شرط كما كانت تتوقع على ما يبدو. فعلى رغم أن الغليان الشعبي ضد الحرب الأميركية في دول المنطقة الحليفة ضمناً أو علناً مع حرب أميركا لم يسفر عن وجهه الحقيقي بما يكشف درجة غليانه العالية بشكل تظاهرات أو مسيرات شعبية باستثناء باكستان وإندونيسيا وإلى حد محدود السودان واليمن والبحرين، وعلى رغم أن دول المنطقة المعنية بالحرب الدائرة وقتها على أفغانستان بضراوة غير مسبوقة قد نجحت في كبح جماح أي مظهر من مظاهر الاحتجاج الشعبي على مستوى الشارع العربي والإسلامي بتحريمه تماماً أو بقمعه كما حدث من جانب السلطة الفلسطينية تجاه بوادر التظاهرات الشعبية الواقعة تحت قيادتها والتي انتهت بمقتل مواطنين فلسطينيين على أيدي شرطة فلسطينية، فإن ذلك النجاح أي نجاح الأنظمة في كبح إظهار السخط الشعبي على حرب أميركا ضد شعب مسلم أعزل لم يكن على ما يبدو ثمناً كافياً لأميركا لتثق في ذلك الجانب من جوانب تحالفها الدولي . كما لم يكن في إغلاق إيران لحدودها مع أفغانستان ولهجتها اللينة في إدانة "الحرب الأميركية" على "دولة مسلمة" ما يكفي لطمأنة أميركا، ومن هنا فقد كانت الحملة الإعلامية الأميركية المعادية التي شنتها على السعودية ومصر في ذروة حملتها العسكرية على أفغانستان تعبيراً عن شكوكها في جدية موقفهما من التحالف وعدم رضاها التام عن مستوى أداء كل منهما داخل التحالف. فأميركا التي طالما التزم إعلامها الصمت المطبق تجاه قضايا جوهرية تخص حقوق الإنسان والشعوب في المنطقة التزاماً بمصالحها مع الأنظمة لم يرضها أن يكتفي بعض دول المنطقة بالصمت في تأييد حربها على أفغانستان وإن كان بطبيعة الحال صمتاً غير محايد، كما لم يكفها التزام عدد من تلك الدول بالتزامات مالية ومساعدات استخباراتية، بل يبدو أن أميركا أرادت لعملها العسكري تأييداً مطلقاً وصريحاً من الدول الحليفة بالمنطقة، حتى وإن جاء ذلك على حساب فتح جبهة داخلية بين تلك الدول وبين شعوبها. ج - العمل العسكري بالنيابة عن أميركا: لقد تردد في بداية الهجوم الأميركي على أفغانستان في 2001/10/7، وكذلك في ذروة القصف وقبل أن تصل الإدارة الأميركية إلى قرار نهائي في الاعتماد على قوات تحالف الشمال الأفغاني وبعد الفشل الذريع لعملها التجريبي الأولي بإنزال فرقة عسكرية من الكوماندوس "آكلة الأفاعي" كما يسمون، على الأرض الأفغانية التي انتهت بمقتل اثنين منهم، أن أميركا تنوي الاعتماد على ميليشيات من المشاة المرتزقة من خارج الجيش الأميركي عندما تنتهي من وصلة القصف الجوي المكثف وتصل إلى فصل المواجهة العسكرية وجهاً لوجه مع المقاتلين الأفغان. غير أن أميركا سرعان ما عدلت عن هذا التكتيك على ما يبدو عندما تبين لها أنها يمكن أن تجد من يخوض بعض فصول الحرب نيابة عنها في أفغانستان وفي غير أفغانستان بالاعتماد على بعض الأنظمة من دون أن تزيد في "تسويء" سمعتها كدولة عظمى بالاعتماد في حربها على الهواة من المرتزقة، وربما يكون في تجربتها مع قوات تحالف الشمال وقيامها على خير ما تروم أميركا بالحرب نيابة عنها وبأكثر مما كان سيكون في طاقة ميليشياتها الأرضية الجاهلة بطبيعة اللغة والجغرافيا على الأرض الأفغانية خصوصاً أن أولئك أبدعوا أيما إبداع في تصفية الأسرى والتنكيل بالمحاصرين في سجن القلعة في مزار الشريف من المقاتلين الذين أعلنوا استعدادهم للاستسلام من الأفغان والأفغان العرب فلم يقبل منهم أقل من القتل وعرض جثثهم التي لم يمح حتى الموت آثار الذعر عليها أمام الكاميرات كشاهد على انتصار الإرهاب الأميركي في حربها على الإرهاب، ما شجع أميركا على المضي قدماً في تكريس استراتيجيتها العسكرية في الاعتماد على العمل العسكري بالنيابة عنها. إلا أن ما يسترعي الانتباه أنه إذا كانت أميركا وجدت ضالتها في من يقوم بالعمليات العسكرية القذرة نيابة عنها في أفغانستان نظراً الى العداء والتناحر بين الأخوة الأعداء الذين خلفتهم الظروف القاسية للمواجهة مع السوفييت فإن ظروف أفغانستان لن يكون في إمكان أميركا استعادتها أو تكرارها لتجد أميركا من يخوض حربها نيابة عنها. ومع ذلك فإن ما يجري على أرض الواقع في المنطقة يشي بأن أميركا ماضية في تجريب حظها لإيجاد من يقوم بالعمليات العسكرية نيابة عنها ولصالحها ومن دون أن تتكبد الخسائر العسكرية والمادية والعصبية نفسها التي تكبدتها في أفغانستان ومن دون أن تعرض سمعتها للنقد اللاذع نفسه الذي تلقته من المعارضين للعمل العسكري وللسياسة الأميركية في الداخل والخارج. لقد ذهب بعض التحليلات المتفائلة إلى القول بأن ما يجري على أرض اليمن اليوم من معارك عسكرية "يعتم إعلامياً على ما يبدو على حجمها"، لا يمكن أن يكون فاتحة لعنف داخلي قد يهدد لا سمح الله بحرب أهلية "قبلية" بل إنه على العكس من ذلك يعتبر الموقف الرسمي لليمن ضرباً من ضروب الذكاء السياسي، إذ تختار اليمن هذا لو كانت في وضع يسمح بالاختيار أن تكون حصتها من حرب أميركا بيدها لا بيد عمر، أي بيد جيشها النظامي لا بيد الجيش الأميركي، وذلك لتصفية من صنفتهم أميركا بالأسماء وربما بالعناوين وسلمت قوائمها إلى اليمن. وإذا كنا لا نريد أن نكون كالنعامة التي يشاع عنها أنها تدفن رأسها في التراب عند هبوب العاصفة، فلا ننكر وجود بعض جيوب التطرف والجهل الديني الذي يصل إلى حد التعصب هنا أو هناك في العالمين العربي والإسلامي، فإن مواجهة مثل هذه الموجات من التطرف السياسي لا تكون بإعلان الحملات العسكرية بالنيابة عن أميركا لأن مثل هذا الموقف لا يؤدي في الغالب إلى انحسارها بل إلى مدها، كما لا يؤدي إلى انفتاحها بل إلى مزيد من انغلاقها. كما أن شن الحملات العسكرية عليها بالنيابة عن أميركا قد يعطيها تعاطفاً شعبياً لم تكن لتكتسبه إلا بتحولها إلى ضحية من ضحايا حملة الحرب الأميركية على المنطقة، فسواء اعترفنا أو لم نعترف فلا بد أن المراقب الموضوعي يعلم ولو بمجرد السماع ما يتم تناقله عبر رسائل هاتف الجوال بأن الشارعين العربي والإسلامي قد تحولا إلى شارع طالباني مع بداية القصف الأميركي القاهر على أفغانستان، وذلك حتى من جانب أولئك الذين كانوا يتخذون موقفاً نقدياً من تشدد وانغلاق الخطاب السياسي الطالباني. فذلك الموقف المتعاطف لم يكن مبعثه الحب المفاجئ لطالبان ولكن مصدره بالتأكيد هو الكره كل الكره للعدوان العسكري الأميركي على الشعب الأفغاني المسلم والرفض كل الرفض للوجود الأميركي في المنطقة. وهذا ينطبق على واقع اليوم سواء كانت العمليات العسكرية تتم بيد الجيش الأميركي أو بيد زيد أو عمرو، وسواء كان هذا الوجود متجسداً بالقواعد والأساطيل أو بسياسة الإملاء وتصدير الأوامر والتمويل للعمليات العسكرية التي تتم بالنيابة عن أميركا. إن الخوف من أميركا يجب ألا يخفي فداحة المقامرة التي يمكن أن يقترفها البعض رغبة أو رهبة ليس فقط في حق حاضر ومستقبل شعوبهم ووحدة أوطانهم واستقرار مجتمعاتهم بل حتى في حق استحقاقهم للشرعية واستمرار أنظمتهم التي قد يظنون أن الرضا الأميركي كفيل بحمايتها. فأميركا لم تستطع أن تحمي شاه إيران محمد رضا بهلوي ضد إرادة شعبه، كما لم تستطع أن تحمي الرئيس المصري أنور السادات، وكذلك فإنها لم تستطع أن تدافع عن حربها في فيتنام ضد إرادة شعبها. وإذا كان هذا الكلام ينطبق على جميع الأنظمة العربية والإسلامية التي لم تجرب ولو مجرد التفكير في سيناريو بديل للانقياد لبيت الطاعة الأميركي ولو لمجرد التمنع لحفظ ماء الوجه أو على الأقل لتصعيب الموقف على أميركا إن لم يكن في المقدور الوقوف التام في وجهها، فإنه أشد ما ينطبق أيضاً على السلطة الفلسطينية التي هي أحوج ما تكون إلى الحفاظ على عنفوان شعبها وعنفوان انتفاضته المجيدة وإلا لن يكون مصير السلطة الفلسطينية وقيادتها في إمكانية الاستفراد بها أفضل من طالبان. فإذا كان إعلامهم وإعلامنا لا يريدان لنا أن نتعلم من الدرس الأفغاني إلا درس ما الذي يمكن أن يحدث لمن يحاول الوقوف في وجه أميركا أو يتجرأ على مخالفتها كما حاولت أن تفعل طالبان، فإن الوجه "المعتم" من الدرس أن الشعب الأفغاني كان يعاني من حالة من الإنهاك والاستنزاف والفقر والعزلة والتهميش السياسي من جانب أميركا بما جعله على غير استعداد للدفاع عن طالبان وغير قادر على الدفاع عن نفسه وأرضه عندما استدعت الحاجة ذلك، لأن الشعوب كالأشجار لا يمكن أن تقف في وجه العواصف وهي في حالة ركوع، كما أن الشعوب كالطيور فهي وإن كانت لا تستطيع أن تطير بأجنحة متكسرة فهي لا يمكن أن تتعايش إلى الأبد مع الخوف من تقصف الأجنحة. واذا كانت فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهادقد استجابت، تقديراً وحفاظاً على الوحدة الوطنية، لنداء السلطة الفلسطينية بإيقاف العمليات الاستشهادية، والذي لم يكن ليصدر من جانب من تسمى بالسلطة الوطنية لولا الضغط الإسرائيلي والأميركي على قيادتها من دون أن يقدم منهما أي مقابل للجانب الفلسطيني إلا مزيداً من البطش الإسرائيلي بالسلاح الأميركي، فإن على السلطة الفلسطينية أن تحذر كل الحذر من أن تتحول إلى مرشح أميركي جديد لتنفيذ العمل العسكري في الحرب الأميركية نيابة عنها عن طريق التحريض على تحجيم المقاومة أو ربما سحقها. إن استراتيجية العمل العسكري هي واحدة فقط من استراتيجيات حرب أميركا فإلى متى سنظل عاجزين عن مواجهة التحديات المصيرية بغير ردات الفعل الآنية؟ ستكون لي عودة لتحليل استراتيجية العمل الديبلوماسي واستراتيجية العمل الإعلامي في حرب أميركا للقرن الجديد. * كاتبة سعودية.