خلال زيارته إلى ليبيا، قدم الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى نظيره الليبي معمر القذافي مجموعة مؤلفات الكاتب والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، مؤلف"روح الشرائع"L"erprit des lois المغرم بالحريات والديموقراطية. فهل أراد شيراك بذلك توجيه رسالة للقذافي بأنه ينبغي أن يعمل على تحديث بلاده بالفعل وعلى احترام الحريات والديموقراطية الغائبتين عن ليبيا؟ ورداً على سؤال عن سبب اختياره تقديم هذه الهدية، قال شيراك، السياسي المحنك، خلال مؤتمره الصحافي في طرابلس:"اعرف أن الرئيس القذافي ملمّ بأعمال مؤلفات مونتسكيو، ووجدت هذه الطبعة، علماً بأنني أعرف أنه قد يكون قرأ كل مؤلفات مونتسكيو، ولكنها طبعة جميلة يمكن أن يضعها في مكتبته". فأين روح الشرائع والقوانين في ليبيا القذافي؟ وهل لديه فعلاً مكتبة فيها مؤلفات غير"الكتاب الأخضر"؟ على رغم توافد كبار مسؤولي الغرب إلى ليبيا بعد الرضا الأميركي على قائد"ثورة الفاتح"الذي تخلى عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، يلاحظ الزائر أن ما من شيء تغيّر، فالفوضى في البلد ومن حول"القائد"لا تزال أكثر مما كانت عليه من قبل. وكانت زيارة شيراك مناسبة للصحافيين والمصورين المرافقين للرئيس الفرنسي لاختبار الفوضى وقوة المخابرات المحيطة بالعقيد. وكان فريق المصورين الذين رافقوا شيراك قاطع تصوير العشاء الذي أقامه القذافي على شرف ضيفه، بسبب المعاملة السيئة التي تعرضوا لها من شلة الحرس وعناصر المخابرات الليبية. أما الاصلاحات الانفتاحية التي يعد بها ويتكلم عنها رئيس حكومته شكري غانم، الذي عاش في فيينا وعرف العالم المتطور، فهي غير موجودة عملياً، لا شكلاً ولا موضوعاً. فهذه هي ثورة الفاتح التي تجرأت ليبيا وشبهتها بالثورة الفرنسية لسنة 1789... ويشكو العديد من رجال الأعمال البريطانيين والألمان والفرنسيين من الجمود والبطء والبيروقراطية التي يواجهونها في ليبيا. قال أحدهم إنه خسر 12 كيلوغراماً من وزنه منذ بدأ يعمل في ليبيا، نظراً إلى صعوبة العمل والفوضى وعدم تطبيق القوانين، إضافة إلى الفساد. كان مضحكاً خلال الزيارة انتشار اللوحات الضخمة التي تحمل العلمين الفرنسي والليبي وتقول:"لقاء الأوائل"، أول جمهورية وأول جماهيرية، وأخرى تقول:"الجماهير تقوى الثورة"، و"الثورة تنسج الحرية". وبحث الوفد الفرنسي عن هذه الحرية المفقودة في ليبيا، ولم يرَ أثراً لها. لا صحافة حرة، ولا إعلام حراً. زار أحد المراسلين استوديو التلفزيون الرسمي الليبي وذهل لتجهيزاته البدائية وعدم مبالاة الموظفين فيه بالعمل. لدى ليبيا القذافي، رغم ثروتها النفطية، نسبة تبلغ 30 في المئة من البطالة، فكيف يمكن تصور ذلك الاهمال في التحديث التقني في مختلف القطاعات، خصوصاً أن عدد سكانها غير كثيف وكمياتها النفطية تمثل 3 في المئة من الاحتياطي العالمي؟ معلوم أن النمو السكاني في ليبيا يقدر بحوالي 3.4 في المئة سنوياً، ونصف الشعب الليبي دون ال15 سنة. ولا تزال ثورة القذافي توجه الشباب الليبي إلى معسكرات ليدرسوا فيها"الكتاب الأخضر". والمؤسف أنه كان بإمكان ليبيا أن تكون بلداً جميلاً يجذب السياح، لأن شاطئها وبحرها وصحراءها من أجمل ما في الطبيعة. لكن ثورة الفاتح لم تفتح شيئاً، بل إنها على العكس اغلقت الإمكانات الضخمة لهذا البلد الصغير. الإدارة الأميركية قررت الآن أن هناك تحسناً لأنها بحاجة لعمل شركاتها في ميدان النفط، وهي مدركة تماماً أن ما من شيء تغير. ورغم أن القذافي تنازل للأميركيين عن كل شيء، فإنه لا يزال يواكب زواره من الرؤساء إلى البيت الذي قصفه الأميركيون سنة 1986. والمؤسف أن في ليبيا نخبة من المواطنين والمسؤولين الواعين والمدركين لهذه الحالة الفوضوية، والمهم كبير لأن التغيير مطلوب وضروري، لكن الفوضى تبقى أقوى من كل شيء.