كان أبي يحب أمي. فغرس شجرة في فسحة الدار سمّاها باسم أمي. كل صباح عند ذهابه للعمل يلقي تحية الصباح، وعند العودة يرتدي زيه الشعبي الجميل، ويعطر نفسه بأفضل انواع العطور وأزكاها رائحة، ويجلس قربها يحدثها كأنه في جلسة حالمة مع أمي. كان يقول لها: يا قمراً يطوف في افكاري، لقائي بك غسل ما كان على القلب من تعب واحزان، وضاج الورد وبكى وخاب ظنه بجماله لما رأى بهاك. فروحك تحدث الانسجام، وتعيشين بأمواجي في الصمت والحراك، تسكنينها ابداً من دون انفصال وانفكاك، كالنيرين متلازمين بالاشراق. وكأنني في حضرة متعبد صوفي في انبساط اللحظة الآسرة، يسعى لاستحضار فتنة الحال لهذا الانبهار الرائع. رجل ضارع مأسور بجملته في حضرة ما هو أرقى وأسمى. ومن أرض الذات يمضي مرتحلاً في كلمات التوحد، يسعى بجماح روحه الى القبض على لحظات العشق. وفي احدى الليالي، وقد تأخر الوقت، كان جالساً قرب الشجرة ويغني. سألت نفسي: هل جن أبي؟ دنوت منه وسألته: ما بك يا أبي؟ التفت نحوي مبتسماً، أشار الى الشجرة وقال: وتسألني عن شيء ذكراه فيك باقية؟ هي أثلجت صدري بكلماتها، وزرعت في القلب ريحانة، وعطرت النفس بشذى الورد، وألبست الروح ثوب الارجوان. يا ولدي! عندما يعيش الانسان في كنف من يحب، في الصباح يصحو على تغريده، وفي الليل يغفو على تراتيله، يشعر بأنه يحتضن العالم، ويطيب له الشدو والغناء. وهي عالمي الذي احتضنه، والاغنية التي أغنيها ثم مال الى حجري، وصعدت روحه الطاهرة الي جوار خالقها، كصعود البراري لأفق جميل. حماه - علي محمود خضور