في شهر رمضان الكريم يجد المسلمون أنفسهم على موعد معه كل سنة لأداء فريضة الصيام. وأكثر المسلمين ينتظرونه بفرحة وبهجة اللقاء لأنه يدخل الى أنفسهم الطمأنينة والراحة، كونه يبعدهم خلال هذا الشهر عن النزوات المتحكمة بهم طيلة السنة ويدعوهم الى التأمل الذاتي. الصيام فريضة نجدها في الأديان التوحيدية الثلاثة. ولو كانت مختلفة في الشكل والأداء الا أنها تتفق على المبدأ والجوهر. وهذا ما سنحاول ايضاحه من زاوية التحليل النفسي. كل دين يعتمد على محورين أساسيين: الإيمان بالله والمعتقد الديني المبني على ضبط وتصحيح علاقة البشر في ما بينهم. فالإيمان عملية نفسية ذاتية تنبع من مكان مجهول لا يرضخ للعقلنة أو للبحث المنطقي. فهو خارج إطار اللغة. ينبع من تصور داخلي وجداني يربط الإنسان بالخالق بعلاقة مباشرة على غرار ما حدده الغزالي بعد أن وضع المنهج المنطقي والفلسفة جانباً، وقطع علاقته معهم على اعتبار أن نصف الفلسفة يدعو الى الايمان والنصف الآخر يؤدي الى الكفر. فلذلك لا جدوى من الاستعانة بالفلسفة لاكتشاف الايمان بالله، لأنه خارج هذا المنهج. هذا ما دعاه الى القول إن الايمان: "نور قذفه الله في صدري". كيف ولماذا؟ هذا شأن خاص يأتي نتيجة تأملاته الذاتية ورؤيته للحياة والموت. لهذا السبب بقي الايمان بعيداً من الجدل، لا يمكن اقناع أحد به، لا يمكن إيراثه حتى لأعز أبنائه، ولا يمكن نقله من شخص لآخر. أما المعتقد الديني فهو موروث، لأنه واجب على كل مسلم أو حتى مسيحي أو يهودي، أن ينقله الى بنيه واذا ما أمكن التبشير به. لأنه في طياته تكمن هوية سماوية لا يمكن التخلي عنها، وتحدد موقعه كفرد من الجماعة التي ينتمي اليها. والمعتقد راسخ في كل فرد منذ الطفولة قبل أن يصبح عرضة للجدل المنطقي. لكنه يصمد لكل محاورة، لأنه يحمل معاني وتفسيرات منطقية لا تنتهي. لذلك من الصعب لأي متضلع بعلم الكلام أن يقنع مسيحياً أو يهودياً كي يصبح مسلماً، والعكس صحيح. حتى لو تحقق ذلك في بعض الظروف. فالمعتقد حقيقة ذاتية راسخة تصمد ضد أي منطق أو منهج عقلي. تعتمد في الدرجة الأولى على أن كل فروضها وشرائعها وضعت لمصلحة المؤمن سواء على الصعيد الصحي الآني أو على الصعيد الإيماني السماوي. ولكن المعتقد الديني لا يعطي شيئاً من دون التضحية في المقابل سواء من الوقت في اداء فريضة الصلاة، أو من الحد من النزوات اذا كان بها انتهاك للمحرم، كحدود يجب ألا يتعداها منذ الوصايا العشر. أي الدين أخلاق ومعاملة تطال كل أتباعه على السواء. أما فريضة الصيام فهي تتطلب التضحية ليس فقط بالامتناع عن الأكل والشرب، ولكن أيضاً بجزء من الجسد، الذي يحصل حتماً في هذه الفترة. واذا ما اتبع الصائم شروط الصيام طيلة الشهر على أتمها سيخسر حتماً جزءاً من جسده، أي من وزنه، وهذا قربان لله. ولو كنت في موقع ديني لكنت طلبت من كل صائم أن يزن نفسه قبل شهر الصيام وبعده، واذا اكتشف أن وزنه قد زاد فمن الأفضل اعادة الصيام. فمن المستحيل أن نتصور الدين قد فرض الصيام لضرر الصائم، أي أن شخصاً يعاني من البدانة وارتفاع في الضغط والسكري والكوليستيرول أن ينتهي بتأزيم وضعه الصحي. فالدين يأخذ ويعطي. فإن أدى الفريضة على الوجه المرضي على أتمه فإنه يكافأ في المقابل بالصحة النفسية والجسدية، وهذا ما سنحاول توضيحه. على الصعيد النفسي: يطال الصيام أول وأهم نزوة عرفها الإنسان منذ ولادته. فالنزوة الفموية هي أول ما يكتشفه بعلاقته مع الآخر، أي الأم، لذلك يقول "لاكان": لا يأكل الانسان أبداً لوحده، دائماً معه آخر ولو كان متخيلاً يشاركه. وهذه النزوة الفموية لا تقتصر فقط على الجسد وإشباع حاجاته، انما نراها عندما تدخل عالم المتخيل، تصبح مصدراً للطموحات من دون حدود. تبتلع الأموال والأملاك والناس من دون شبع! واذا اقتصرت على الجسد: يصبح هذا الأخير هو العاقل والحكيم، والخلل يأتي من العقل، والعقل هو الضال والمضلل. لأن اشتهاء الطعام اذا تعدى حدوده الجسدية، يدخل على الخط وينذره ببداية مرض أو اختلال في وظائف الأعضاء، مما يجبر الانسان على العودة الى حدود جسده. أما الشهوة الفموية ان دخلت وسيطرت على عقل المتخيل فإنها لا تعرف أين حدودها الا اذا تصدى لها الآخر بقوانينه أو بقوته الجسدية. فنحن نجد الكثير من الرأسماليين الكبار والقادة التاريخيين من الاسكندر الكبير الى نابوليون وأخيراً الى صدام حسين، قد ذهبوا ضحية شهوتهم الفموية كما يقال: يريد أن يبتلع الأخضر واليابس، أو يبتلع البلدان المجاورة أو العالم. وأخيراً يبتلعه هو نفسه في الهوام الجسد كناية عن فم فقط. عندما يشعر الناس بخطر هذه القابلية الفموية على صعيد المتخيل والواقع، يتصدون لها بقوة لكي يعيدوا الشخص الى حدوده. و هذا ما نسميه في التحليل النفسي الخصاء الفموي، أي أن كل نزوة يجب أن تعرف حدها، ومن الرضاع الى الفطام. وهذا الانتقال الشكلي والنوعي من الرضاعة الى المآكل المغايرة، يشكل صدمة، لا يرتد الانسان عنها الا بعد معاناة. والفم، كما نعرف، لا تقتصر وظيفته على الأكل، بل تستمر في مجالات التلذذ والاشتهاء. كما أنه يستثمر للإثارات الحسية: بدءاً من الدخان وانتهاء بالمخدرات. وجميعها منطلقها الفم، ومسرحها الأحاسيس مع أبعادها المتخيلة. فلذلك عندما يمارس المسلم فريضة الصيام يحصل عنده حرمان ليس فقط من الشراب والطعام، وانما للموضوع الفموي ككل. فهذا البعد عنه خلال فترة الصيام، يجعله يدرك قوة التصاقه به وسيطرته على مخيلته، والى أي مدى وصل تشبثه بالعلاقة الفموية البدائية. وندرك ذلك بوضوح: عندما يقترب موعد الإفطار نرى الصائم مأخوذاً بالشهوة النظرية. النظر هنا يدخل في خدمة الفم. يريد أن يلتهم جميع المأكولات الشهية وجميع أصناف الحلويات والفاكهة وكل ما طاب. واذا كانت امكاناته تسمح، يحول طاولته الى استعراض مكانة المأكولات الشهية. وعندما يأتي الفعل، أي موعد الإفطار: يفاجأ باصطدام الواقع بالمتخيل: فهناك فرق شاسع ما بين شهوة النظر وشهوة الفم. واجمالاً الأمراض تتكون اثر سيطرة الأولى على الثانية. فهذا الإدراك يعطيه صورة عن تكوينه النفسي وعن مدى فاعلية الشهوة الفموية في مسلكه. فهو اذاً في حال ترويض النفس من طريق اعادة الصدمة الأولى الناجمة عن الفطام. ففي كل يوم صيام يعيد التجربة لكي يتحكم أكثر في مفاعيلها ونتائجها. وأما اذا كان الصيام في خدمة الإفطار - لا أتكلم عن الزاوية الدينية - فعندئذ ستنقلب المعادلة وتصبح فترة الإفطار الى السحور مسرحاً لاستباحة كل أنواع المآكل مما يؤدي الى الإخلال بالأهداف المذكورة. هذا على الصعيد الذاتي، أما على الصعيد الاجتماعي فنرى أن رمضان يعزز الروابط العائلية والاجتماعية، وذلك لأسباب نفسية: أولاً: وحدة موضوع الحرمان. فإذا كان هنالك تفاوت طبقي بالنسبة الى تنوع موضوع الإفطار، فإن الصيام في مرحلة الامتناع، لا يميز بين فقير وغني ولا بين وجيه ومواطن عادي. فالجميع يتساوون أمام موضوع الحرمان، فتخلق وحدة حال وتآزر يفقد كل شخص ميزته وتميزه. وهذا التوحد حول موضوع الحرمان يخلق نوعاً من التقارب الاجتماعي، وفي حال ابتعد عنها أي فرد يجد نفسه غريباً عن محيطه. وقد لمست ذلك عند بعض المرضى. قلتُ لأحدهم إن وضعه الصحي لا يسمح له بالصيام: أجابني بأنه لا يتصور نفسه فاطراً، لأنه سيشعر بالغربة والوحدة، وهذا ما لا يستطيع تحمله. وعندما رضخت لطلبه ونسقت معه، أمضى شهر رمضان بكامله من دون أن يشعر بانتكاسة. فدواء التكاتف الاجتماعي وفرحة اللقاء عند الافطار عوضت عن النقص البيولوجي للدواء. وباختصار هناك ثلاث مراحل في يوم الصيام وفي شهر رمضان، بالاجمال: المرحلة الأولى: هي الإمساك والتوحد في ما بينهم حول موضوع الحرمان والشعور المشترك الذي يطال كل الصائمين بالتساوي. وهي مرحلة التقاسم التي تجمع في ما بينهم بالتساوي. المرحلة الثانية: وهي موعد الإفطار الذي ينتظره الجميع والذي لا يحق لأحد أن يستبقه بدقيقة. وهو يتطلب انضباطاً اجتماعياً يبلغ وقته أكثر من جيش نظامي، فلا أحد يتقدم على أحد، الأيدي مرفوعة وتسقط دفعة واحدة على تناول الإفطار حال ضرب المدفع. المرحلة الثالثة: وهي الإفطار، حيث تبزغ فرحة اللقاء، ليس فقط بلقاء موضوع الحرمان وتحويله الى موضوع اكفاء، إنما أيضاً فرحة النجاح وتجاوز الامتحان للإرادة والانصياع لأمر الخالق بالتساوي. وهذا اللقاء يتقاسمه الجميع بفرحة ومشاركة مباركة. ولكن العنصر الجديد الذي يظهر هو فرحة المشاركة وبهجة اللقاء بين الأحبة، وهي لا يعادلها أي شيء آخر، كما يقول صديق لي باختصار: اذا شاركت حبيباً بمصيبتك فالمصيبة تقسم الى اثنين. واذا شاركت حبيباً بفرحة فالفرحة تضاعف بمرتين. فما عسانا نبلغ حجم الفرحة اذا كان الأحباء كُثُراً؟ * باحث وطبيب نفسي لبناني.