في المناظرات الثلاث بين المرشحين للرئاسة الاميركية، جورج بوش وجون كيري، ظهر العلم باعتباره من جبهات المواجهة بين الرجلين. وعلى رغم تباين موقفيهما في كثير من الموضوعات العلمية، مثل تجارب خلايا المنشأ الجذعية والتجارب النووية والبيئة وهجرة الطلاب الى الولاياتالمتحدة وغيرها، اتفق المرشحان على ضرورة دعم علوم نانوتكنولوجي Nanotechnology واعتبارها جزءاً اساسياً من التفوق العلمي الأميركي عالمياً. وعلى رغم الشهرة الضارية التي يحتلها النانوتكنولوجي، فانه ما زال شبه مجهول عربياً. ووصل من ذيوعه انه صار جزءاً من افلام الخيال العلمي. ولعل آخر شريط ظهر فيه ذكر لهذا العلم، فيلم"انا، روبوت"بطولة ويلي سميث، عن رواية الكاتب الشهير اسحاق عظيموف، الذي اطلقته هوليوود هذا العام. من خيال السينما الى المختبرات هل ان نانوتكنولوجي خيال تحول علماً، ام العكس؟ تصعب الاجابة عن هذا السؤال. والحال ان الفارق بين الخيال والعلم ليس بالهول الذي يظنه البعض! ولعل اول خيال عن هذا العلم، ظهر في السينما مجسداً في فيلم"الرحلة الخيالية"ستيفن بويد والفاتنة راكيل والش، 1966، تخيّل المخرج روبرت فلشر غواصة ذرية تُصغَّر بآلات خيالية، لتصبح أصغر من حجم رأس الدبوس، وتحقن في شرايين مريض يحتاج الى جراحة دقيقة. ولا ينسى مشاهدو فيلم خيال العلم، الديكورات الغرائبية التي صممها الرسام السوريالي سلفادور دالي. ويذكرون طويلاً رؤية غواصة في حجم خلية مفردة. هل يمكن علمياً تصنيع آلات دقيقة، بل فائقة الصغر، ومتحركة وقادرة على تنفيذ مهمات فعلية، ولا يزيد حجمها على... جزء من كسر من رأس الدبوس؟ هل انه العلم أم الخيال، ما يدفع صوب البحث في تحقيق هذه الآلات؟ أياً يكن الدافع، فإن صناعة آلات أو أجزاء منها، لا ترى بالعين المجردة لم تعد من شؤون الخيال. وتنهض بصناعتها شركات كبرى. وتلقى دعماً حكومياً في اميركا واوروبا واليابان. هل نغمض العين قليلاً ونتخيل مركبة فضاء في حجم عقلة الاصبع، وطائرة تجسس كاملة التجهيز في حجم نحلة؟ ماذا لو حفزنا الخيال خطوة أبعد، وتصورنا طائرة - كومبيوتر في حجم فيروس الزكام، أي أنها لا ترى بالعين ويمكن وضع عشرات أو مئات منها في غرفة من دون أن يلاحظها أحد؟ عن آلات من هذا النوع وضع عالم الفيزياء الأميركي أريك دريكسلر كتاب خيال علمي عام 1986 عنوانه"محركات التكوين" Engines of Creation يشبه كتابي ه. ج. ويلز"آلة الزمن"، وجول فيرن"عشرون ألف فرسخ تحت الماء". وخصص دريكسلر كتابه للحديث عن عالم يتغيّر على نحو حاسم بفضل اكتشاف تكنولوجي جذري أو ثوري . وظهر مصطلح نانوتكنولوجي Nanotechnology في كتاب دريكسلر ليصف علماً جديداً مهمته بناء تلك الآلات المتناهية الصغر. راجع المربع: تعريفات أساسية. ويمكن ترجمة ذلك المصطلح ب"التقنية النانوية". والأهم انه وجد طريقة، بل طرقاً عدة، ليترجم مشاريعه، فتولتها لاحقاً شركات مثل"آي بي أم"و"لوسنت"و"هيتاشي"و"سامسونغ"و"أن أي سيرش"وغيرها. ويمكن بسط الفكرة الأساسية للتقنية النانوية على أنها تطبيق علمي يتولى إنتاج الأشياء عبر تجميعها من مكوناتها الأساسية، مثل الذرة Atom والجزيء Molecule. وما دامت كل المواد مكونة من ذرات مرتصفة وفق تركيب معين، فلماذا لا نذهب في الاتجاه المعاكس، أي نأخذ ذرة ونرصفها الى جانب ذرة أخرى وهكذا دواليك، من اجل صناعة... أي شيء تقريباً! ولا يهم مصدر الذرات أو الجزيئيات ما دامت مناسبة. وتكفي أي خردة معدن لنأخذ منها ذرات نعيد رصفها وحبكها لصنع تيتانيوم، المعدن الأقوى الذي تصنع منه مركبات الفضاء. ويلزم لانتاج الألماس توافر الرمل أو الفحم، فتؤخذ منهما الذرات وترصف رصفاً متيناً ودقيقاً. وبديهي أن تقتضي هذه الصناعة معرفة وافرة ودقيقة بتفاصيل تركيب المواد، إضافة الى هندسة الأشياء المراد صنعها. وكذلك يجب السيطرة بقوة على الذرات. ويرى البعض أن علم الفيزياء لم ينته من التعرّف الى كل مكونات الذرّة وقواها. ويشير علماء الفيزياء الكمومية Quantum Physics الى استحالة التوصل الى قياس دقيق عندما نصل الى مستوى الذرة. وتعطي هذه الملاحظات أنموذجاً من الاعتراضات الجمّة على رؤية دريكسلر التي قدّمها في كتابه. كل شيء من أي شيء! لم يكن دريكسلر، على رغم شطط رؤاه، أول من فكّر في صناعة على مستوى الذرّة، وحيث مقاس الأشياء هو نانومتر، أي واحد على ألف من المليون من المتر. ترجع هذه الفكرة الى عالم الرياضيات الفذّ جون فون فيينمان، مبتكر علم الحياة الاصطناعية. فقد القى عام 1959، خطاباً ذائع الصيت ضمّنه القول بإمكان بناء الأشياء بواسطة رصف ذراتها الواحدة الى جانب الأخرى في نسق مناسب. تعوّد فيينمان تقديم مفاهيم العلم في أساليب اللعب والدعابة. فقدم سيناريواً لمنافسة تقنية بين الثانويات العليا في أميركا. تُرسل ثانوية لوس أنجليس الى ثانوية فاينيس دبوساً كُتب على رأسه عبارة: ما رأيكم في هذا؟ ثم تتلقى ثانوية لوس انجليس الدبوس نفسه بعد أيام لتكتشف ان الرد نُقِشَ في النقطة فوق حرف"ذ"ومفاده: ليس اكتشافاً ساخناً! إذاً، لا يدور الحديث على مجرد أوهام. وينبغي القول إن نانوتكنولوجي هي ثورة صناعية شاملة. ويرى بعض العلماء أنها ثورة علمية للقرن ال21 ستؤدي الى تغيير شامل، مثلما أدى ظهور محركات البخار الى الثورة الصناعية! ويمكن وصف صناعة النانو بأنها انتاج أي سلعة أو مادة انطلاقاً من مكونات أولية رخيصة وشائعة. ومن الناحية النظرية، يمكن استخدام اي مواد خام، حتى الرمل أو النفايات. انها أفق جديد يجعل من اعادة تدوير النفايات، او"الرسكلة"Recycling انتاجاً وسلعاً عالية القيمة. وكذلك ربما غيّر جذرياً العلاقة بين الدول الصناعية المتقدمة والبلدان التي تنتج المواد الخام. وبتطبيق اساليب النانو، من الممكن ان تنخفض كلفة انتاج طائرة جامبو جيت الى سعر السيارة، ويمكن تزويد البيوت ب"مصانع"منزلية في حجم فرن مايكرووايف، تقدر على انتاج اجهزة تلفزيون وكومبيوتر وفيديو وستيريو انطلاقاً من بضعة أرطال من القمامة! وفي امكان آلات مشابهة ان تعمل على بضع نُثر من اللحم لتنسج على منوالها شرائح لحم، خالية من أي مرض، تكفي لإطعام العائلة. وعوداً على بدء فيلم"الرحلة الخيالية"، يمكن انتاج انسان آلي"روبوت"في حجم بكتيريا، ليدخل جسم الانسان ويجدد الانسجة التالفة، ويصلح ما خرّبه التقدم في السن أو الاصابة بمرض مزمن، ويحارب الفيروسات والبكتيريا التي تسبب الأمراض، ويقتلع الأورام السرطانية... الخ. وتُرسل جحافل من مركبات نانوية ذكية الى الأوزون لتصلح الثقب. ولكن ماذا لو أفلتت من السيطرة، فأكلت أوزون الأرض كله؟ عندها تهلك الحياة على الكرة الأرضية كلها، وتباد في لفح الحرارة والأشعة؟ لكل تلك الأسباب وغيرها، تُبدي دول متقدمة في العلم، مثل الولاياتالمتحدة واليابان وألمانيا اهتماماً بالنانو تكنولوجي، وتحيط أبحاثها بجدران سميكة من السرية. "التصغير": مشاريع عملية للنانو تكنولوجي تبدو التقنية النانوية متوزعة بين حدين، لكنهما غير متناقضين. فلا يكفَّ دريكسلر عن الحديث عن الرواصف Assemblers ، وهي روبوتات في حجم فيروس تقدر على نزع الذرة أو الجزيء من أي مادة، وتتحكم بها كلياً، ما يتيح انتاج السلع أو شفاء الأمراض. وتقدر الرواصف على انتاج نسخ مشابهة لها، أي انها تتكاثر. واذا تطور علم الذكاء الاصطناعي، تصبح الرواصف ذكية، فتفيد من خبراتها وتستقل تدريجاً عن صانعيها وتستغني عنهم! فماذا لو خرجت عن كل سيطرة؟ لا اجابة معروفة، ولا حتى من نوع الخيال. وفي مقابل هذه الرؤية المتطرفة، هناك رؤية أكثر تواضعاً، كتلك التي ينادي بها رالف ميركيل، الذي عمل طويلاً في شركة"زيروكس"، قبل ان يؤسس شركته الخاصة. ويرى ميركيل ان تقنيات تصغير المواد Miniturazing هي الحد الآخر، لكن الأكثر عملانية الذي يمكّن من صناعة أشياء في حجم أقل من مئة نانومتر. وفي هذا المنحى، يذكر ان الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون اعطى 495 مليون دولار ل"المبادرة الاميركية في نانو تكنولوجي"قبيل مغادرته البيت الأبيض. ويعتبر المبلغ اضخم موازنة فيديرالية رصدت لهذه الابحاث. وفي العام 2000، أسس ريتشارد سموللي شركة"كاربون نانوتكنولوجي"التي تصنع أقفاص الكاربون Carbon Cage. وحاز جائزة نوبل عام 1996 لأبحاثه عن هذه الأقفاص، التي تُعرَف ايضاً باسم كرات الكاربون. والأمر لا يتعلق بقفص أو كرة، بل هو شكل رابع جديد للكاربون، أي بعد الغرافيت مادة أقلام الرصاص والألماس. وتمتاز ذرة الكاربون بثباتها الهائل. وعمل سموللي على رصفها في شكل يجعلها تلتقط أي جزيء أو ذرة، لخلوها من أي حقل مغناطيس أو جاذبية، وهي القوى التي تحدث تنافراً بين الذرات. واضافة الى توصيلها الفائق للتيار الكهربائي والضوئي، تقدر أقفاص الكاربون على الإمساك بالهيدروجين الصافي، ما يفتح المجال أمام صنع خزانات كاربونية للهيدروجين. ويُعدّ الهيدروجين من مواد الطاقة النظيفة، وعند احتراقه في الهواء يولد ماء فقط! أي ان نانوتكنولوجي، أو بالأحرى منحى التصغير فيها، ربما توصل الى صنع قارورة هيدروجين تحتوي ما يمكن امداد سيارة بالوقود أشهراً، ومن دون تلويث للبيئة! وفي ظل الارتفاع الخارق لأسعار البترول، فان مثل هذه الوعود ربما تغير خريطة الاقتصاد العالمي، وما يرتبط بها من توازنات جيو - استراتيجية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها. وتلك مجرد عينة لما قد يحمله المستقبل. تعريفات أساسية عن نانوتكنولوجيا رواصف Assemblers من أحلام نانو تكنولوجي المستقبلية صنع آلات ذكية فائقة الصغر، تُسمى بالرواصف Assemblers تقدر على انتاج نُسخ اصطناعية من نفسها، اي انها تصنع اشباهاً آلية منها. وفي رؤية اكثر زهواً، يمكن انتاج آلات مجهرية تقدر على إمساك الذرة الواحدة ونزعها من مكانها ولصقها الى جوار ذرات اخرى... الخ. نانو Nano بادئة مشتقة من لفظة في اللغة اللاتينية معناها القزم. وكوحدة قياس، يساوي النانو واحداً من ألف من المليون، أو واحداً من البليون من المتر. اذاً، فنانومتر هو الجزء المتحصّل من قسمة المتر الواحد الى ألف مليون جزء. ومثلاً، تقاس الذرة بجزء من عشرة من النانومتر. نانو تكنولوجي Nano Technology يطلق هذا التعبير على أي تقنية تعمل على مستوى المقاسات الفائقة الصغر مثل نانو. وعلى نحو أكثر تحديداً، تشير نانو تكنولوجي الى تقنية بناء المادة وتركيبها انطلاقاً من الذرة الواحدة، أي برصف الذرة الى جانب الذرة للحصول على المادة المطلوبة. التصغير Miniaturization يستعمل العلماء تعبير نانو تكنولوجي للاشارة الى التكنولوجيا التي تتعامل مع المادة على مقاس مئة نانومتر فما دون. اذاً، فالتقنيات الرامية الى جعل الاشياء والآلات اصغر وأدق تسمى تكنولوجيا التصغير او التقنية المُصغَّرة.