يلاحِظ المراقبون في العاصمة الألمانية ان آلات البناء العملاقة التي كانت تجوب برلين طوال معظم العقد الماضي، في ما كان يعكس مرحلة نهضة وشيكة في تاريخ المدينة، قد اختفت الآن. ومنطقة مثل"بوتسدامر بلاتس"، التي كانت حتى وقت قريب ساحة بناء عملاقة، عادت تلمع من جديد بفضل مركز"سوني"ذي الطابع الحديث، ومجموعة من ناطحات السحاب الجديدة التي أعطت الميدان بعضاً من لمحات نيويورك. كما ان دار المستشارية اللامعة ومبنى الرايخستاغ الذي تم تجديده يشهدان على رؤية برلين الجسورة لنفسها باعتبارها"القلب النابض"سياسياً لألمانيا الأكبر حجماً والأكثر حداثة. لكن بعد 15 عاماً من انهيار الجدار الذي كان يفصل بين شرق برلين وغربها، تكافح هذه المدينة، التي يسكنها 3.4 مليون نسمة، من أجل الآمال التي يعلّقها عليها الكثيرون داخل ألمانيا وخارجها. وبدلاً من أن تظهر كعاصمة جديدة لاوروبا الموسّعة كما توقّع البعض، بقي عدد سكانها على حاله، فيما يعاني اقتصادها من الركود ويبقى عدد كبير من البنايات التجارية الطموحة والوحدات السكنية، التي شُيدت في أعقاب انهيار الجدار، خاوية على عروشها. البطالة ويشير المراقبون إلى ان واحد من كل خمسة في برلين يعاني من البطالة، وان معدل البطالة في العاصمة هو حتى أعلى مما كان عليه في ألمانياالشرقية قبل الوحدة. ويقول ديفيد كلاي لارج أستاذ التاريخ في جامعة ولاية مونتانا والخبير في تاريخ المدينة:"كانت الفكرة ان برلين ستصبح البوابة إلى الساحة الاقتصادية الشرقية العملاقة. إلا ان ذلك لم يتحقق". ولا تزال برلين تغري السياح الذين يتدفقون على المدينة البالغ عمرها 767 عاماً، من أجل"تاريخها الثري وثقافتها العريقة". وقليلة هي مدن العالم التي يمكن أن تنافس برلين كمركز للفنون والمتاحف ودور الاوبرا. لكن انهيار جدار برلين ونقل الحكومة الألمانية من بون قبل خمسة أعوام لم يؤديا إلى هجرة المال والناس كما كان الكثيرون يتوقعون. والمشكلة تكمن في القطاعات الضخمة التي ما زالت الحكومة تحتفظ بها في بون. ففي استجابة للمعارضين لتلك الخطوة، أبقت الحكومة نحو عشر وزارات، السواد الأعظم من موظفيها في بون في الوقت الذي انتقلت بعض الوكالات الاتحادية من برلين إلى العاصمة القديمة الهادئة على ضفة نهر الراين. وثمة عامل آخر يحول دون أن ترسخ برلين أقدامها كمركز اقتصادي مهم، وهو افتقارها لمطار كبير. ومعلوم انه بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى مستهل حكم الرايخ الثالث في عام 1933، كانت المدينة مركزاً صناعياً كبيراً تستضيف على أراضيها شركات عملاقة مثل"سيمنز". لكن تقسيم ألمانياوبرلين بعد الحرب العالمية الثانية دفع الشركات باتجاه الغرب. وعلى رغم زوال التقسيم، إلا ان تلك الشركات لم تعد. وبعض الشركات الصغيرة التي كانت تتلقى معونات للانتقال إلى غرب المانيا خلال الحرب الباردة فقدت هذه المساعدات عند انهيار سور برلين واضطرت إلى التوقف أو الرحيل. مطار كبير ويعتبر رجال الأعمال في المدينة ان ثمة أسباباً لبقاء الشركات بعيداً. فبرلين ليس لديها مطار كبير يمكن اعتباره مركزاً مهماً لحركة النقل الجوي. كما انها ليست على طريق مباشر بين ضفتي المحيط الأطلسي. وهذان العاملان يجعلانها تأتي في المرتبة الرابعة على قائمة المدن الألمانية من حيث عدد ركاب الطائرات، بعد فرانكفورت وميونيخ ودوسلدورف، وهي مدن يقل سكانها عن تعداد سكان برلين. ثم هنالك الأجواء السياسية التي يقول المستثمرون انها"غير مواتية"لقطاع الأعمال في المدينة التي تديرها حكومة يشارك فيها الحزب الديموقراطي الاشتراكي، الذي شيّد أسلافه جدار برلين. وربما كان يمكن العثور على أوضح دليل على مشكلة برلين في القطاع العقاري. القطاع العقاري فقد اشترى جين ماري سولفاي، وهو مستثمر بلجيكي في العقارات، ما يصل إلى 19 بناية في مناطق راقية في برلين في اواخر التسعينات، على أمل انتعاش السوق. إلا ان أسعار العقارات في العواصم الاوروبية الاخرى، مثل لندن وباريس ارتفعت، فيما العكس حصل في برلين. ويقول سولفاي:"الموقف صعب، صعب للغاية. لقد اشترينا لأننا اعتبرنا برلين ستكون عاصمة العالم. لكن حلم انتقال أعداد كبيرة من الناس إلى برلين اتضح انه كان مجرد أمنيات. ببساطة ليس ثمة وظائف هناك". وتلمع لافتة"للايجار"خارج البنايات السكنية في شتى ارجاء المدينة. وهناك ما يقرب من 1.8 مليون متر مربع من المساحات الإدارية خاوية، وفقاً لتقرير أصدره الشهر الماضي أحد المكاتب الاستشارية العقارية. غير ان ثمة بوادر ايجابية تلوح في الأفق. فقد تدفقت حركة السياحة بنشاط أكبر على المدينة، بفضل شركة طيران"ايزي جيت"التي تعد ثاني أضخم شركة طيران منخفض التكاليف في اوروبا. وسيفتح في سنة 2010 مطار براندنبورغ الدولي الذي سيتمكن من التعامل مع 20 مليون زائر سنوياً، أي بزيادة نسبتها 50 في المئة عن طاقة استيعاب المطارات الثلاثة العاملة في العاصمة في عام 2003. من جهته، يشير رئيس بلدية المدينة، كلاوس فوفورايت، إلى انه سيحوّل برلين، المثقلة الآن بديون مقدارها 57 بليون يورو 74.24 بليون دولار، إلى مركز للصناعات الطبية والإعلامية. كما يعطي التوسع الاوروبي في اتجاه الشرق برلين سبباً لتعتقد انها تستطيع أن تبزغ كعاصمة من الطراز العالمي في نهاية الأمر. ويقول لارج الخبير في تاريخ المدينة ان"برلين ستصبح مدينة عظيمة مرة اخرى. كل ما في الأمر ان ذلك يحتاج إلى فترة أطول مما كان يعتقد البعض".