العصر الالماني كما يسمونه في بعض ادبيات الدول الصغيرة المجاورة لالمانيا، بدأ منذ انهيار جدار برلين، وهذا التحول في مسار التاريخ اضاف الى المانيا طاقة هائلة تخرج بها امام العالم وتتمثل بجوانب كثيرة لا سيما في مضمار السياحة التجارية التي تعزّزت وترافقت مع البعد الثقافي الجديد الذي مثلته عملية الاندماج بين الالمانيتين. "برلين" اكتسبت حضوراً جديداً حينما اتصلت اجزاؤها واصبحت - علاوة على ما كان تحفل به من المغريات الاخرى - عاصمة سياحية متألقة، فيها تزدهر الثقافة ويبرز التراث كعنصر اساسي في تطور هذه المدينة التي عرفت بأنها سوق اوروبا منذ الخمسينات والى وقتنا الراهن. برلين تجمع بين رهبة التاريخ الالماني القديم الذي نقرأه في سلاسل من البنايات الضخمة والتماثيل العملاقة المنتشرة في اجزاء المدينة المختلفة، وبين الاسواق التجارية الكبيرة والمتنوعة التي تخزن كل انواع البضائع المطلوبة للاستهلاك او الكماليات او الصناعات المختلفة، وبين العبق والعطاء الثقافي والترفيهي الذي تشتهر به هذه المدينة الجميلة واهلها الذين اصبحوا لا يميزون بين الغريب القادم من بعيد والمواطن الذي يعيش في احيائها، فليس في برلين فارق بين الاجناس المختلفة. ربما يكون الالمان اكثر الشعوب تسامحاً في التعامل مع الاجانب، وان ظهرت بين الحين والآخر موجات من العداء العنصري ضد الاجانب - وهؤلاء العنصريون منبوذون من معظم الشعب الالماني، والسبب ان الالمان عانوا كثيراً من تبعات الماضي العنصري الذي رافقه صعود النازية، ودفعوا ثمناً باهظاً لذلك. اليوم لا يمكن الحديث عن وجود مقاطع التقسيم الدولي لبرلين، ففي مرحلة الحرب الباردة كان هناك مثل تلك القطاعات مثل "القطاع الفرنسي" و"القطاع البريطاني" و"القطاع الاميركي" اضافة الى برلينالشرقية التي تمثل القطاع الروسي، لذلك فان برلين الموحدة اصبحت بلا قطاعات تفصلها وعادت لتكون عاصمة المانيا الموحدة، ومنذ اجراء الانتخابات الاولى عام 1990، بعد انهيار جدار برلين، بدأت بلدية برلين تعيد دراسة الكثير من الجوانب المتعلقة بالسياحة بأنواعها، وأُعيد ترميم الكثير من المرافق السياحية كالبنايات والمسارح ودور العرض والمكتبات، وكذلك البنايات ذات الطراز التاريخي القديم. ويحاول الالمان التفاخر بأنهم امة احتضنت كل ميادين الثقافة منذ القدم، وقدمت هذه الثقافة الى العالم، ويستشهدون دائماً بأن ملوكهم امثال الملك البروسي فريدريك ويلهلم وفريدريك الثاني، كانوا يعزفون الموسيقى، وان الاوبرا الالمانية غزت العالم منذ العصور الماضية. والالمان مغرمون بزيارة دار الاوبرا في برلين، وهناك اعداد كبيرة من السياح الذين يفدون الى هذه المدينة لزيارة الاوبرا. اما المسارح البرلينية فهي كثيرة ومنتشرة في كل مكان تقريباً، وابرزها مسرح "بريشت" الذي يقع في الجزء القديم من برلين، وقربه مقهى صغير ما زال يحتفظ برائحة الزمن الماضي ورائحة اخشابه القديمة. والامر ينسحب على السينما البرلينية، فهناك مئات الاستديوهات المنتجة لانواع كثيرة من الافلام السينمائية، وكذلك افلام الفيديو، والاسواق البرلينية تزدحم بالناس، ومتصلة مع بعضها البعض في عموم المراكز التي تتكون منها برلين. مؤسسات عملاقة تنطلق في عملها الى مختلف اجزاء العالم، ويصل اليها مندوبو الشركات الباحثون عن السلع المختلفة، ولكن قبل هذا وذاك فان من يأتي الى التسوق في برلين لا بد ان يقضي بضعة ايام يطوف في احيائها المختلفة، وربما يكون ذواقاً لفنها وثقافتها فيتجه نحو مرافق السياحة الثقافية المنتشرة في كل مكان، بين السينما والمسرح، والمكتبات والمقاهي القديمة او الحديثة والمطاعم الفاخرة، او ربما يكون احد الذين يفضلون المطاعم الشرقية التي تقدم المأكولات التركية والقبرصية والعربية والايرانية وغيرها الكثير مما تحفل به برلين. وعندما اندمجت برلين مع بعضها، تحولت الساحات السابقة التي كانت كبيرة، قياساً الى حجم برلينالشرقية، الى ساحات صغيرة امام ظهور مزيد من هذه الساحات بعد الانفتاح، وهذه الساحات الجديدة اتسعت لتصبح مراكز تجارية وسياحية مميزة، حيث يتجمهر الناس فيها اينما تجول الاقدام. برلين، تقدم كل يوم الجديد من الاشياء، فالابداعات الثقافية لم تعد الوحيدة التي نشاهدها، وانما ايضاً النتاجات الصناعية المتطورة التي تجذب السياح التجاريين اذ تنتشر المحلات والمزادات اليومية في الكثير من الاماكن البرلينية، الامر الذي يحمل معه حالة من التميز مقارنة بالعواصم الاوروبية الاخرى، باستثناء باريس، حيث تتنافس المدينتان في كل شيء تقريباً. بيد ان اللغة الالمانية ربما تلعب دوراً مهماً في عملية جذب الاوروبيين الى برلين لا سيما من بلدان شرق اوروبا فضلاً عن كون بعض الدول المجاورة لالمانيا من الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي ممن يتحدث اهلها اللغة الالمانية، وهذه المسألة تسهل بقدر كبير العمليات التجارية عدا كون طرق المواصلات التي تربط برلين او المانيا عموماً، مع تلك الدول ممتازة وقريبة الى حدّ ما من الجزء الشرقي من اوروبا. الاقبال الشديد على برلين التي يدخلها سنوياً عشرات الملايين يجعلها تستحوذ على الاهتمام البالغ، ذلك انها تخرج من مصاف المدن او العواصم الاعتيادية الى مصاف المراكز التجارية والسياحية الاساس. وخلال المرحلة المقبلة من المستقبل المنظور ستكون برلين المركز السياحي والتجاري الاول في اوروبا، لا سيما بعد انضمام كل من جمهورية التشيك وبولندا والمجر وغيرها من دول اوروبا الشرقية الى الاتحاد الاوروبي. ويجد البرلينيون سهولة فائقة في المواصلات بين برلين وبراغ مثلاً، حيث لا تتعدى المسافة بين العاصمتين سوى ساعتين ونصف ساعة بالسيارة، ولأن براغ قريبة من عواصم كثيرة مثل بودابست ووارسو وكييف وبراتسلافا وغيرها، فإن حركة السياحة التجارية والتبادل التجاري لا تتسم بالتعقيد، كما هو الحال بالنسبة الى الاقطار الاخرى. برلين تتطور في شكل سريع، ويشاهد الزائر الاجنبي هذا التطور بأم عينه حينما يزور المدينة مرتين في عام واحد. في برلين ليست هناك مسافة فاصلة بين السياحة العامة وبين المرافق الاخرى مثل التسوق والتجارة او معاينة المرافق الثقافية، فكل شيء يظهر امامك اينما اتجهت، برلين هي حقاً مدينة تبهر الانظار وتثير البهجة والاندهاش، وفضلاً عن الامور الكثيرة التي تميزها عن غيرها، الا انها تمثل، وبأشكال مختلفة، ثقافة متنوعة تنوع الموازييك، وفيها تتعايش اقوام من مختلف انحاء العالم، وهذا هو سر ازدهار برلين وتمتعها بهذه الجاذبية المحببة لدى السياح او الزوار.