الكثير مما يكتب ويقال اليوم عن العراق، يبدو وكأنه مفصّل على مقاس قائله. فهو ثوب فضفاض يستوعب كل الأجساد، وهو موضوع من لا موضوع له. فتحت الظلال الوارفة لإشكاليته نشأ كتّاب ومحللون وضاربو بخت من كل الانواع، حتى غدت مقالاتهم وتحليلاتهم تستثير التندر عند الكثير من العراقيين. فالعراق شاطىء مشاع يُصطاد فيه السمك والضفادع معاً. ولكن كيف للعراقيين أنفسهم، ولمن يُحسبون على قادة الرأي والمشورة فيه، المشاركة في هذه الوليمة التي تستهين بحساسيات المواقف في الاوقات العصيبة؟ مناسبة القول تصريح أدلى به عدنان الباجه جي الى البي بي سي، قال فيه ان الهجوم على الفلوجة لا يخدم العراق وان المفاوضات والحل السلمي الانسب. وهو قول سليم بالقطع، لو لم يؤخذ على محمل آخر إن جرت مقارنته بتصريح سابق للباجه جي لم يجفّّ حبره حول الدخول الى النجف. فقد نادى بضرورة تلك الخطوة التي ينبغي ان تنهي استباحة المدن من قبل المليشيات، وأن يخضع مقتدى الصدر للمحاكمة شأنه شأن أي مواطن عراقي. أما خصمه احمد الجلبي فقد اعتبر الهجوم على النجف ومدينة الثورة عملا خطيرا يستهدف المستضعفين والفقراء والشيعة في العراق. وبصرف النظر عن الاهمية التي تكتسبها عمليات تطهير المدن والقرى العراقية من سلطة المليشيات، فإن لهذه التصريحات دلالات يمكن إدراجها في باب الاحتراب الطائفي الذي أصبح هوية سياسية في عراق الكوارث والنكبات. ولكن من الصعب ان نقنع أنفسنا بأن الباجه جي، تُستثار حميته السنية عند مشارف الفلوجة، ولا تثيره عراقيته عندما يتعلق الامر بمكان مثل النجف؟. فبالباجه جي قدم نفسه الى العراقيين زعيم حزب ليبرالي يزيد عدد الشيعة المنضوين تحت رايته على عدد السنة، ومع ان حزبه مجرد مجموعة من التكنوقراط والمثقفين، غير انهم استطاعوا شغل مجموعة من الوظائف في الدولة الموقتة. والذي يعرف الباجه جي لا يمكن ان يحسبه على جهة طائفية، وينطبق الامر على الكثير من السياسيين العلمانيين الذين برزوا قبل سقوط النظام وسيادة سلطة الاحتلال، او بعد ان جاءت حكومة موقتة. لكن واقع العراق وتركة صدام سهّلا الأمر لبروز تلك النعرات على نحو يبعث على الأسى. بالطبع لحكومة علاوي أخطاء فادحة في باب التصريحات، لكن تولي الشعلان الصاعد من الوسط الشيعي العشائري أمر حسم النجف بتصريحاته النارية قد أثار الكثيرين ضده، لكنها كانت لعبة سياسية عسكرية نجحت في إسكات همهمات الشيعة المبتئسين من مجازرهم المتوالية. غير انه استطاب اللعبة في حرب الكلام الذي يحتاج الى آلية في ضبط مساراته. فالحرب في العراق اليوم نصفها على الارض، والنصف الآخر يطفو على سطح الإعلام والفضائيات. والأهم من كل تلك الاقوال ما يمكن ان تثيره حرب الارض المرشحة الى التحول الى مهازل طائفية لأن العراقيين تعبوا من الحروب الجدية، ولم يبق امامهم سوى مهزلة يتفرجون فيها على الكيفية التي يُصطادون فيها كالذباب في معارك بين شيعة وسنة وكرد وتركمان. ومن المجدي ان نفهم تلك التصريحات وغيرها في إطار أوسع من هذه الزاوية الضيقة، وفي باب التطلع الى عراق جديد لا يقرر مصيره الاحتلال وحده، بل الذين أتيحت لهم فرص ان يصبحوا على مقربة من فكرة الدولة المقبلة التي تدير التفاوض على الحقوق-حقوق الناس المبتلين بدبابات تجوب شوارعهم وسلطة المليشيات التي لاتبقي ولا تذر. الاداء السياسي للقادة هو جزء من تجربة يكتسبها هؤلاء من ثقافتهم، مثلما تؤثر فيهم تقاليد السياسة المحلية. فالجلبي الذي أصبحت الطائفية آخر قلاعه للحصول على الاصوات الانتخابية، يبدو وكأنه خسر المعركة الأهم منذ دخوله العراق. فهو رجل أعمال مرموق، وبعض من تطلع بإعجاب اليه في السابق، أصيب بخيبة أمل من إنحداره الى هذا المآل في ترتيب حساباته. فهو أذكى مما اتهم به من تورط مع إيران التي جعلت من مقتدى الصدر ومليشياته واجهة بين واجهات إبتزاز الأميركان على حساب العراقيين وأمنهم. وتداخل اللعبة السياسية يحتاج الى حساسية في التعامل مع الشارع العراقي وأكثريته الصامتة التي يستهان بذكائها عبر تلك التصريحات النارية. ووسط كل تلك الاشتباكات نستطيع ان نتبين خطاً غير ملحوظ لكنه قوي الحضور في الشارع العراقي، وهو يتجه الى تعزيز الشعور بالوطنية العراقية، نستطيع ان نجده في تجليات قد تصل الى حد التقوقع او الشعور بالغربة عن العالم، وهو امر طبيعي بعد كل الكوارث التي شعر العراقي فيها بأن بلده يباع ويشترى في سوق السياسية العربية والدولية. هذا الخط هو الذي ينبغي ان يكون للساسة دور في تعزيزه. عبد العزيز الحكيم خسر الكثير من شعبيته بين صفوف الشيعة عندما طالب العراقيين بتعويض للإيرانيين عشية الدخول الارهابي عبر أراضيهم الى العراق، وهو أمر أثار عجب الناس قبل استنكارهم، لا لأن العراق لايملك شروى نقير فقط، بل لأن فكرة التعويضات تكمن خلفها نعرة الانتقام وذر الملح في جروح العراق الذي يعاني شيعته قبل غيرهم الفاقة والبؤس. أما مسعود بارازاني الذي لم يعرف عنه الناس سوى الهدوء والحكمة، ففاجأهم بتصريحه حول كركوك التي سيقاتل من أجل كرديتها. وقس على ذلك في تصريحات الياور التي يشم منها موقف يشي بسنية او قبلية لايحتملها وضع العراق الحساس. على مشارف الفلوجة تُختبر النوايا، من قطع رؤوس الناس وإقامة دولة طالبان الى الثمن الذي سيدفع في استحقاقات الحماية العسكرية الاميركية في المستقبل لا اليوم فقط. واللعبة الانتخابية ستدخل دون شك في قوس النار العراقي، حيث يستوطن الآن مئات الانتحاريين الذين لا يفرقون بين مدرسة اطفال او معسكر لتدريب الشرطة. أما جيوش الحواسم، وهو لقب يطلق على المافيات المؤلفة من عتاة المجرمين، فهي من بين الكوارث التي أتقن صدام صناعتها لمعاقبة العراق دون رحمة، وساعد الاميركان على إكسابهم قوة وتسلطاً على الشارع العراقي يوم دخلوا فاتحين!. المأساة العراقية تحتاج الى زعماء يفضلون العمل على الاحاديث المثيرة للتسليات التلفزيونية. فالانتخابات العراقية لن تكون مثل تلك التي تجري في بلد يتمتع الناس فيه بلحظة استرخاء. فالذاهب الى مركز الاقتراع من الناس العاديين، لا ينظر اليوم الى الزعماء باعتبارهم باعة كلام، بل بما يملكونه من عزم على تحقيق أمن العراق واستقراره. فالبلد الآن في مهب ريح الإرهاب العالمي، وهو لايتحمل تحالفات واصطفافات طائفية او مناطقية أونعرات قومية تصّنف المدن وفق هواها. ويخطىء من يظن ان الانتخابات ستأتي بحكومة تحقق استقلال العراق كما نريد او ديموقراطيته كما نحلم. فلا ماضي العراق القريب يسمح بذلك ولا حاضره الغارق في بركة الدم. ولكن ان استطاع العراقيون وساساتهم التحلي بروح التفهم و الواقعية والابتعاد عن منطق المزايدات، كان بمقدورهم تجنب ما يمكن أن نسميه أقل الخسائر الممكنة من أجل تأسيس دولتهم الجديدة. خطاب صدام وصحبه المليء بالعنجهيات والمزايدات، ينبغي ان يُقبر من قاموس السياسة العراقية. فالناس تحلم بزعماء واقعيين يعرفون قوة التواضع والموضوعية. ويوم يؤمن العراقي بأن ساسته موظفون تنتهي مهمتهم عندما تنتهي واجباتهم، سيجتاز مفازة الزعيم الأوحد والبطريرك الذي لا يأتيه الباطل من خلفه وأمامه.