محمد يوسف المقريف. - ليبيا بين الماضي والحاضر: صفحات من التاريخ السياسي - الجزء الأول. - مركز الدراسات الليبية، اكسفورد. - 1718 صفحة. يتكون هذا الكتاب المرجعي من أربعة أجزاء في عشرة مجلدات، صدر منها حتى الآن الجزء الأول الذي يقع في ثلاثة مجلدات. أما المجلد الأول، وهو بعنوان "ميلاد دولة الاستقلال"، فكناية عن مقدّمة عامّة في تاريخ ليبيا وميلاد دولة الاستقلال، ويتكون من أربعة فصول في 370 صفحة، ويحتوي على كلمة الناشر، وكلمة للدكتور نقولا زيادة، ومقدمة يُعرّف فيها المؤلف بنفسه، ويشرح نهجه في البحث والتأريخ، والأسباب التي دعته للانكباب على تأليف الكتاب. يستهل يوسف المجريسي، مدير مركز الدراسات الليبية، كلمة الناشر، بقوله: "لا توجد دولة عربية واحدة تفتقر لكتب عن تاريخها المعاصر مثل ليبيا. أما بعد نشر هذا الكتاب النفيس، فسوف تثرى المكتبة الليبية حقاً، وتجد فيه ما يغنيها ويعوّض ما فات من تقصير في حق التاريخ الليبي الحديث، ولا سيما مرحلة الاستقلال، والحقبة الملكيّة الفريدة". ويصف الناشر الكتاب قائلاً: "إنه أفضل ما قدم للمكتبة العربية عن ليبيا بعد أكثر من ثلث قرن من القحط الفكري والجدب العلمي. ويوم يتم نشر بقية الأجزاء، الثاني والثالث والرابع، من هذه الموسوعة ستكون من غير شك أهم مرجع في تاريخ ليبيا الحديث، وستبقى كذلك لسنوات طويلة حتى تسترد ليبيا حريتها الفكرية، وتسترجع حيويتها الثقافية، وتتعافى من سنوات الجهل والقهر والانحطاط". أما الدكتور نقولا زيادة، أحد أهم المؤرخين العرب في العصر الحديث، فيقول عن المؤلف: "لن يتاح لليبيا كل يوم أن يُعنى بها كاتب بهذا الصبر والجلد، وعنده هذه المقدرة على التصنيف، والدربة على الكتابة، والوضوح في الأسلوب". ويتضح من المقدمة أن الدكتور محمد يوسف المقريف بدأ حياته العملية في الحقل الأكاديمي، إذ عين معيداً بكلية الاقتصاد والتجارة فور تخرجه من الجامعة الليبية عام 1962، وعمل، عقب إنهاء دراسته العليا في بريطانيا، أستاذاً ووكيلاً للكلية ذاتها عام 1971-1972، ثم ترأس ديوان المحاسبة الليبي لفترة خمس سنوات، 1972-1977، ومن بعدها عمل سفيراً لبلاده لدى الهند حتى استقال من منصبه عام 1980 وانضم للمعارضة الليبية في المنفى. وفي 1981 انتخب أميناً عاماً للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وظل في هذا المنصب حتى استقال عام 2001. أما الأسباب التي دعته لتأليف موسوعة تاريخية بعيدة عن تخصصه العلمي والعملي، فهي الأسباب نفسها التي أشار إليها الناشر في كلمته، إذ يقول الدكتور المقريف: "لقد بدأت قصتي مع تأليف الكتاب قبل ما يزيد عن عشر سنوات، عندما رأيت أن أتعمق بمطالعة تاريخ دولة الاستقلال مؤملاً أن أتعرف على الأسباب الحقيقية التي آلت بها إلى السقوط في الأول من سبتمبر 1969 على يد حفنة من الضباط المغمورين ولا أقول حتى من المغامرين. وقد هالني ألا أجد، في اللغة العربية خاصة، وقد مضى يومذاك على قيام دولة الاستقلال قرابة الأربعين عاماً، وعلى سقوطها، ما يربو على العشرين عاماً، سوى كتب محدودة جداً". ويتبادر إلى الذهن لأول وهلة من الإهداء والمقدمة أن المؤلف يميل إلى العهد الملكي، ولكن عند الدخول إلى الكتاب وقراءته يتضح أن المؤلف سلك أسلوباً علمياً في سرد الأحداث، فلم يتعصب للعهد الملكي ولم يتحامل عليه. فالكتاب يذكر ايجابيات العهد الملكي كما يذكر سلبياته، ولا تكاد توجد صفحة فيه إلا موثقة بالمراجع والمصادر. وقد أكد المؤلف في المقدمة أن الكتاب "ليس دفاعاً عن الملك إدريس"، "كما أنه "ليس دعوة للعيش في الماضي، والبكاء على أطلاله، ولا هو دعوة لعودة الملكية إلى ليبيا". وأضاف: "إنّ هذا الكتاب، كما أرجوه من الله، هو مساهمة متواضعة على طريق المعرفة بتاريخ دولة الاستقلال، ومن أجل إيقاظ الوعي التاريخي. وهو دعوة هادئة وجادّة للقراءة والتأمل والحوار حول ما جرى في بلادنا خلال سنوات العهد الملكي الثماني عشرة، بكل إنصاف وموضوعية، وبعيداً عن كل صوَر التحامل والتجنّي والمحاباة .. أملاً في الوصول إلى تقييم شاملٍ وموزون ومنصف لتلك الحقبة العزيزة من تاريخ ليبيا، ومن ثمّ إلى معرفة الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى وقوع انقلاب سبتمبر 1969 وسقوط دولة الاستقلال الأولى... إنَّ الحوار والتقييم هما شرطان لا مندوحة عنهما بنظري في عملية استشراف المستقبل الراشد المأمول لليبيا الغد... ذلك أنَّ مستقبل كل شيءٍ يكمن في تاريخه... ولا قيمة للتاريخ إن لم يكن هادفاً صادقاً، يقدّم العبرة للحاضر وللمستقبل. يبدأ المؤلف في هذا المجلد بسرد تاريخ ليبيا السياسي منذ عصور الفراعنة والإغريق والرومان والفتح الإسلامي مروراً بالغزو الإيطالي عام 1911 إلى أن نالت البلاد استقلالها عام 1951 على يد زعيمها التاريخي محمد إدريس السنوسي. وقد غطى المجلد الأول تأسيس الحركة السنوسية، وجهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، ثم عهد الإدارة العسكرية: البريطانية في طرابلس وبرقة" والفرنسية في فزان. وقد شهدت هذه الحقبة القصيرة التي لم تدم أكثر من تسع سنوات أكبر نشاط سياسي عرفته ليبيا في تاريخها، ففي هذه السنوات تأسس عديد من الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية التي لعبت دوراً كبيراً في المحافل الدولية للحصول على استقلال البلاد، وتأسيس دولة ليبيا الحديثة. أما المجلد الثاني ويحمل عنوان "دولة الاستقلال: الحقبة غير النفطية 1951-1957"، فيغطّي العهد الملكي من 1951 حتى استقالة حكومة مصطفى بن حليم سنة 1957، وهو يتكون من خمسة فصول في 612 صفحة. وقد تناول فيه المؤلف ثلاث حكومات: 1- حكومة محمود أحمد المنتصر، التي وقعت معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا، وبموجبها تم تأجير قاعدة العدم العسكرية لبريطانيا في طبرق شرقيّ ليبيا لمدة عشرين سنة. وقد أثارت هذه المعاهدة قبل إقرارها ضجة سياسية في وسائل الإعلام ومجلسي النواب والشيوخ، وظلت موضع هجوم وانتقاد طوال العهد الملكي. 2- حكومة محمد الساقزلي، التي انفجرت في أيامها القصيرة الأزمة الدستورية، وهي حادثة فريدة لم يسبق مثلها في العالم العربي ولم تتكرر إلى اليوم، فقد حكمت المحكمة الاتحادية العليا يوم 5/4/1954 ببطلان المرسوم الملكي بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب الصادر بتاريخ 9/1/1954. 3 - حكومة مصطفى أحمد بن حليم، التي شهدت كثيراً من الوقائع التاريخية المهمة، ففي عهده تم توقيع الاتفاقية الليبية الأميركية بشأن تأجير قاعدة ويلس لأميركا غربيّ طرابلس، وقد واجهت هذه الاتفاقية أيضاً معارضة شديدة في مجلسي النواب والشيوخ، ولكنها مرت عبر أساليب ملتوية خلافاً للمعاهدة التي قبلها في عهد المنتصر. فالمؤلف يذكر، مستنداً إلى وثائق الأرشيف الأميركي، أن "من العوامل التي ساعدت في إقناع عدد من النواب بالتصويت لصالح الاتفاقية الوعود بالمساعدات والخدمات والرشاوى الفعلية التي قدمها بن حليم لهم". وفي عهد بن حليم تم اغتيال ناظر الخاصة الملكية إبراهيم الشلحي، يد الملك اليمنى وأقوى شخصية سياسية في البلاد بعد الملك مباشرة، هذا بالإضافة إلى بداية توقيع عقود الامتياز للتنقيب عن البترول، وبداية استشراء الفساد المالي والسياسي في ليبيا. ويتناول المجلد الثالث "دولة الاستقلال: الحقبة غير النفطية 1957-1963"، وهو يغطّي العهد الملكي، منذ تكليف عبد المجيد كعبار تشكيل الحكومة سنة 1957 حتى استقالة حكومة محمد بن عثمان الصيد عام 1963، وهو يتكون أيضاً من خمسة فصول في 736 صفحة. ففي خلال حكومة كعبار، وهي أطول الحكومات العهد الملكي عمراً، تم اكتشاف النفط بكميات تجارية عام 1959، وأدى ذلك إلى ازدياد الفساد المالي واستشرائه، لدرجة أن الملك أصدر بيانه الشهير "بلغ السيل الزبى" موجهاً خطابه لرئيس الحكومة والوزراء وولاة الأقاليم، مندداً بقبول المسؤولين للرشاوى واستغلالهم لسلطاتهم ونفوذهم. وبسب هذا الفساد، وما عُرف بفضيحة طريق فزان، سحب مجلس النواب الثقة من حكومة عبد المجيد كعبار في خريف 1960. أما حكومة الصيد فشهدت هي الأخرى تطورات كبيرة على الصعيد المحلي، منها الشروع في إلغاء النظام الاتحادي. وفي عهد الصيد ازداد الصراع على خلافة الملك بين ولي العهد الجديد الحسن الرضا السنوسي وناظر الخاصة الملكية البوصيري الشلحي، الذي تسلم هذا المنصب بعد اغتيال والده، وامتد الصراع إلى كبار قادة الجيش. وشهدت البلاد أيضاً صراعاً بين قادة نقابات العمال وزعماء القبائل، كما وقع في هذا العهد أول محاولة انقلابية عسكرية في البلاد، وتم فيه اغتيال نائب رئيس الأركان العقيد إدريس العيساوي أحد أقوى الشخصيات العسكرية الموالية لولي العهد والمحسوبة عليه. ولم يسلم الصيد، كسلفيه السابقين بن حليم وكعبار، من اتهامات بالفساد واستغلال النفوذ السياسي لمصالحه الشخصية. ويحتوي المجلد الثالث، على الرغم من أنه خصص لحكومتي كعبار والصيد، على مبحث خاص عن رئيس الوزراء الأسبق مصطفى بن حليم "آراء ومواقف لبن حليم"، وهو مبحث، على قصره، مثير جداً، يستحسن أن نورد فقرات منه ليتعرف القارئ على أسلوب المؤلف في المقارنة والنقد والتحقيق. فبعدما يستشهد بمذكرات بن حليم وقوله: "انصرف نشاطي تماماً لأعمالي الخاصة وابتعدت تماماً عن السياسة"، يقول الدكتور المقريف: "غير أن الحقيقة، التي تظهر جليّة من مطالعة الوثائق البريطانية والأميركية المنشورة، هي أن بن حليم لم يترك الأعمال الخاصة حتى عندما كان يتقلد المناصب الحكومية، لا سيما عندما كان سفيراً لليبيا في باريس. كما أنه لم يترك السياسة حتى بعد أن تفرغ لأعماله الخاصة. ولعل أهم وأخطر مظهر لاستمرار خوضه في القضايا السياسية هو تواصل تردده على السفارتين الأميركية والبريطانية في ليبيا، واستمرار لقاءاته برجالهما والحديث معهم دون قيود أو حدود في كافة الشؤون المتعلقة بالتطورات السياسية والأمنية في البلاد. هذا فضلاً عن استمرار علاقته الوطيدة بناظر الخاصة الملكية البوصيري الشلحي ذي النفوذ والطموح السياسي المعروفين". وكما يذكر المؤلف سلبيات رؤساء الحكومات يعدد الإنجازات التي تمت في عهدهم، بالرغم من فقر الدولة آنذاك واعتمادها الكلي على المساعدات المالية والخبرات البشرية من الخارج. وهو يقدم ما تم من تطور في الحريات والحقوق السياسية، وفي مجالات التنمية والتعليم والصحة والإسكان والإعلام وغيرها في جداول وإحصاءات تيسر للقارئ متابعة النهضة الليبية بمختلف فروعها، وما حققه العهد الملكي من تقدم ورفاهية للشعب الليبي ودولته الناشئة قبل استخراج النفط وبداية تصديره. ويعلق المؤلف على سلبيات هذه الحقبة قائلاً: "على أنَّه تجدر الإشارة إلى أنَّ حالات الفساد والرشوة التي برزت في سلوك وممارسات عدد من رجال هذه الحقبة لم تكن تشكل، وعلى العكس ممّا كان سائداً في بقية دول المنطقة، نمطاً أو أسلوباً معتاداً للحياة وفي التعامل. كما أنَّ الممارسات الفاسدة كانت محصورة في عدد محدود جداً من رجال الإدارة العليا في الحكومة". ويخصص الكاتب جزءاً كبيراً من المجلد الثالث للدفاع عن النظام الملكي والرد على الأباطيل التي كانت ولاتزال تلفق حوله. ويقول في هذا الصدد: "على الرغم من المعوّقات الموروثة والطارئة، والمعوقات الذاتية والخارجية المتواصلة، والأزمات التي صنعتها أو فرضت عليها، والإخفاقات التي منيت بها أحياناً، فقد استطاعت حكومات تلك الحقبة أن تحقِّق إنجازاتٍ باهرة، بمقاييس ذلك العصر وكلّ عصر، ليس بمقدور منصفٍ أن يتجاهلها أو يتناساها، ولا يملك إلا أن يعترف بها ويذكرها لتلك الحقبة ورجالاتها". ويصدر الكاتب حكماً موضوعياً عن رجال هذه الحقبة من تاريخ ليبيا الحديث حين ينتهي إلى القول: "وإذا كان حصول ليبيا على استقلالها في أواخر عام 1951 أشبه بالمعجزة .. فلا شك أنَّ استمرارها متماسكة متحدة خلال هذه الحقبة كان هو الآخر معجزة أخرى.. كما أنّ الإنجازات الأخرى التي حققتها حكومات تلك الحقبة، في شتى المجالات التي أشرنا إليها، هي دون شك معجزة ثالثة، رغم كل ما شابها من قصور وعيوب". ويمكن إيجاز ما يتضمنه الجزء الأول من الكتاب، بمجلداته الثلاثة في ما يلي: مئات الوثائق والرسائل السرّية المتبادلة بين السفارات الأجنبيّة في طرابلس وبنغازي وبينها وبين وزارتي الخارجيّة البريطانية والأميركية، والتي يُكشف عنها النقاب لأوّل مرّة. ومدخل واسع وغنيّ لدراسة التاريخ الليبي منذ أقدم العصور حتى مطلع عام 1963. وسجلّ لدولة الاستقلال وعلاقاتها العربية والدولية وظروف قيام الملكيّة في ليبيا وتوحيدها في دولة واحدة. وتراجم وسير وتواريخ وإحصاءات ووقائع وأحداث لم يتضمّنها أيّ كتابٍ آخر عن ليبيا، تمهّد للباحثين سبلاً واسعة لدراسة أعلام ليبيا وتاريخها في عهد الاستقلال، وترشدهم إلى كل ما هو جدير بالبحث والتحقيق. وخلفيّات وأسرار الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة العربيّة عامّةً وليبيا خاصّةً في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين. ودروسٌ في العلاقات الديبلوماسيّة ومناوراتها بين الدول تمنح الدارسين غنىً وخبرةً في أصول هذه العلاقات وخلفيّاتها الحقيقيّة وأسرارها. وصور تاريخية نادرة تنشر لأول مرّة، وفهرس كامل للأعلام. إننا، باختصار، امام عمل غير عادي في التعريف ببلد طُمس تاريخه.