ارتكبت القوات الأميركية في الفلوجة المجزرة التي خططت لها وسعت إليها، مفتتحة الولاية الثانية لجورج دبليو بوش. مجزرة أمنت لها الحكومة العراقية الموقتة تغطية كاملة كأنها غير معنية بالضحايا، وقد تبين أنهم في غالبيتهم الساحقة من العراقيين. مجزرة جلبت للأمين العام للأمم المتحدة اللوم والتأنيب والتهديد لمجرد أنه عبر عن رفضه لها، قبل حصولها، وعن تفضيله لحل سياسي لم يُبذل جهد حقيقي لترجيحه. لذلك ساد صمت دولي وعربي لا بد أن يترجم في واشنطن بأن نهج المجازر بات يتمتع ب"شرعية"طالما أن الاحتلال نفسه تمكن من انتزاع مشروعية دولية بالتفاف وتحايل على ميثاق الأممالمتحدة وقوانينها. وعلى رغم أن الأميركيين حرصوا هذه المرة على أن تكون معركة الفلوجة بلا إعلام، ظلت هناك شكوى من الإعلام خصوصاً العربي، وكأن المطلوب أن لا يسمع أحد ولو صوت أي إنسان من الفلوجة عبر الهاتف، وهو يصف ما يشاهده من وحشية الجنود الأميركيين. فالكلمة احتكرت لمصلحة الصحافيين المرافقين للجنود، والصورة المتاحة هي تلك التي يلتقطها عسكريون ويجيزها الرقباء، والمعلومات هي التي تتفضل بها مصادر العسكر فتعرض من دون أن يقتنع أحد بصدقيتها. ومع ذلك كان هناك تهافت من الجانب العراقي الحكومي على إعلان نهاية المعركة منذ بداياتها، في حين كان الأميركيون يؤكدون أنها لم تنته بعد. ولم يكن أحد يشك في النهاية المحتومة، بالنظر إلى عدم تكافؤ ناري معروف سلفاً. وكان الجدل الأغرب هو ذاك الذي دار حول ادخال مساعدات إنسانية إلى المدينة. فالأميركيون رفضوا لأسباب عسكرية بحتة، أما العراقيون الحكوميون فسخروا من منظمات الاغاثة، مؤكدين أن"لا أزمة إنسانية"في الفلوجة. كان مفهوماً أن أحداً لن يبقى كي يُغاث أو يداوى. ليست صور الجندي الذي أجهز على الجريح في المسجد سوى فلتة من فلتات نهاية المعركة. إنها جريمة حرب لن يعترف بها البيت الأبيض ولا البنتاغون ولا الخارجية الأميركية طبعاً في عهد الدكتورة الحديد كوندوليزا رايس. كما لم يعترف يوماً بعديد من جرائم الحرب المماثلة التي ارتكبها الإسرائيليون بدم بارد. لذلك أصبح الجنود محصنين، يعربدون كما يشاؤون من دون وازع ولا حساب. تلك الصورة من يستطيع تأكيد أنها الوحيدة، ومن يمكنه وصف ما حصل في الفلوجة خلال أسبوع كامل من التقتيل والتدمير. لقد قيل للجنود إن أمامهم مدينة يستطيعون استباحتها، ولا قيود عليهم أو ضوابط، ولم نرَ طوال تلك الأيام سوى مشاهد استعراضية كأنها مستخرجة من شريط هوليوودي. كثير من الدمار انزل بالفلوجة من دون أن يكون الجنود في خطر يبرره. لكن الدمار غدا مجرد علامة ل"تأمين"الأحياء التي انتهى تمشيطها و"تنظيفها". كان الهدف الانتقام من الفلوجة وجعلها عبرة للمقاومين والإرهابيين على حد سواء. أما الجدل الأكثر غرابة فهو ذلك الذي حاول استثارة فزع العراقيين لبعضهم بعضاً. والمؤسف أن معركة الفلوجة، كمعركة النجف من قبلها، برهنت على تشرذم الشعب أبشع شرذمة. إذ لم تتمكن مقاومة الاحتلال من توحيد الصفوف، وليس أكيداً أن مشروع الدولة"الجديدة"هو الذي يوحدها على رغم وجود تمثيل لمعظم الفئات داخل الحكم والحكومة. المؤكد أنها لحمة صورية، موقتة فعلاً، وأخطر ما فيها أنها لم تعمل بجد لتصويب الأخطاء الفظيعة التي ارتكبها الأميركيون، بل راكمت أخطاء أخرى. ومن هنا طرح التساؤل: ماذا بعد الفلوجة؟ إلى أي حد ضمن"الانتصار"الأميركي في الفلوجة استحقاق الانتخابات بعد شهرين ونيف، وإلى أي حد سيفك هذا الانتصار أسر الحكومة الموقتة في"المنطقة الخضراء"، وإلى أي مدى ستؤمن هذه المجزرة سيطرة الحكومة على كامل الانحاء العراقية؟ للأسف، ستبقى الشكوك سيدة الموقف إلى أجل غير مسمى، لأن كل"انجاز"أميركي بات يعني مزيداً من الانقاسم ومزيداً من التلاعب بحقائق البلد ومزيداً من التخريب لروابط الشعب. لا شك أن العراقيين يستحقون أفضل من هذا العبث بمصيرهم.