اذكر حينما قالت لنا المعلمة في الصف، بعد ان انتهينا من قراءة قصة عن ولد يكذب على امه، ان الكذب سيئ مهما كانت الظروف. حتى اذا كان في مقدور الكذبة ان تنقذ حياة شخص، او ان تساعد فقير على الاغتناء. قالت ايضاً ان الكذب سيئ حتى اذا كان لا يضر احداً. لا شك في ان الفكرة هذه انطبعت في ذاكرتي لانني لم اقتنع، على رغم صغري، بأن قول الحقيقة اكثر اهمية وقيمة من حياة شخص. وأنا لم أقتنع حتى اليوم. فهناك في الحياة مواقف يبدو فيها الكذب حلاً وحيداً. ويبدو، لفعاليته في تلك المواقف، كأنه مجرد من سلبياته كلها. كأنه افضل من الحقيقة لأنه أسهل منها. ثم جاء اليوم الذي طلبت مني امي فيه ان اجيب على الهاتف واقول لمن يتصل انها ليست في المنزل. ربما كانت يائسة جداً لتطلب مني ان افعل ذلك، فهي لطالما علمتني ان اضع الكذب في خانة "الشر"، مع السرقة والغش والاشياء السيئة الاخرى. اجبت على الهاتف ولكنني ارتبكت ولم تخرج الكذبة من فمي. لم استطع ان اقول للمتصل ان والدتي ليست هنا، وهي امامي تنظر الي. لم اعرف ماذا اقول، وبدأت جملتي ب"تقول الماما..." كما تبدأ في هذا العمر معظم الجمل التي يوجهها ولد الى شخص اكبر منه. وأخذت مني والدتي الهاتف بسرعة، فلم يسمع المتصل بقية الجملة حيث اقول انها ليست في المنزل. لم تنجح كذبتي الأولى لأسباب تقنية، فخيالي لم يكن واسعاً كفاية لتكون فيه والدتي موجودة وغائبة في الوقت نفسه. ضحكت امي حينما عاتبتها كما يفعل الاولاد عندما يقلدون الكبار، بعد ان تخلصت وحدها من المتصل المزعج، كأنها تضحك على سخرية الموقف، وتضحك لأنها بدورها، لا تعرف ماذا تقول. ثم اعطتني درسي الاول عن الكذبة البيضاء. الكذبة التي يجبر الكبار على ارتجالها احياناً، والتي لا تعدّ كذباً في شكل فعلي، لأنها لا تضر احداً. كان هذا درسي المعتدل الاول عن الكذب، الذي لم يعد رمزاً للشر فقط، وأصبح كذبة صغيرة. لم اكذب اذاً، ولكنني اصبحت اعرف ان الكبار الذين لطالما نبهوني من الكذب هم ايضاً يكذبون. وعرفت ايضاً ان الكذبة احياناً لا تؤذي احداً، وأنها في المقابل قد تنقذ من يقولها مما يشبه المأزق. ولكنني بقيت هذا الولد الذي لا يكذب لسنوات بعد هذا اليوم. ثم جاء دوري في الكذب، في بداية المراهقة، حينما أصبح عندي سر. فالمراهقة هي عمر الاسرار. و الأسرار هي الطريق الى الكذب. والداي هما اول من كذبت عليهما طبعاً، كما يفعل معظم المراهقين، فالاهل هم العدو في هذه المرحلة. هم الشرطة، وأسرار المراهقة هي الجرائم. الكذب دليل نضج المرء ووعيه. هو طريق المراهق الى الحرية. هو خادم الأسرار وحافظها، وتربية الاولاد لا تكتمل، اذا لم يكذبوا على اهلهم. فيكذب المرء على اهله في المراهقة، يعني انه يعرف اولاً ما هو الجيد وما هو السيئ، ويكون قد تجرأ على تخطي قانون والديه، ودخل بذلك الى حياته كشاب حرّ. ولكن كذبات تلك الايام تبدو لي سخيفة الآن، كما تبدو صغيرة الامكنة التي اعود اليها بعد غياب منذ الطفولة. تبدو كأنها صغرت، لكن في الحقيقة أنا من كبر. واذا كانت كذبات المراهقة تبدو لي خفيفة اليوم، فلأن كذبات اليوم باتت كبيرة. الأسرار تكبر معنا، و كذباتنا أيضاً. نكذب لأنه يصعب قول الحقيقة أحياناً. ولأننا نتعلم من الحياة ان هناك أشياء يجب ان تبقى لنا. طالما عندنا اسرار سنكذب، ومهما علمنا اولادنا ان الكذب سيئ، سيكذبون. هل الكذب سيئ ام هو أبيض؟ سؤال لا إجابة واحدة عنه. فالمشكلة مع الكذب هي في كونه أسهل من الحقيقة أحياناً، وفي كونه ينقذ حياة اشخاص أحياناً، وينقذ غيرهم من اتصالات هاتفية. والجميل في الحقيقة هو انها دائماً تعود وتفضح الى العلن. فالكذب ليس حلاً جذرياً مهما بدا كذلك. الكذب طبيعي وسهل، لكنه لا يدوم، وربما كان ذلك عذره الفعلي الوحيد.