لم يعرف العالم العربي خلال الأربعين سنة الماضية، زعيماً مثيراً للجدل مثل ياسر عرفات. ولم يسبق للشعب العربي ان عرف زعيماً اختلف الناس على تقويم ادائه مثلما اختلفوا على تقويم دور ابو عمار. ولم تشهد الدول العربية ثائراً حمل قضيته الى داخل مجتمعاتها بحيث تحوّلت شأناً سياسياً محلياً يتنازع الناس على قبوله او رفضه، كما فعل عرفات. ومثل هذا التباين لم يظهر في آخر ايام حياته فقط، وانما بدأ يوم ولادته ايضاً. ففي جواز سفره الجديد الذي طُبع في المانيا اشارة واضحة الى انه مولود في القدس. واستناداً الى هذه الشهادة طالب بأن يُدفن في العاصمة المقدسة مُخيّراً المفتي الشيخ عكرمة صبري بين جبل الزيتون او جدار المسجد الأقصى حيث دفن عبدالقادر الحسيني ونجله فيصل. ولكن شارون اعترض على هذا الطلب متهماً ياسر عرفات بأنه بدّل مكان مولده من بلدة"خان يونس"، حيث عاش والده عبدالرؤوف عرفات القدوة، الى القدس حيث قطنت عائلة والدته زهوة ابو السعود. وفي اول بيان أصدره وزير العدل الاسرائيلي يوسف لبيد قال ان الحكومة تسمح لرئيس السلطة الفلسطينية بأن يدفن في مقبرة"خان يونس"حيث دُفنت شقيقته إنعام. ثم تراجع عن هذا التصريح وقال انه لا يعارض دفنه في رام الله، المدينة التي اختارتها اسرائيل عاصمة للدولة الفلسطينية. وكما كان ابو عمار لغزاً محيّراً في حياته، هكذا تحول الى احجية غامضة في مرضه. وتعترف وسائل الاعلام الفرنسية انه لم يسبق ان اختلف أطباء مستشفى"بيرسي"على تشخيص مرض احد النزلاء، مثلما اختلفوا على تشخيص مرض عرفات. وربما ساهم الاهتمام الاستثنائي الذي اظهره الرئيس جاك شيراك نحو عرفات، في زيادة ارتباك الاطباء الذين ترددوا في اعطاء جواب فاصل حول طبيعة المرض الذي يعاني منه رئيس السلطة الفلسطينية. والمؤكد ان التعليقات المتفائلة التي صدرت عن نبيل ابو ردينة وليلى شهيد ومنيب المصري قد ضاعفت من حجم البلبلة لكونها تعبّر عن تمنيات شخصية لا عن معلومات طبية رسمية. ثم جاء تصريح نبيل شعث ليستبعد فرضية التسمم، بخلاف كلام مفوضة فلسطين في باريس ليلى شهيد، بأن هناك انواعاً من السم لا تترك اثاراً ظاهرة. ويبدو ان كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية يرفضون تبني الاشاعات المتداولة في غزةورام الله بأن جهات مأجورة دسّت السم في طعام عرفات او في شراب الكوكاكولا المفضّل لديه. ومما يزيد الوضع تشويشاً ان البعض يعتقد بنظرية المؤامرة وبأن عناصر مجهولة سُمح لها بزيارة عرفات، ربما استغلت الفرصة لدس السم بكميات ضئيلة كي لا تثير الشبهات او تعرّض صحة الرئيس لانتكاسة يمكن اكتشاف أعراضها. والملفت ان الوفد الصحافي البريطاني الذي زاره الشهر الماضي لاحظ ازدياد رجفان شفتيه ويديه، وازرقاق لون بشرته الناشئ عن نقص الاوكسجين في الدم. كما لاحظوا تدخّل معاونيه لتصحيح التواريخ والاسماء التي تتشابك في احاديثه المتقطعة. ولما سأله مراسل"الغارديان"عما اذا كان يمارس الرياضة، اشار الى ممر قصير يربط بين بنايتين سبق للمدفعية الاسرائيلية ان دمّرته، وقال انه يعدو في الصباح بين غرفة نومه وقاعة الطعام التي يستخدمها كمكتب ايضاً. ورجع الوفد الصحافي الى لندن ليكتب سلسلة تحقيقات في جرائد مختلفة ركّز معظمها على التساؤل ما اذا كان الرئيس الفلسطيني وصل في مسيرته الطويلة الى آخر الطريق! مع غياب المعلومات الدقيقة عن صحة الرئيس الفلسطيني، ازدادت فرضية التسمم لكونها تشكّل الجواب السهل لتفسير مرض مبهم عجزت المختبرات الالمانية عن كشف مسبباته. واستغل قادة الانتفاضة تقرير الفرق الطبية العربية ليتهموا اسرائيل وعملاءها بدس السم لعرفات، خصوصاً ان التقرير ينفي اصابته بسرطان الدم او الالتهاب الفيروسي. وربما دخل العنصر السياسي في هذه المشكلة الصحية على اعتبار ان اتهام اسرائيل بعملية القتل البطيء، يؤجج مشاعر الغضب والانتقام لدى انصار الزعيم الذي تعتبره غالبية الشعب الفلسطيني والد الثورة ونصير اللاجئين وحامل شعلة التحرير. وفي تفسير آخر قدّمه اطباء بريطانيون ما يثبت ان عرفات أخفى اوجاعه طوال فترة الحصار كي لا يحبط عزائم المقاتلين ويحقق لشارون وبوش أهدافهما من تهميشه واستبعاده. ويرى هؤلاء ان تدهور حالته الصحية كان نتيجة معاناة نفسية وإرهاق جسدي آثر تحملهما حفاظاً على صورة الحكاية الاسطورية التي رسمها محبوه بعد نجاته من حادث سقوط طائرته في صحراء ليبيا. ولقد ولّدت تلك الحادثة قناعة شعبية بأن"الختيار"يتمتع بمناعة خارقة تبعد عنه الأذى حتى لو سقط من علو شاهق او تعرض لقصف اسرائيلي. ولقب"الختيار"أُطلق عليه من قبل رفاقه الشيوعيين في حركة المقاومة تيمناً ب"ختيار"الثورة البلشفية"لينين"، الذي حمل هذا اللقب ايضاً بسبب صلع تام داهمه في سن مبكرة. ولقد اعتمر لينين"البيريه"المسطّحة الليّنة التي شكّلت نموذجاً لغطاء الرأس لدى تروتسكي وستالين ومولوتوف وكيروف ومالينكوف في حين حجب ابو عمار صلعته البيضاء بالكوفية الفلسطينية طوال اربعين سنة. عقب اعلان وفاة ياسر عرفات صباح الخميس الماضي، علّق الرئيس جورج بوش على النبأ بالقول انه يأمل بظهور مرحلة جديدة تنهي النزاع على قضية الشرق الاوسط. وصدر كلام مماثل عن الحكومة الاسرائيلية التي تحدثت عن وقف النشاط المسلح كشرط لاستئناف مفاوضات السلام. ولكن هذا الكلام الاستهلاكي لم يقنع المعارضة الاسرائيلية التي ترى ان شارون سيواجه مشقة في اقناع حزبه بأن موت"ابو عمار"كان الشرط الوحيد لاستئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ولقد عبّرت صحيفة"يديعوت احرونوت"عن هذا القلق عندما كتبت افتتاحية تقول فيها:"ان عرفات كان عدواً ملائماً لشارون من السهل معاداته، في حين ان مخاصمة خليفته ستكون اصعب بكثير". والسبب ان احمد قريع او محمود عباس او روحي فتوح او اعضاء القيادة الجماعية، لا يملكون"الكاريزما"اللازمة ولا النفوذ المطلوب من اجل ارغام المجموعات المسلحة على وقف اطلاق النار. وحول هذا الموضوع كتبت صحيفة"هآرتس"تقول ان وفاة عرفات احرجت شارون لان"العدو الشرير"لم يعد موجوداً، كما لم يعد بين القادة الفلسطينيين من يقوم بهذا الدور بنفس المستوى والبراعة. ولهذا ترى الصحيفة ان رئيس الحكومة الاسرائيلية مضطر الى رفع سقف المطالب الى حد يصعب على الوريث تنفيذها من دون الاصطدام بزعماء الانتفاضة. والمؤكد ان عرفات رفض حسم هذا الاشكال بعد اغتيال شريكه في عملية السلام اسحق رابين، لأنه اكتشف خروج بيريز ونتانياهو وشارون عن التزامات اتفاق اوسلو. ويقول صديقه في المفاوضات النائب يوسي سريد انه انتظر من ابو عمار الاقدام على ضرب معارضي سلطته المركزية كما فعل بن غوريون، ولكن خوفه من غضب اللاجئين ومن التنازل عن حق العودة، منعاه من الإقدام على خطوة لا يستطيع تحقيقها أيّ من ورثته. وكي يتجاوز الرئيس حسني مبارك حدوث خلافات بين الفصائل الفلسطينية قرر اقامة مراسم التشييع في القاهرة لاكثر من سبب: اولاً لاحتضان قادة المرحلة المقبلة وإحياء وحدة الصف داخل المعسكر الفلسطيني المشرذم. ثانياً لحض حكومة شارون على استئناف الحوار مع فريق يبشّر باعتماد خط الاعتدال، واستكمال وساطة عمر سليمان. ثالثاً تمكين الزعماء العرب وسواهم من حضور مراسم التشييع في مكان بعيد عن رام الله وسلطة الاحتلال ويؤمن مبارك ان هذه الخطوات قد تمهد لإخراج القادة الفلسطينيين من العزلة الدولية التي ضُربت حول عرفات من قبل اسرائيل، والتي ضربها عرفات بدوره حول نفسه بسبب رهاناته الخاطئة عربياً. أو بسبب دعمه للعراق، الأمر الذي دفع دول الخليج الى مقاطعته مدة طويلة، وقطع المساعدات السخية عنه. وفي هذا السياق يحاول الرئيس جاك شيراك القيام بدور الوسيط الدولي، خصوصاً ان زيارته لعرفات في رام الله كادت تفقده الحكم بسبب اعتراض اسرائيل والولايات المتحدة على الانتقادات التي وجهها لسلطة الاحتلال. ولقد سعى الى توظيف صداقته للشعب الفلسطيني في القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسيل مطلع هذا الاسبوع، مشدداً على ضرورة ايجاد دولتين فوق أرض فلسطين تعيشان بانسجام، وتحترمان مصالحهما وأمنهما المشترك. وسارع خافيير سولانا، منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الى تأييد دعوة شيراك، متعهداً ببذل كل جهد ممكن لضمان تحقيق الدولة الفلسطينية. في مقابل هذا الطرح الأوروبي، تحرك توني بلير على الطرف الآخر ليقترح على شريكه جورج بوش عقد مؤتمر دولي في لندن بهدف تحريك مفاوضات السلام المجمدة بواسطة الوريث الفلسطيني الجديد. ويهدف بلير من وراء هذه المبادرة الى مصالحة واشنطن مع العواصم الأوروبية لعل مردود هذه المصالحة يعمل لمصلحة فوزه في انتخابات الولاية الثانية. كما يطمح من جهة أخرى الى تنفيس معركة الاحتقان الدموي في العراق عن طريق الايحاء بأن مشروع"خريطة الطريق"قد يتحقق في لندن لا في باريس. طلب بوش من حليفه بلير ان يتريث قليلاً ريثما ينتهي من اختيار اعضاء ادارته، لعل الأيام القليلة المقبلة تكشف أيضاً عن خطة شارون للتعامل مع القيادة الفلسطينية. وهو يتوقع ان يكون محمود عباس أكثر تحرراً من شبح عرفات، وأكثر قرباً من المنظمات المسلحة التي وعد بشطب نشاطاتها كما شطب كلمة"ارهاب"من خطابه في مؤتمر العقبة. كذلك يتوقع بوش أيضاً فرصة انتهاء خلاف شارون مع المستوطنين عقب تنفيذ خطة الانسحاب من غزة. وهو يتذكر انه أمر بسحب طاقم المراقبين الاميركيين من المنطقة بعد سقوط أبو مازن. ولكنه قرر تبني المبادرة البريطانية اذا سمحت له معارك العراق بتدخل ديبلوماسي يؤدي الى تنفيذ"خريطة الطريق". يقول المراقبون في اسرائيل ان خطة شارون قد تتغير بسبب غياب ياسر عرفات. ولقد لمح وزير الخارجية سيلفان شالوم الى احتمال طرح مشروع حل وسط يقوم على تأجيل عملية فك الارتباط الى حين ترسيخ قيادة فلسطينية مستقلة قادرة على المشاركة في صنع حل مرض للطرفين. ومثل هذا الحل صعب التحقيق إذا ما أصرّ شارون على تجديد شروطه التعجيزية كالمطالبة بنبذ الارهاب واسقاط حق العودة. ومعنى هذا ان التغيير الحقيقي لن يحصل الا إذا تغير شارون وجاء الى الحكم شخص آخر يؤمن بأن حلم تحقيق"اسرائيل الكبرى"لن يبصر النور ولو مات معارض تنفيذه أبو عمار. بقي السؤال المتعلق بانجازات عرفات، وما إذا كانت قيادته للشعب الفلسطيني طوال أربعين سنة قد عبرت به من صحراء التيه الى الدولة الفلسطينية، ام ان كل ما فعله في كفاحه هو حمل القضية من منفى الى منفى؟ يزعم أحد المؤرخين العرب ان عرفات سينزل في كتب التاريخ كأحد المصابين بمرض عقدة موسى Moses Syndrome، وهو مرض الاصرار على تنفيذ أمر ما من دون الوصول الى نهايته. أي ان موسى قاد الشعب اليهودي مدة أربعين سنة في صحراء التيه، ولكنه في نهاية المطاف عجز عن دخول أرض الميعاد. وبالمقارنة فإن ياسر عرفات قاد الشعب الفلسطيني طوال أربعين سنة الى دولة لم يعلن قيامها رسمياً بعد، ولكنه ترك لورثته مسؤولية تحقيق حلم الدولة! * كاتب وصحافي لبناني.