الكتاب: الرائدة المجهولة: زينب فواز 1860 - 1914 المؤلف: حلمي النمنم الناشر: دار النهر - القاهرة 1998 إنتقاد او رفض وضع اجتماعي وإنساني معين يعني - ضمنياً - الدعوة الى إصلاحه وربما السعي الى هدمه. وكثير من الكتاب والمصلحين يكتفون بالانتقاد فقط على أساس ان البديل هو نقيض ما ينتقدون، والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون. وفي المقابل هناك مفكرون وكتاب يقدمون النموذج الذي يريدونه ويدعون اليه. ومن الكُتاب من لا يقدم اي نقد لما هو قائم بل يدعو مباشرة الى البديل الذي يتصوره، ويأتي ذلك - غالباً - حين لا يكون النقد مسموحاً به أو مقبولاً كما هي الحال في الانظمة الاجتماعية المتشددة، او حين يكون سوء الحال بلغ حداً اصبح معه مكشوفاً لا يحتاج الى تنبيه احد. رفاعة الطهطاوي في "تخليص الابريز" قدم النموذج السياسي الذي يريده ويتمناه من دون انتقاد لما هو قائم، ففي عصره لم يكن النقد ممكنا، إذ أن كلمة واحدة كانت تكفي لأن يُسحب الى مجاهل قلعة القاهرة حيث لا عودة. أما زينب فواز فقد جاءت في ظرف لاحق ومغاير نسبيا لجهة انه كان مسموحاً إبداء الرأي الى حد ما، وكان الانتقاد مقبولاً وربما مطلوبا وليس ذلك عن ايمان ديموقراطي، ولكن الظرف السياسي يتطلب ذلك. كان الخديوي الشاب عباس حلمي الثاني يحكم البلاد وكان اللورد كرومر - المعتمد البريطاني - يحكم أيضاً، وكان الصراع على اشده بينهما فكل منهما يتصور انه الحاكم الفعلي والوحيد لمصر. وعلى هامش الصراع تمتع الكُتاب ببعض من حريتهم وامتلكوا قدراً من الجسارة والجرأة. وكانت زينب فواز ممن تمتعوا بهذه الحرية واستفادوا من ذلك الظرف، فبدأت بنقد وضع المرأة في المجتمع وكشف عوراته ومثالبه. ربما كانت هذه السطور اول ذكر لاسم السيدة زينب فواز 1860 - 1914 في تاريخ الحركة النسوية المصرية، واضطلع الصحافي والباحث المصري حلمي النمنم بإلقاء الضوء على سيرتها في هذا الكتاب الذي اعتبره البعض كشفاً ادبياً متميزاً. وربما لو ظهرت تلك الاوراق بين دفتي الكتاب قبل نصف قرن لانتزعت السيدة فواز من قاسم أمين لقب "محرر المرأة المصرية" لأنها سبقته فعلاً وربما سار هو على هدي من كتاباتها. خصص الباحث كتابه للاجابة عن سؤال: من هي زينب فواز الرائدة المجهولة؟ وفي الاجابة عن هذا التساؤل يرجح المؤلف انها ولدت سنة 1860 في قرية "تبنين" في الجنوب اللبناني - منطقة جبل عامل وكانت تتبع مدينة صيدا، وجاءت الى مصر في سن العاشرة مع اسرتها واستقرت في الاسكندرية. في تلك الفترة كانت الاسكندرية مدينة اكثر حيوية اذ كانت تستقبل الوافدين من مختلف الجنسيات وبينهم الشوام الذين كانوا يفضلون اما التجارة أو العمل في المجالين الثقافي والسياسي. واسرة فواز كانت واحدة من تلك الاسر التي جاءت الى الاسكندرية هرباً من قسوة الحياة وضغوطها في الشام آنذاك. وبدأت زينب ذات العشرة أعوام تتعلم القراءة والكتابة على يدي الشيخ محمد الشبلي في جامع ابراهيم. واستجابت بسرعة للتعليم الاولي، اذ بعد ذلك تعلمت الصرف والبيان والعروض والتاريخ على يدي حسن حسني الطويراني صاحب جريدة "النيل"، ثم درست ايضا الانشاء والنحو على يدي الشيخ محيي الدين النبهاني. أما عن صفاتها الشخصية فكانت "جميلة المنظر عذبة المنطق، لطيفة المحضر بعيدة عن الادعاء والكبرياء تتجنب الكلفة والمجاملة في احاديثها وهي من خيرة ربات البيوت علماً وتربية واتقاناً". انتقلت زينب لفترة وجيزة الى دمشق حيث تزوجت من رئيس تحرير جريدة "الشام" اديب نظمي ثم ما لبثا أن انفصلا وانتقلت من دمشق إلى القاهرة. عاصرت زينب فواز عائشة التيمورية، ولكن شتان ما بين الاثنتين. بدأت التيمورية الكتابة باللغة التركية اولا ثم كتبت بالعربية وغرقت في احزانها الخاصة بعد فقدان وحيدتها توحيدة وكادت تنعزل تماماً عن الحياة. اما زينب فقد انشغلت بالقضايا العامة والمناظرات دفاعاً عن حقوق المرأة، وشاركت بفعالية في السجال حول العديد من القضايا السياسية والفكرية. وعلى سبيل المثال شاركت الامام محمد عبده في الرد على مزاعم هانوتو وزير خارجية فرنسا التي وردت في مقال له حول الاسلام والمسلمين سنة 1900، وحين تعرضت الجزائر الى مجاعة وازمة اقتصادية حينئذ كتبت كثيراً تطالب المصريين "بالتبرع لإخوانهم". وكانت أيضاً من أنصار الزعيم مصطفى كامل، وتجلى ذلك في حرصها على حضور لقاءاته العامة التي استهل احدها بقوله اكراماً لها "سيداتي... سادتي" وهو الاستهلال الذي اصبح شائعاً منذ ذلك الحين في أي خطاب عربي. ولما تُوفي مصطفى كامل عقد انصاره حفلة تأبين في ذكرى الاربعين وكان ذلك في 20 آذار مارس 1908 واختيرت زينب فواز لتلقي كلمة في هذه المناسبة، "شرفت بها المرأة العربية" على حد تعبير السيدة درية شفيق التي كانت من ابرز الناشطات في مجال حقوق المرأة في تلك الفترة. ونشرت زينب فواز مقالات في معظم الصحف التي كانت قائمة في ذلك الوقت وأبرزها "النيل"، إذ كان صاحبها هو نفسه استاذها حسن حسني باشا. ونشرت أيضاً في "الاستاذ" التي كان يصدرها عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية، وكذلك في "المؤيد" و"أنيس الجليس" و"فرصة الاوقات"، "ولسان الحال". ومن خلال تلك المقالات - يقول الباحث - بدت زينب فواز سيدة مجتمع من الطراز الاول، فهي تارة تكتب عن حفلات زفاف حضرتها داخل القصور وما كان يدور خلال تلك الحفلات، كما تتناول واقع سيدات بسيطات ومعاناتهن وممارساتهن مثل قضية "الزار". وكانت مقالاتها في الصحف تُقدم بتبجيل وتقدير شديدين، فهي "حضرة الكاتبة الاديبة الكاملة نادرة زمانها وفريدة عصرها واوانها"، وهي أيضاً "نادرة العصر واميرة النظم والنثر"، و"حضرة الكاتبة النابغة بين طبقتها من النساء، وحجة النساء في سائر مدعياتهن بأسرها على الرجال". تلك اهم ألقاب التقدير والتبجيل، ولكن هناك لقباً وحيداً قيل انتقاداً لها في احدى معاركها التي كانت تطالب للمرأة بالحق السياسي فجاءها الرد تهكماً وربما سخرية: "زينب افندي فواز". ولم تغضب من ذلك الانتقاد، بل رددته عن نفسها ربما كنوع من المساواة مع الرجال في مجال الحقوق والعمل العام. أصدرت زينب فواز مؤلفات عدة في حياتها وتركت بعض المخطوطات، وربما يكون "الدُر المنثور في طبقات ربات الخدور" اهم تلك المؤلفات واكثر ما جلب اليها الشهرة في حياتها. وقد صدر عن مطبعة بولاق في القاهرة سنة 1893 ولم يطبع في مصر بعد ذلك. وأصدرت رواية عنوانها "حُسن العواقب"، وهي رواية عاطفية تؤكد ان الحب ينتصر في النهاية ويتغلب على كل المكائد البشرية والضغوط الاجتماعية وهي رؤية مبشرة ومتفائلة. وصدرت طبعتها الاولى في آب اغسطس 1892 ولكن يبدو من المقدمة انها كتبت قبل ذلك إذ أن هناك قصيدة شعرية في مدح الرواية مؤرخة العام 1885 ، وهذا يعني انها سبقت "زينب" للدكتور محمد حسين هيكل بأكثر من ربع قرن. وفي سنة 1893 اصدرت "الهوى والوفاء" وهي رواية لا توجد منها أي نسخ في دار الكتب المصرية. ثم نشرت روايتها الثالثة "الملك قورش"، وجمعت بعضاً من مقالاتها في كتاب "الرسائل الزينبية" كما جمعت تواريخ رجال عصرها في كتابها "مدارك الكمال في تراجم الرجال"، وتركت مخطوطة هي "الجوهر البغيض في مآثر الملك الحميد". وكانت حول السلطان عبدالحميد الخليفة العثماني الذي دار الخلاف حوله بين خصوم له يطالبون بالاستقلال عن الخلافة وأنصاره الذين كانوا يريدونه رمزاً لدولة المسلمين وقوة الاسلام. وعلى صعيد المعارك الفكرية لزينب فواز يقول الباحث حلمي النمنم انه كان لديها مستويان للتفكير والرؤية، الاول: وهو ما يمكن تسميته مجازاً بالاطار المنهجي الذي يعكس "الجانب النظري" عندها. أما المستوى الثاني فيتناول البعد التطبيقي والدخول الى العياني والمباشر. في المستوى الاول تقدم لنا قضية الانسان عموما في هذا العالم وعبر التاريخ وهي تحقيق الحرية والحصول على المساواة. تقول في مقالة لها عن تقدم المرأة "الحرية والمساواة هما منار العمران وعلم الزواج وحجة التمدن، بهما يحيا الحق ويزهق الباطل". ولا تتوقف زينب عند تأمل التواريخ والحضارات القديمة وانما تنفذ الى البعد الثاني وتنتقل فوراً إلى الحاضر لتؤكد رأيها: "السواد الاعظم من رجالنا الشرقيين يعلم أن الامم الغربية ما عقدت خناصرها واتفقت اراؤها وخواطرها على وجوب احترام المرأة وانزالها المنزلة التي تجب لها، الا بعد ان تيقنوا انها العضو المهم في جسم العالم الانساني". والملاحظ ان خطابها كان للرجل الشرقي وكان هو المعني بالحديث لأن المرأة العربية لم تكن تقرأ في ذلك الحين. وتنتقد المجتمع الشرقي وتقدم وصفاً لحال المرأة الشرقية والمصرية: "مضى زمان والمرأة منا نحن الشرقيات مغلق امامها باب السعادة، لا تعرف نفسها الا آلة بيد الرجل يسيّرها كيف يشاء ويشدد عليها النكير بإغلاظ الحجاب وسد ابواب التعليم وعدم الخروج من المنزل وبحرمانها من حضور المحافل النسائية العامة الى حد انه كان يخيل لها ان تلك الافعال من الموبقات لو اتبعتها لأخلت بنظام شرفها". عند زينب فواز لا فرق في الاصل بين الرجل والمرأة، وانه اذا كانت هناك فروق في الشكل فإن الروح ذاتها لا تعرف أي نوع من الفروق بين الجنسين.