يقال ويكتب الآن في الولاياتالمتحدة، وسيقال ويكتب أكثر في المستقبل، أن حجر الأساس لبداية نهاية "الأمبراطورية الأميركية" انما وضع في يوم انتخاباتها الأخيرة في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 2004، وعبارات مثل "بلقنة" المجتمع الأميركي "لوس انجليس تايمز" - 4 تشرين الثاني ، و"أمتان في رعاية الله" توماس فريدمان في "النيويورك تايمز" - في اليوم ذاته، و"انها انتخابات هيرماغدون" ديفيد مارانيس في "واشنطن بوست" - في اليوم ذاته ايضاً لا تدل الى بداية نهاية الأمبراطورية على المستوى الدولي فقط وانما أولاً، بل وأساساً، على المستوى الأميركي الداخلي كذلك. ان مجتمعاً منقسماً الى هذه الدرجة، حتى ليرى البعض أنه يتجه نحو البلقنة أو يبدو كأمتين منفصلتين أو يخوض معركة إلهية مفترضة، لن يكون مهيأ، على رغم القوة غير المسبوقة لدولته في المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، لا على المدى القريب ولا على المدى المتوسط والعالم في القرن الحادي والعشرين لاقامة امبراطورية أميركية أو كونية. والمسألة هنا لا تقف عند حدود اعادة انتخاب جورج دبليو بوش، لولاية ثانية من أربع سنوات، ولا عند اعادة تفويض "المحافظين الجدد" بمواصلة نهج "الضربات الاستباقية" والحروب المفتوحة على العالم كله وليس على "الارهاب" والدول والتنظيمات المتهمة به فقط، ولا عند تقسيم دول العالم الى محورين احدهما للشر المطلق والثاني للخير المطلق كما يراهما التطرف اليميني - الديني في الولاياتالمتحدة واسرائيل، بل تتعدى ذلك كله الى طبيعة النظام الأميركي... هذا النظام الذي - على ديموقراطيته السياسية - يستطيع، بالمال والاعلام واللوبيات وحملات التحريض وغسل الأدمغة، أن يصنع رأياً عاماً انتخابياً يتناقض مع التوجه العام لقوى الرأي العام في العالم كله. ولا أدل على ذلك سوى أنه، في آخر استطلاعات الرأي الأميركية، تبين أن بلدين اثنين فقط في العالم، هما اسرائيل وروسيا، تفردا بأن كانا وحدهما دون بلدان العالم الأخرى الى جانب اعادة انتخاب بوش لولاية ثانية. قد يقال ان الحادي عشر من أيلول سبتمبر العام 2001 كان عاملاً جوهرياً في ما يمكن وصفه ب"الانقلاب" الأميركي... الانقلاب الذي جعل الرأي العام هناك مفعولاً به هذه المرة بعد أن كان فاعلاً على مر التاريخ - حرب فييتنام دليل حي على ذلك -، لكن "توابيت ابنائنا" التي تأتي يومياً من العراق ومن أفغانستان و"الغرق في الوحول" هنا وهناك التعبيران أميركيان يجب أن تدحض هذه المقولة بصورة كاملة. أكثر من ذلك، فإذا كانت واشنطن ونيويورك شهدتا العام 2001 ما وصف بأنه زلزال، يصبح صحيحاً اذاً القول ان ما شهدته الولاياتالمتحدة في هذه الأيام من العام 2004 هو زلزال ربما يكون أكثر قوة من سابقه. مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليسا رايس لخصت أخيراً سياسة بلادها لما بعد 11 أيلول 2001 بأنها العمل على تغيير "الميزان الجيو - استراتيجي في العالم". وقالت في هذا الاطار "ان من بين الأهداف الرئيسة لكل حرب أخذ أرض العدو، والحرب الراهنة لا تختلف عن ذلك". هل يعني هذا الكلام سوى أن استراتيجية ادارة بوش في الأعوام الأربعة الماضية قامت على احتلال أرض الغير، تارة بذريعة الدفاع عن الولاياتالمتحدة، وطوراً بحجة الحرب على "الارهاب"، وحيناً بدعوى العمل على نشر الديموقراطية والقيم الأميركية في العالم، وسوى أن الأعوام الأربعة المقبلة ستكون المزيد من الشيء ذاته؟ وهل هذه هي الأفكار، أو القيم والمبادئ الأميركية، التي حكمت عقول المقترعين وهم يدلون بأصواتهم لمصلحة اعادة انتخاب بوش واعطائه، وحزبه، اكثرية راجحة في الكونغرس بمجلسيه؟ لم يجادل اثنان في الولاياتالمتحدة، وفي الخارج، في أن السياسة الخارجية الأميركية كانت في الثاني من تشرين الثاني الجاري، وللمرة الأولى في التاريخ الأميركي الحديث، عنوان الحملة الانتخابية لكل من بوش ومنافسه عن الحزب الديموقراطي جون كيري. على خلفية ذلك يصح القول ان التصويت الشعبي، وبالتالي الانقسام الحاد في النظرة الى أميركا والى العالم من خلالها، كان تصويتاً على هذه السياسة. ومن "انتخابات هيرماغيدون" الى "أمتين برعاية الله" يتأكد انه تصويت يميني، بل ولاهوتي ديني، متطرف. وحتى عندما يقال انه، في أوهايو التي حسمت المعركة لمصلحة بوش، لعبت مسائل الاجهاض وزواج المثليين والأبحاث الخاصة بخلايا المناعة دوراً كبيراً في حسم خيارات الناخبين، فهذا الأمر لا يخرج عن التوجهات اليمينية والدينية المتطرفة في ما يتعلق بالداخل الأميركي تماماً كما هي بالنسبة الى الخارج. هما وجهان لعملة واحدة، وهذه العملة هي مجموعة نظريات الانجيليين الصهاينة و"المحافظين الجدد" حول مستقبل الولاياتالمتحدة من ناحية ومستقبل العالم من ناحية أخرى. في الأيام القليلة الماضية، سال حبر أميركي كثير حول "بوش الثاني" وحول امكان ان يستفيق في ولايته الجديدة على حقيقة أن اعادة انتخابه، على رغم كل شيء، تضعه وجهاً لوجه أمام التاريخ وليس فقط أمام منافسه على الرئاسة كما كان على امتداد ما يقرب من عام. قيل مثلاً انه لم يكن يُتصور ان يعترف بوش بخطأ سياساته، لا في العراقوأفغانستان ولا خصوصاً في فلسطين، في عام الانتخابات الرئاسية. وقيل انه، وفي القريب العاجل، قد يعمد الى استبعاد بعض أعوانه ليحل مكانهم من هم أقل تطرفاً منهم، وأن في الحزب الجمهوري تياراً "واقعياً" وقف الى جانبه بقدر ما فيه من "محافظين جدد". وقيل ان بين المرشحين للاستبعاد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوويتز، اضافة الى وزير الخارجية كولن باول، للتخلص أولاً من الازدواجية الى حد التناقض بين الوزارتين ثم ثانياً لاعطاء دور أكبر للديبلوماسية سواء مع الحلفاء التقليديين في أوروبا أو مع الخصوم القدامى والجدد في العالم. لكن ما تفوه به بوش، في خطاب اعلان فوزه، نضح بنقيض ذلك تماماً. لقد اعتبر نتيجة الانتخابات استفتاء على سياسته في العراق وقال "ان الناخبين انما حددوا وجهة أمتنا في الاعوام الاربعة المقبلة"، مضيفاً "لقد صنعت رصيداً سياسياً والآن فإنني أنوي انفاقه، وسأعمل على انفاقه في ما أبلغت الشعب بأنني سأنفقه من أجله". نائبه ديك تشيني، الموصوف بأنه أقوى منه، كان أكثر تحديداً من رئيسه، اذ رأى في نتيجة الانتخابات تجديداً للتفويض الذي أعطي لهما في العام 2000، قائلاً "ان الرئيس بوش خاض الانتخابات على أساس أجندة واضحة بالنسبة الى مستقبل الأمة، وان الأمة أجابته بإعطائه التفويض المطلوب". هذا من جهة، ومن جهة أخرى فساكن البيت الابيض، كما يقال عادة، غالباً ما يكون في ولايته الثانية اكثر حرية منه في ولايته الأولى لأنه يكون أقل اهتماماً باستطلاعات الرأي واتجاهات الناخبين. لماذا؟ لأنه في ولايته الثانية هذه لا يعود معنياً بإعادة انتخابه لولاية ثالثة مستحيلة بحسب الدستور. وفي ما يتعلق ببوش، وبالتفويض الجديد الذي يرى أنه حظي به على خلفية سياساته العدوانية في العالم وحروبه الاستباقية وتطلعاته لسيادة ما يعتقد انه "محور الخير المطلق" على "محور الشر المطلق"، تبدو الأعوام الأربعة المقبلة امتداداً للأعوام الماضية... امتداداً أكثر عدوانية لا أقل. اذاً، سيكون شبه حتمي أن يلحق ب"الشرق الأوسط الكبير"، هذا الذي حدده بوش بأنه يغطي المساحة الجغرافية في ما بين اندونيسيا في الشرق والمغرب في الشمال الافريقي، نصيب كبير من هذه السياسة. ... ومرة أخرى، هل يمكن، في القرن الحادي والعشرين، أن تقوم، أو أن تعيش، "امبراطورية" تعتمد على العدوان الخارجي غير المنضبط، وعلى الانقسام الداخلي غير المضبوط؟ * كاتب لبناني