يشير بعض الصحافيين المبتدئين أحيانا الى أن لا حاجة حقيقية في زمننا، زمن البريد الاليكتروني وتكنولوجيا الاتصالات، الى سفراء مجربين. انهم مخطئون تماما، واقترح عليهم في هذا الخصوص دراسة سيرة السير جون موبرلي، الذي توفي في 14 أيلول سبتمبر الماضي بعد مرض تحمّله بصبر وشجاعة طيلة سنين. السير جون، في تقديري، كان واحدا من تلك المجموعة الصغيرة المتناقصة من الشخصيات المرموقة في المملكة المتحدة، التي ساهمت في هذه المرحلة المضطربة في تقوية الصداقة مع العالم العربي. وأضعه في مصاف شخصيات مثل اللورد كارادون واللورد مايهيو والسير انتوني ناتنغ والسير أنتوني بارسونز، وقد غيّبهم الموت كلهم للأسف. ولد السير جون في 1925 ودرس في كلية ونتشستر ثم في كلية مودلن في جامعة أكسفورد. وانتسب الى البحرية الملكية البريطانية في 1943، حيث حصل اداؤه المتميز على تنويه خاص من القيادة، وشارك في القتال العنيف على شواطىء نورماندي اثناء الانزال الأميركي - البريطاني. في 1950 انضم السير جون الى وزارة الخارجية واستقر بسرعة في قسم الشرق الأوسط، وهي تلك السنين التي شهدت زوال السيطرة البريطانية هناك. وشغل في الكويت بين 1954 و1956 منصب الضابط السياسي، ثم المندوب السياسي في الدوحة بين 1959 و1962. بعد ذلك قضى فترة في واشنطن، ثم اختير مديرا لمركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في شملان، ذلك المعهد الشهير في الجبال المطلة على بيروت. وكانت هذه من السنين الأسعد في حياته، وأخذ عنه تلامذته - وهم من الديبلوماسيين الشبان ورجال الاعمال، وأيضا دون شك هذا الضابط أو ذاك من الاستخبارات - ولعه ومعرفته الوثيقة بالعالم العربي. كل هذا أدى الى ترقيته الى منصب سفير بريطانيا في الأردن بين 1975 و1979، حيث اقام علاقة قوية مع الملك حسين. وكان المنصب فرصة للاطلاع التفصيلي على الخلاف العربي الاسرائيلي، وساعده ذلك كثيرا عندما عاد الى لندن وكيلا عاما مساعدا لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية. منصبه الرسمي الأخير كان السفير البريطاني في بغداد خلال 1982 - 1985، أثناء الحرب البشعة والعبثية بين العراقوايران. وكانت علاقات صدام حسين مع بريطانيا بالغة الصعوبة في ذلك الحين لأن لندن كانت قد عرفت وقتها بسجله الرهيب في مجال حقوق الانسان. مع ذلك رأت بريطانيا في العراق قوة توازن تطلعات ايران وحماستها الثورية. كانت تلك مرحلة احتاجت فيها بريطانياالى سفير مثله على أعلى مستوى من المهارة والصبر والمثابرة. في 1985 تقاعد السير جون عن العمل الديبلوماسي، لكنه واصل اهتمامه بشؤون الشرق الأوسط، وأصبح واحدا من أهم الأصوات المدافعة عن العرب في لندن، ومعلقا مرموقا في الكثير من برامج الاذاعة والتلفزيون عن الشرق الأوسط - خصوصا مع تصاعد الأزمة العراقية. كذلك شغل منصبا في المعهد الملكي للشوؤن الدولية وتكلم في العديد من المؤتمرات. وعرف دوماً بغزارة المعلومات، وبالجدة والتأني والايجابية في الطروحات. والى جانب هذا النشاط، ساهم السير جون في الكثير من المنظمات البريطانية المساندة للعرب، وقد عملتُ معه للمرة الأولى عندما كان رئيس المركز البريطاني - العربي في كنزينغتون بلندن، تلك المهمة التي أداها بما عرف عنه من كفاءة ولطف. ولا أزال أحتفظ بنسخة عن رسالة وجهها باسم مجلسنا الى رئيس الوزراء البريطاني، موضحا فيها بلباقة وحزم الدور الذي يمكن لبريطانيا القيام به، بل عليها القيام به، ازاء معاناة الفلسطينيين وفشل العقوبات على العراق. كان ذلك نصّا رائعا بكل المقاييس. شغل السير جون أيضا منصب رئيس منظمة المعونة الطبية الى الفلسطينيين، ومستشارا لقصر لامبيث، المقر الرسمي لكبير أساقفة كانتربري، في الشؤون الاسلامية والشرق أوسطية. وإضافة الى كل هذا واظب على حضور الاجتماعات في لندن حول القضايا العربية. ولئن كانت هذه، في الغالب، اجتماعات مهمة جيدة التنظيم فهو لم يهمل الاجتماعات الأصغر التي كانت مملة أحيانا. فقد كان متأكدا من أن لديه ما يقدمه وبدا مصمما على تقديمه. السير جون، مثل الكثيرين من الديبلوماسيين الناجحين، يدين بالكثير الى زوجته بيشنس، وهي طبيبة مختصة. وكان في الماضي من هواة تسلق الجبال والتزلق على الجليد، قبل ان توقفه مشاكله الصحية. وقد لقي عناية رائعة من زوجته أثناء مرضه الطويل القاسي. واستمر السير جون في زياراته الشرق الأوسط بعد تقاعده والاستزادة أكثر ما يمكن من المعلومات عن أوضاع المنطقة. كذلك حرص في شكل خاص على تقوية علاقات الصداقة التقليدية والمهمة بين بريطانيا والدول العربية. لكنه في دعمه لقضية ما لم يتخل عن موقف النقد عندما تدعو الحاجة. وقد كره دوما موقف الولاياتالمتحدة تجاه الشرق الأوسط، واستبشع الأحداث في العراق في السنوات الأخيرة. وكان مؤيدا للحزب الليبرالي، وحتى النهاية بقي صديقاً بالغ اللطف ووطنيا متميزا وأيضاً أممياً متحمسا للتعاون والتفاهم الدوليين. * سياسي بريطاني من حزب المحافظين.