من يشرح "المعادلة العجيبة" التي تجمع بين الحبيبين في قصيدة لسوزان عليوان؟... من يفسّر تلك العلاقة الملتبسة بين الحلم والواقع، بين ضميرين: الغائب المذكّر هو والغائب المؤنث هي؟ "بائع الورد" طبعاً. إنّه يفعل ذلك في منتهى الطبيعيّة، كأنّها "رسالته" الأزليّة... هناك أيضاً رسائل وسلالم أخرى، في مجموعة "لنتخيّل المشهد" آخر اصدارات سوزان عليوان. لكن السلالم، "سلالم عتمة"، لا تفضي الى مكان مطمئن، والرسائل تحكي عن مكان مجرّد، بعيد، اسمه "بلد الدموع". حينما يقرأ المرء شعر سوزان عليوان - الشاعرة اللبنانية التي تغرّد خارج سرب جيلها - يظنّ نفسه في البداية داخل لوحة لماغريت، حيث قبعة الجوخ الداكنة مضاءة "فجأة/ بقمر فضيّ من جيبه"، فإذا به في قصّة لكافكا تحاصرها كوابيس لا تقال، حتّى أن البحر نفسه "ينتحر/ غرقاً / في دموعه". يخيّل الى القارئ. لبرهة أنّه في قصّة لسانت أكزوبيري تنتصر فيها البراءة الطفوليّة على العالم، لكنّه سرعان ما يفيق على نشاذ تصاعدي مقلق، كأنّه في رباعي لبارتوك، حينما يواكب سقوط كوب الحليب على بلاط المطبخ البارد... أو يتخيّل قبلاتها الحلوة "مكسورة/ مرمية/ في الكيس الأسود/ وسط القاذورات/ وبقايا الطعام". وقد يخال نفسه في أغنية لفيروز أحياناً، فيها قمر ووردة حمراء وبحر أزرق، فإذا به في فيلم لبونويل... المطر ينهمر فيه الى أعلى، والعينان المفقوءتان تتوسلان نظرة حنان. وذاك "المتوسّل... بنظرة مثقوبة"، "وحدهما الولد والبنت المتعانقان" يتوهّمان "أن تجاويف جمجمته ... أعشاش عصافير". تكتب عليوان بعذوبة ممتنعة، تتوسّل دائماً تلك البساطة المشبوهة، كأنّها السذاجة. تلجأ الى تكثيف المعنى، كما في شعر الهايكو، راصدة مثلاً تلك العلاقة المتشابكة بين الورق ورفوف المكتبة والشجر: "مكتبة عجوز/ تضمّ الكتب/ أطفالاً من ورق/ برفوف كانت/ في حياة سابقة/ أغصانَها". تنساب اللقطات في ديوانها الأخير - كما في أعمالها السابقة - بشفافيّة سرديّة: بضع كلمات، وصور، نثار حكايات وانعكاسات وأطياف ومشاعر سرية، تومئ لنا بين صمت وبياض... وكثيراً ما يذوب المشهد في الأسود - كما في الأفلام - ليتركنا وحدنا مع ذواتنا المندهشة، المتعبة، القريبة من النشوة من دون أن تبلغها. كأن خفراً اعترى سوزان لحظة الشعر، فإذا بها تتنحّى، وتمّحي خلف تفاصيل العالم، تتنازل عن حضورها لأشيائه الصغيرة. ولعلّها تفعل ذلك مخافة "ابتذال الأشواق" من عنوان احدى القصائد، مخافة ابتذال المشاعر... وابتذال اللغة عبر ارتياد أفقها المنظور، وحقولها السيميائيّة المستهلكة. لذلك هي تضللنا باستمرار، إذ تنصب لنا فخاخ العاديّة والعفويّة والسذاجة. ولا مفرّ من أن نقع هنا أو هناك في مطب لغة بسيطة تخاطب العالم المعقّد. نفكّر: هل يحتاج المرء الى قصيدة كي يكتب في أسفل صفحة بيضاء: "كم أنت قاس/ أيها العالم!"؟... وهنا بيت القصيد، إذا جاز التعبير. من سوء التفاهم هذا ندخل الى عالم سوزان الشعري. أو نبقى عند أعتابه. تحوير المعاني قارئ "لنتخيّل المشهد" يتعلّم - على حسابه - أنّه لا ينبغي له أن يستكين لتك الكلمات القليلة، على صفحات بيض لديوان صغير... يخيّل إليه أنّه سيقرأه بسرعة، لكنّه يكتشف أنّه يخوض رحلة شاقة. يمشي ويتعب، ويبقى مكانه، كما في حلم غريب يستنفر كلّ الحواس. لا يبقى أمامه سوى أن يلعب اللعبة: تستوطن مخيّلته نجومٌ سحرية ومعادلات مرهقة، واللوعة المنفّرة اذ تستحيل شعراً. "كل أرض/ خراب/ كلّ وطن/ خرافة/ وليست الجسور أقواس قزح/ كي يعبرا/ لاجئين بلا أوراق أو حقائب/ من العتمة/ الى الحلم". لا تخاف عليوان من الوقوف على شفا المعنى البديهي، والاحساس الأوّلي. بل تتخذ من تلك النزعة أسلوباً، وخياراً جمالياً ووجودياً. لا تبحث عن الغرابة القسرية، ولا تحاول التلاعب بالكلمات، أو تتوسل تحوير المعاني. فقط تكتب. شعرها يشبه حالات ورؤى أليفة، يخيل إلى كلّ منّا أنّه يعرفها. أنّه عاشها وربما كتبها في حلم ما، في حياة أخرى... تبرع في لعبة التخفي خلف مفردات محايدة، لرصد حالات الحبّ: عناق وفراق، حبّ معرّض للوقت، التفاصيل والأشياء الزائلة التي يتكوّن منها مبعثرة في وجدان طفولي لا يلتقط من المشهد سوى رومانسيته المنهارة حكماً، الباطلة بالضرورة. تعرف الشاعرة ذلك، تحسّه عند مفترق كلّ قصيدة، لكنّها لا تبوح به. بل تخترع فوق الواقع عالماً أنموذجاً، عادياً حتّى الرتابة. إنّها الطريق الى غرابة أخرى، مستترة، تتسرّب منها الخيبة مراراً، من دون أن تقال. تفعل سوزان كلّ ما في وسعها لطمسها، للارتقاء بها، لتحويرها. لكنّ الكلمات والصور تفضحها، ويفضحها الترحال الى بلد الدموع. تفضحها شخصياتها: المهرج الحزين البلياتشو ذو الدموع الملوّنة، والخادمة "السريلانكيّة" السيلانية المتدليّة، كدمعة سمراء، من حافة الشرفة... هل أدوات القصيدة عند عليوان بدائية حقاً، أم في منتهى التعقيد؟ هذه القصيدة التي يبدو عنوانها، وشروحاته واستطراداته السابقة على النصّ الشعري، اقتراحاً لوجهة القراءة: "كلما ابتسم الهلال/ في ظل نجمتين/ عادت السماء/ وجهاً/ وكلما اختلسا تحت المطر قبلة/ استعاد الحب/ كما لو بمعجزة/ ألوانه السبعة". تقف الشاعرة دائماً خارج المشهد، تتفرّج مثلنا على ذلك العناق المطعّم بالفراق، تتخفّى خلف قناع شخصيتيها: "هو" و"هي"، لتقول غربة الحبيبين عن العالم وفيه... وغربتهما الواحد عن الآخر أيضاً. صيغة المثنّى تطغى على الأفعال والمَشاهد، نضيع في لعبة الضمائر - لعبة أشبه برقصة فالس، نلهث بحثاً عن الاسم الذي يعود إليه الضمير، والمخبأ في آخر القصيدة، أو خارجها! وتلتقط الشاعرة أنفاسنا على امتداد المجموعة، في حركة تصاعديّة... إلى أن تكشف عن نفسها في نهاية المطاف. في القصيدة الأخيرة، "من يكمل الحلم؟ - عن نفسي أتوقّف هنا"، تطلع من "خلف أشباح الستائر"، تستعمل أخيراً ضمير المتكلّم. تتفرّج بصفتها المعلنة على العاشقين الذاهبين الى نهاية مفتوحة: "ولد جميل/ كان من الممكن أن ألتقيه في الحياة/ لولا كلّ هذه الجدران خلف السنين،/ بنت تشبهني/ حينما كنت أشبه نفسي". إن سوزان عليوان تكتب قصائد حبّ لم يعد يجرؤ أحد على كتابتها، أو حتّى قراءتها، في جيلها. تكتب الانتظار والغيرة والفرح والخوف و"عناق الأصابع" ورغبات الطفولة، انطلاقاً من الأمكنة والحالات المتوقّعة. ومع ذلك تفاجئنا باستمرار، بلغة لا تدّعي أكثر من ملمسها ومذاقها الأولين. ذلك الشعر لا يمكن أن نستدل الى مكانه إلا في خرائط الطفولة. قصص الأطفال والرسوم المتحركة والشرائط المصوّرة ليست بعيدة عن عالمها أيضاً. أما صورة الولد والبنت المتعانقين التي تتردد في المجموعة، فكأنّها توقيع الشاعرة، "هل افترقا فعلاً؟/ أغمض/ فاقدة النوم/ عاجزة عن اعادتهما إلى بعض/ إليّ./ قلبي مثقوب/ وردتي مجروحة. أتوقّف هنا./ من يكمل الحلم؟".