تركيا كبيرة وفقيرة ومسلمة. هذه هي الصورة المتداولة في اوساط الرأي العام، والتي تجعل مستقبل عضوية تركيا مصدر خوف المحافظين المسيحيين في أوروبا والفئات الشعبية الضعيفة من عواقب ضمها، وتثير تساؤلات لدى الكثيرين حول قدرة الاتحاد على استيعابها. واستبق المحافظون، مناهضو عضوية تركيا، اعلان رأي المفوضية غداً حول جاهزية أنقرة للمفاوضات، بتنظيم حملة مؤتمرات وندوات تحذر من عواقب انضمام تركيا "لأنها قد تكون تخفي اجندة اسلامية. ولأنها ستكون عبئاً كبيراً على الخزانة المشتركة وستدفع ملايين المهاجرين نحو السوق الأوروبية". وتضغط الأوساط نفسها على حكوماتها من أجل تنظيم استفتاءات، في الوقت المناسب، حول عضوية تركيا. ويبدو ان الرئيس جاك شيراك رضخ لضغوط اليمين المحافظ فأعلن، في مؤتمر صحافي مع المستشار الالماني غيرهارد شرودر الجمعة الماضي في ستراسبورغ، أنه سيطلب من الحكومة النظر في شروط ادراج بند في الدستور يقتضي استفتاء الفرنسيين حول انخراط تركيا في عضوية الاتحاد. لكن موقف الرئيس الفرنسي قد يكون ظرفياً ويهدف الى تأمين المصادقة على الدستور الأوروبي وذلك عبر تفادي الغموض في صفوف الرأي العام والخلط بين الدستور المعروض في الفترة الجارية على مصادقة الفرنسيين ومستقبل انضمام تركيا في أمد غير قريب. ويتفق شيراك وشرودر على اعتبار ان مستقبل تركيا داخل الاتحاد "يعزز الديموقراطية والسلام". وكلاهما يتوقع ان تدوم مفاوضات العضوية عقداً كاملاً على الأقل. وستعرض المفوضية رأيها في شأن جاهزية تركيا لبدء مفاوضات العضوية على القمة الأوروبية التي ستنعقد في 17 كانون الأول ديسمبر المقبل. وتمتلك القمة صلاحية اصدار القرار النهائي. الا ان رأي المفوضية لن يكون ايجابياً بالكامل او سلبياً تماماً. فهي تثني على الاصلاحات التي أنجزتها تركيا في غضون الأعوام الثلاثة وتستنتج سيرها خطوات في اتجاه اوروبا. لكن التقرير يضم أيضاً نواقص كبيرة في تنفيذ الاصلاحات السياسية وترجمتها في ارض الواقع بخاصة في مجالات حقوق الانسان والأقليات، وفي شكل خاص حقوق الأكراد وحقوق المرأة. ويعترف الأتراك بأن تنفيذ الاصلاحات الى درجة تتساوى مع معايير القضاء في اوروبا يتطلب وقتاً طويلاً. لكنهم لا يترددون في الاشارة الى نواقص الاصلاحات القانونية والادارية في بلدان وسط اوروبا وشرقها. ومع ذلك فهي قبلت داخل الاتحاد لأن العضوية الكاملة تشجع تقدم الاصلاح. ويعتقد أنصار تركيا داخل الاتحاد بأن تحديد موعد بدء مفاوضات عضوية تركيا سيكون أكبر حافز لتقدم الاصلاحات السياسية وعنصر اغراء للمستثمرين. وكغيرهم فأنصار انضمام تركيا لا يتوقعون نهاية المفاوضات قبل سنة 2015 ويرون أفق العضوية الكاملة في حدود سنة 2025. التحديات المقبلة ويسود اجماع في اوساط كبار المسؤولين والخبراء في بروكسيل بأن مفاوضات العضوية، اذا انطلقت في الربيع المقبل، ستكون صعبة وطويلة ولن تنتهي قبل 2015. وفي الأثناء فان الاتحاد الأوروبي سيكون استوعب كلاً من رومانيا وبلغاريا وكرواتيا وربما بعض الأعضاء الاضافيين من دول البلقان. وستشهد الأعوام المقبلة تنفيذ الدستور وينتظر ان يؤدي التوسيع المقبل الى مراجعة التوازنات المؤسساتية وفي شكل خاص عدد أعضاء المفوضية ومراجعة سياسات الموازنة المشتركة وحجم صناديق الدعم الانمائي ومساهمات كل من الدول الأعضاء في موارد الخزانة المشتركة، وذلك وفق الخطة المتفق عليها للفترة 2007 - 2013. وفي ما يعني تركيا فيفترض انها ستكون شهدت تنفيذ الاصلاحات السياسية القانونية بعقلية جديدة، وان اقتصادها سيكون شهد تحولات كبيرة واستفاد من تبعات تقدم مفاوضات العضوية. ويراهن الاتراك على ان يكون اطلاق مفاوضات العضوية حافزاً كبيراً يشجع توجه الاستثمارات الأجنبية المباشرة الى بلادهم وان تتطور القدرة التنافسية للصناعات التركية كي تواجه تبعات الاندماج في الاقتصاد الأوروبي. وسيتزايد الحجم الديموغرافي لتركيا في غضون الأعوام العشرة المقبلة الى نحو 80 مليوناً، أي ما يعادل سكان المانيا ويبلغ نسبة 14 في المئة من سكان الاتحاد. واذا كان من الصعب اليوم التكهن بحجم وطبيعة التغيرات التي ستشهدها مؤسسات الاتحاد الأوروبي في غضون العقدين المقبلين وعواقب احتمال انضمام أنقرة في 2025، الا ان الواضح ان تركيا ستكون أحد أكبر أعضاء الاتحاد وسيتساوى ثقلها، داخل المجلس الوزاري، مع صوت كل من المانيا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا، وكذلك بالنسبة للبرلمان الأوروبي. اذ يتوقع ان يتساوى عدد نواب تركيا في البرلمان مع عدد نواب المانيا 100 من أصل 732 نائباً. الا ان تأثير نواب تركيا لن يكون تأثير مجموعة قومية داخل البرلمان وانما ينقسم ويتوزع بين مختلف المجموعات السياسية. فالتصويت داخل البرلمان لا يخضع لمعايير قومية وانما للانتماء السياسي للنائب. ويختلف الأمر بالنسبة لعملية التصويت داخل المجلس الوزاري حيث تدافع كل من البلدان الأعضاء عن مصالحها. وتخضع عملية التصويت، وفق مقتضيات الدستور الجديد، لقاعدة ازدواج الأغلبية أي ان يتم التصويت لفائدة القرار المقترح عندما تصوت 55 في المئة من البلدان الأعضاء وبشرط ان تعد هذه المجموعة اقله 65 في المئة من سكان الاتحاد. وستكون تركيا، وفق الجزء الأول من هذه القاعدة، في الموقع نفسه مثل أصغر البلدان الأوروبية حجماً، مثل لوكسمبورغ او مالطا، ويتساوى ثقلها مع المانيا وبقية الأعضاء الكبار في الجزء الثاني من قاعدة التصويت. ويتوقع ان يستمر العمل فترة طويلة بقاعدة التصويت بالغالبية المزدوجة التي كانت البلدان الأعضاء واجهت صعوبات كبيرة، خلال مفاوضات الدستور، في الاتفاق حولها. وتضمن القاعدة قدراً من التوازن بين مبدأ المساواة بين البلدان الأعضاء والحجم الديموغرافي لكل منها. ويعتقد الخبراء في مركز السياسة الأوروبية في بروكسيل بأن "تأثير تركيا سيكون محدوداً خلال عمليات التصويت على نشاطات السياسة الخارجية والأمن المشترك وأنظمة الضريبة لأن التصويت عليها سيظل يخضع لقاعدة الاجماع" وحق كل من البلدان الأعضاء في استخدام حق النقض. الا ان الاجابة على بعض التساؤلات التي يثيرها الانضمام بالنسبة لقواعد نشاط المؤسسات المشتركة لا ينهي الجدل والتساؤلات السياسية حول تأثير عضوية تركيا في المشروع السياسي الأوروبي وأحلام الوحدة التي راودت الكثير من الأوروبيين. فلا شك في ان انضمام تركيا، الكبيرة والمسلمة والواقعة على خطوط الانكسارات بين الغرب والشرق، بين اوروبا من جهة، والشرق الأوسط وآسيا الوسطى من جهة أخرى، سيكون له تأثير بالغ في طبيعة المشروع الأوروبي وتوجهات سياسات الاتحاد. ويلاحظ خبراء مركز السياسة الأوروبية ان "مشروع الاندماج الأوروبي تأثر دائماً بعمليات التوسيع وسيتأثر حتماً بعضوية تركيا في الاتحاد". وقد تغيرت جغرافية وطبيعة المشروع الاندماجي منذ انضمام كل من بريطانيا والدنمارك وايرلندا في 1973. ولم تحسب بريطانيا يوماً ضمن انصار الوحدة السياسية الأوروبية. واكتسب المشروع الأوروبي بعض البعد السياسي من خلال امتداده نحو جنوب القارة من خلال ضم كل من اليونان 1981 واسبانيا والبرتغال 1986 ثم اتسع في اتجاه شمال القارة في 1995 من خلال انضمام كل فنلنداوالسويدوالنمسا. وبلغ المشروع مياه البلطيق وحدود روسيا واقترب من مياه الشرق الأوسط بعد انضمام البلدان الشرقية الثمانية زائد جزيرتي مالطا وقبرص في مطلع أيار مايو 1994. وتدفع خريطة توسع المشروع الأوروبي انصار الوحدة الى التخلي عن الحلم الذي راودهم عندما كان عدد أعضاء الاتحاد محدوداً عند عشرة خلال مراحل الحرب الباردة. إلا ان تفكك المعسكر الشيوعي جعل الأحداث تتسارع ودفع البلدان الشرقية الى الارتماء في احضان الاتحاد. ويتفق الخبراء والمراقبون على ان توسع المشروع الى 25 بلداً في منتصف العام الجاري يجعل حصول الاجماع صعباً بسبب اختلاف المصالح الحيوية بين البلدان الأعضاء، واختلاف درجات تحالفاتها على الصعيد الخارجي، مثلما دلت المواقف حيال الحرب على العراق. لذلك فان دخول تركيا لا يعزز مسيرة الاندماج السياسي وسيجعل الاتحاد يتحول أكثر فأكثر من منطقة اقتصادية وتجارية وسياسية تحكم قواعد مشتركة وتنقسم في ما بين أعضائها الى مجموعات متجانسة. لكن عضويتها لن تعيق نشاطات السياسة الخارجية. فتركيا تنتمي لعضوية حلف شمال الأطلسي وكل المنظمات الأوروبية الأخرى وعهدت على مدى السنوات القيام بدور الحليف الوفي سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو للبلدان الأوروبية الكبرى. وجددت تركيا تأكيد اندماجها في السياسات الأمنية الغربية خلال حروب البلقان وبخاصة في النزاعات والحروب التي تشهدها منطقة الخليج والشرق الأوسط. وبقدر اندماجها في الاتحاد فان انقرة ستضطلع بدور أكبر في المناطق المجاورة. الكلفة الاقتصادية وعلى الصعيد الاقتصادي، سيكون من الصعب التكهن بالكلفة المالية التي سيتحملها الاتحاد خلال عقد مفاوضات العضوية ومراحل تأهيل الاقتصاد التركي في غضون العقدين المقبلين. وتقدر موازنة الاتحاد بنسبة واحد في المئة من الناتج الأوروبي المحلي الخام. وفيما تضغط الدول الغنية التي تساهم بالقسط الأكبر من الموازنة المانيا، النمسا، السويد... من أجل تقييد الموازنة في الفترة 2007 - 2013 عند هذه النسبة، تطالب المفوضية الأوروبية برفع النسبة الى 1.24 في المئة حتى تقدر الخزانة على مواجهة ارتفاع الانفاق في مجالات السياسات الانمائية. ويتوقع الخبراء ان يتواصل الضغط على الخزانة المشتركة والتقيد بقاعدة عدم تجاوز السقوف المحددة. وتذكر وثيقة داخل المفوضية بأن كلفة عضوية تركيا بدءاً من 2025 ستراوح بين 16 و28 بليون يورو في السنة، ما يساوي بين 0.1 في المئة و0.17 في المئة من الناتج المحلي الخام للاتحاد. وتلاحظ الوثيقة الداخلية ان ارقام الانفاق تعد تصورات نظرية في الظرف الراهن لأن الاقتصاد التركي والموازنة الأوروبية سيتغيران في غضون الأعوام المقبلة. ويحتل قطاع الزراعة حيزاً كبيراً في اقتصاد تركيا. ويشغل 32.8 في المئة من اليد العاملة لكنه يمثل ثقلاً كبيراً على الخزانة لأسباب سياسات دعم الأسعار والاستثمارات العامة. ولا يساهم قطاع الزراعة سوى بنسبة خمسة في المئة فقط في الناتج المحلي الخام. وتقتضي السياسة المشتركة في قطاع الزراعة وقف مختلف أشكال الدعم الحكومي واعادة هيكلة القطاع والملكيات قبل الحصول على معونات الخزانة المشتركة. وفي ظل التوقعات، فان حجم الاقتصاد التركي أقل من اثنين في المئة من اجمالي الناتج المحلي للاتحاد لن يؤدي الى زيادة الثروة الاقتصادية للاتحاد. وفي المقابل فان فوائد الانضمام ستكون كبيرة بالنسبة لتركيا. وتذكر تقديرات غير رسمية بان ازالة الحواجز والقيود امام المنتجات التركية ستؤدي الى زيادة المبادلات بنسبة 40 في المئة. الاسلام والديموغرافيا ويثير مستقبل انضمام تركيا تساؤلات كثيرة حول مفهوم الهوية الأوروبية والحدود الجغرافية السياسية للاتحاد وقدرته على استيعاب الثقافات والقوميات الممتدة في اتجاه هضاب الأناضول وجبال القوقاز. وتخشى الأوساط المسيحية المحافظة على واقع الهوية المسيحية - اليهودية لأوروبا انطلاقاً من خلفيات ثقافية قديمة موروثة عن بقايا الفكر الصليبي. كما يتحفظ بعض العلمانيين على انخراط تركيا في المشروع الأوروبي خشية ان تكون تركيا العلمانية "تخفي أجندة اسلامية" أي ان تتولاها حكومة اسلامية بعد ان تضمن مقعدها داخل الاتحاد وتتخلص من سيطرة القوات المسلحة، راعية العلمانية. وزادت المحاولة الأخيرة التي بذلتها بعض الأجنحة المحافظة في حزب رئيس الوزراء، رجب طيب اردوغان، من أجل تجريم الزنى، من هذه المخاوف. وتبدو المعارضة واضحة في البلدان التي تضم جاليات تركية كبيرة، مثل المانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وبلجيكا. اذ يخشى المحافظون ان يؤدي الانضمام الى زيادة تدفق المهاجرين المسلمين من تركيا. وتشير تقديرات الى ان نحو 2,5 مليون تركي قد يغادرون البلاد في حال انضمت بلادهم لعضوية الاتحاد بعد 20 عاماً. وهو رقم ضعيف ولا يتجاوز نصف النقطة في المئة من سكان الاتحاد. وتتوقع التقديرات ان يكون المهاجرون الجدد من ذوي الكفاءات والمثقفين الأمر الذي سيسهل عملية اندماجهم في المجتمعات الأوروبية. وكما دلت تجربة البلدان الأخرى التي دخلت الاتحاد فان عملة الانضمام تؤدي الى تسارع النمو الاقتصادي واحداث مواطن العمل وبالتالي عدول العمال عن الهجرة. هذا ما حدث بعد دخول اسبانيا والبرتغال وبلدان شمال اوروبا وما يجري الى حد ما بعد دخول البلدان الشرقية. فهناك زيادة في عدد الوافدين ولكن لا وجود لغزو شرقي. وليس هناك من دافع لتوقع رحيل ملايين الاتراك عن بلادهم، اذا هم ضمنوا فيها النمو والعمل والحرية.