اتسعت دائرة الجدل في شأن مفاوضات عضوية تركيا في العائلة الأوروبية على خلفية تصاعد التوتر بين أنقرةوبرلين، عشية الانتخابات الاشتراعية الألمانية في 24 أيلول (سبتمبر) الجاري. والأرجح أن المستشارة الألمانية أنغيلا مركل ومنافسها الاشتراكي مارتن شولتز، يجتمعان على انتقاد تركيا في حملاتهما الانتخابية. ففي وقت قالت مركل: «تركيا تبتعد مِن الممارسات الديموقراطية بسرعة خطرة»، وأضافت خلال مناظرة تلفزيونية مع خصمها الإشتراكي مطلع الشهر الجاري: «أن تركيا يجب ألا تصبح عضواً في الإتحاد الأوروبي»، تبنى شولتز موقفاً عنيفاً من أنقرة، إذ قال خلال المناظرة إنه سيدعو الاتحاد حال فوزه، إلى وقف فوري لمفاوضات عضوية تركيا، بعد تحولها نظاماً «أوتوقراطياً». سلوك ألمانيا الرافض لعضوية أنقرة لم يكن الوحيد في العائلة الأوروبية، إذ انضمت فرنسا إلى معسكر الرافضين لاستمرار المفاوضات مع تركيا، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل انتخابه وعد بوقف تقدم مفاوضات عضوية تركيا، مشيراً إلى أنه يريد مساعدة «الديموقراطيين» في تركيا التي تشهد ما أسماه «انحرافاً للنظام وتسلطاً وخروج تركيا من التاريخ». على صعيد ذي شأن كان الانقسام هو العنوان الأبرز داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي في شأن استمرار المفاوضات مع تركيا، فبينما ترى المفوضية الأوروبية أن سلوك تركيا يجعل انضمامها لعضوية الإتحاد «أمراً مستحيلاً»، أكدت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية للإتحاد فيدريكا موغيريني»أن تركيا ما زالت مرشحة لعضوية الاتحاد، وشريكة مهمة في المنطقة». سلوك مرشحي الانتخابات التشريعية في ألمانيا وتصريحات عدد من قادة القارة العجوز أثارت غضب تركيا التي اتهمت الساسة الألمان بالخضوع لتيارات شعبوية وإقصائية وعدائية، وبتشييد جدار برلين بحجارة الشعبوية، بخاصة بعد دعوة مركل دولة إستونيا التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد، إلى عدم إدراج مسألة تحديث اتفافية الاتحاد الجمركي الموقعة عام 1995 مع تركيا على جدول أعمال اجتماع المجلس الأوروبي في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. كما دخل الرئيس التركي على خط الأزمة، فوصف ألمانيا بالنازية والفاشية، وقال إن على الاتحاد «إما أن يفي بوعده ويمهد لعملية العضوية أو يقول: لا نريد مواصلة السير على الطريق مع تركيا». وإذا كانت الانتخابات التشريعية الألمانية تمثل متغيراً مهماً في معادلة العلاقات التركية الألمانية اليوم، فثمة جدل بينهما منذ وقت بعيد، فقد دخل المناخ بينهما مرحلة الشحن في نيسان (أبريل) الماضي، بعد رفض برلين تجمعات انتخابية لحزب «العدالة والتنمية» في إطار الحشد ب «نعم» للتعديلات الدستورية في تركيا. وتوسَّعت الهوة بين البلدين بعد تحذير ألمانيا مواطنيها في آب (أغسطس) الجاري من السفر إلى تركيا، خشية التعرض لاعتقال تعسفي، بعد توقيف أنقرة 12 ألمانياً لدوافع سياسية. وفي وقت سابق، اتهمت برلينأنقرة بالتجسس على مقيمين في ألمانيا منتمين إلى حركة «خدمة» عبر أئمة الاتحاد التركي- الإسلامي للشؤون الدينية «ديتيب»، ناهيك برفض أنقرة السماح لنواب ألمان بزيارة قاعدة أنجرليك الجوية، واتهامها برلين بدعم عناصر كردية مطلوبين للقضاء التركي. ودخلت العلاقة نفقاً مظلماً بعد قرار مجلس أوروبا في نيسان الماضي بوضع تركيا على لائحة الدول الخاضعة للمراقبة. وعكس قرار المجلس مخاوف الاتحاد مما يعتبره قمعاً للمعارضة. كما يشكل القرار مؤشراً على تراجع الديموقراطية في تركيا إلى ما دون مستوى معايير كوبنهاغن التي يجب التزامها من أجل بدء مفاوضات العضوية في الإتحاد، كما يعنى خفض مستوى تركيا على مقياس الإتحاد إلى ما قبل العام 2004، حين بدأت تلك المفاوضات بعد ثماني سنوات من انطلاقها عام 1996، بفضل الإصلاحات التي أجريت خلال تلك المرحلة، والتي وصلت إلى نحو 20 تعديلاً هدفت بالأساس إلى الانسجام مع البنية التشريعية الأوروبية. وعلى رغم أن مفهوم «مرحلة المراقبة السياسية» وضع عام 1993 بهدف مساعدة دول أوروبا الشرقية في تسهيل عملية الانتقال الديموقراطي بمفهومه الغربي، بعد انهيار جدار برلين عام 1989، وتوجهها نحو العائلة الأوروبية، لم يكن هناك أي دولة أعادتها الجمعية العامة للبرلمان الأوروبي إلى مرحلة المراقبة السياسية بعد أن أكملتها ما عدا تركيا، وهو الأمر الذي مثَّل انتكاسة لمفاوضات عضوية تركيا. والأرجح أن ثمة مخاوف أوروبية تقف حجر عثرة أمام إنجاز مفاوضات لحاق أنقرة بالقطار الأوروبي أولها، تشدد بعض الدول الأوروبية، وفي الصدارة منها ألمانياوفرنسا والنمسا، التي تعتبر أن تركيا ما زالت في حاجة إلى سلسلة أخرى من القوانين التطبيقية، بخاصة في ما يتعلق بإقرار حقوق قانونية ودستورية للقوميات والأقليات غير التركية، وبالذات الكردية. وثانيهما تصاعد المخاوف الأوروبية من تراجع حرية التعبير والصحافة في تركيا في ظل استمرار العمل بقانون الطوارئ، إذ وصل عدد المعتقلين من الصحافيين منذ انقلاب 15 تموز (يوليو) الفاشل إلى نحو 150 صحافياً ناهيك بتأميم وإغلاق نحو مئتي صحيفة ومحطة تلفزيونية وإذاعية. ويمثل العامل الديموغرافي عقبة أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها ما يقرب من 80 مليون نسمة، إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعني زيادة وزن تركيا في عملية التصويت داخل البيت الأوروبي، يوازي وزن وتمثيل ألمانيا التي تحتل المرتبة الأولى سكانياً بين دول الاتحاد. ويرتبط التخوف الرابع بالعامل الثقافي والحضاري، فتركيا لا تنتمي إلى الحضارة المسيحية، وبالتالي لن يكون سهلاً اندماجها في القارة الأوروبية. وصعود حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» إلى الحكم أعاد إلى الذهنية الأوروبية ملامح الحكم العثماني، وتجلى ذلك في تكرار الحديث عن «العثمانية الجديدة». على صعيد مؤثر، فإن الصورة الذهنية للمجتمعات المسلمة في دول الاتحاد أصبحت أكثر قتامة بعد الأعمال الإرهابية التي تورَّط فيها مسلمون في القارة الأوروبية، كما تخشى أوروبا من عودة محتملة لعقوبة الإعدام التي لم تنفذ منذ عام 1984، وتوقفت نهائياً عام 2004 في إطار الإصلاحات الهادفة للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتحقيق معايير كوبنهاغن. الانتخابات الألمانية تبدو كاشفة وليست مؤسسة لطبيعة العلاقات الحرجة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فالمزاج العام الأوروبي بات بعيداً مِن فكرة استيعاب تركيا الدولة التي انحرفت مِن وجهة نظر أوروبا عن قيم ومعايير الديموقراطية، ويسعى رئيسها إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحاته السياسية. * كاتب مصري