عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان ألفريد هتشكوك لا يزال مخرجاً انكليزياً. وهو كان سبق له خلال السنوات الأخيرة قبل الحرب، أن حقق أفلاماً عدة عن التجسس وعن الشرور التي يخبئها النازيون للعالم، وعن الطابور الخامس وعمليات التخريب. ولكن حين عم القتال أوروبا، وصارت لندن نفسها معرضة لم يعد في وسع هتشكوك أن يبقى هناك، ولا أن يواصل تحقيق أفلامه. فما العمل؟ في كل بساطة أفضل الحلول يقوم في الذهاب الى أميركا، وتحديداً الى هوليوود حيث كانت سمعة هذا الفنان قد سبقته وصار من السهل عليه أن يعثر على من ينتج له أفلاماً يحققها هناك. بل ان هوليوود نفسها، كما تقول الحكاية، كانت دعته عارضة عليه ان يحقق فيلماً عن حكاية غرق الباخرة "تايتانيك". كان هذا المشروع جدياً أول الأمر، ولكن حين وصل هتشكوك الى الولاياتالمتحدة "فوجئ" بدافيد سيلزنيك، الذي كان قد انتهى من انجاز "ذهب مع الريح" حاصداً به المجد والأرباح التي نعرف، فوجئ به، بعد أن كان يفترض ان ينتج "تايتانيك"، يعرض عليه التحول الى مشروع آخر تماماً. إذ ان نجاح تحويل رواية مرغريت ميتشل الى ذلك الفيلم الاسطوري "ذهب مع الريح" شجع المنتج الشاطر على الاقتناع بضرورة مواصلة طريق الاستعانة بأعمال أدبية، ويا حبذا لو تكون أعمالاً من كتابة أديبات نساء. وهكذا اشترى حقوق رواية دافني دو مورييه "ريبيكا" وقال لضيفه الانكليزي انه الآن يفضل الانصراف الى هذا العمل وترك مشروع "تايتانيك" الى فرصة لاحقة. على الفور قبل هتشكوك هذا العرض يومها، بل سيقال لاحقاً انه كان أكثر حماسة لخوضه، من سيلزنيك. وهكذا خلال الشهور القليلة التي تلت وصول هتشكوك الى هوليوود، أنجز هذا الأخير فيلمه الأميركي الأول "ريبيكا". ولكن هل كان هذا الفيلم أميركياً حقاً؟ أبداً سيؤكد هتشكوك لاحقاً إذ يقول في كتاب حوارات فرانسوا تروفو معه صدر قبل سنوات مترجماً الى العربية عن مؤسسة السينما السورية في دمشق انه "فيلم انكليزي، انكليزي كلياً: فالقصة انكليزية والممثلون انكليز والمخرج انكليزي". والحال ان هذا الواقع هو الذي دفع هتشكوك نفسه الى السؤال عما كان في امكان شكل هذا الفيلم أن يكون عليه لو انه حقق في انكلترا؟ ولكن مهما يكن الأمر، يبقى ان "ريبيكا" هو أول فيلم حققه هتشكوك في مرحلته الأميركية الأولى. وهو واحد من أقوى أفلامه، خصوصاً أنه أسس لذلك التوجه الذي سيطغى لديه مذاك وصاعداً: التوجه نحو سبر الأغوار السيكولوجية لشخصياته، وتحويل الرعب الى رعب داخلي. والحقيقة ان موضوع الفيلم وشخصياته كانت تتيح هذا، حتى وإن كنا نعرف أن مؤلفة الرواية انطلقت في كتابتها من سؤال بسيط هو: ترى ما الذي سيحدث لسندريلا بعد أن تزوجت أمير أحلامها؟ طبعاً ليس ثمة أثر لهذا السؤال أو لسندريلا في الرواية أو في الفيلم. كل ما في الأمر ان في خلفية الحكاية نبيلاً انكليزياً ثرياً، يغرم بوصيفة في مونت كارلو ويعرض عليها الزواج فتقبل هي التي تجد السعادة تهب عليها من خلال ذلك الزواج لا سيما ان النبيل نفسه وسيم بهي الطلعة، شاب وطيب. أو هذا ما يبدو عليه في البداية وخلال فترة الزواج الأولى... بل حتى لاحقاً حين ينتقل العروسان الى قصر النبيل في ماندرلاي: إذ هنا يظل للعروسين مظهر السعادة أمام الآخرين الذين ينظرون اليهما بصفتهما أسعد وأجمل ثنائي في المنطقة. ولكن الحقيقة شيء آخر: الحقيقة التي تكتشفها الزوجة التي لن نعرف لها اسماً طوال الفيلم هي أن زوجها ماكسيم لا يزال يعيش وسط ذكريات زوجته السابقة ريبيكا، التي ماتت قبل فترة غرقاً وكان معروفاً سابقاً بحبه الشديد لها. ولم يكن ماكسيم الوحيد يهجس بريبيكا وذكراها، بل هناك ايضاً رئيسة الخدم في القصر السيدة دانفر. وهكذا إذ تتجمع هذه العناصر في الفيلم تجدنا امام ثلاثي بات يعيش تحت وطأة ذكرى ريبيكا التي يحمل الفيلم اسمها، اما هي فغائبة. المهم هنا هو ان سلسلة من الأحداث والتصرفات لا سيما التصرفات الغامضة والهيمنة النفسية التي تفرضها السيدة دانفر على القصر وعلى الزوجة الجديدة - إضافة الى غموض مواقف الزوج والتحول الجذري الذي يطرأ عليه بعدما كان امير الأحلام، كل هذا يحرك شكوك الزوجة جدياً بالتوازي مع تحقيقات تتحرك بدورها، ما يضعنا امام احتمال منطقي يقول ان الزوج هو الذي قتل ريبيكا. وهكذا تنتقل الزوجة الجديدة، من حال التوتر إزاء تصرفات الخادمة، الى حال الرعب إزاء شكوكها بالزوج. وتتحول الحياة كلها لتصبح جحيماً لا يطاق. ولكن النهاية تحمل شيئاً آخر تماماً. النهاية التي تكتشفها الزوجة وكادت تدفع حياتها، اكثر من سعادتها، ثمناً لها: الحقيقة هي ان الزوج لم يكن مغرماً بزوجته الأولى ريبيكا، بل كان يكرهها بمقدار ما كانت هي تكرهه. وإزاء سلبيته، كانت ريبيكا لا تكف عن تنظيم حياتهما كما يحلو لها... بل ان موتها نفسه - انتحاراً بسبب اصابتها بسرطان قاتل عرفت به - ارادته ان يؤدي الى دماره... ولم تكن السيدة دانفر سوى عون لها في ذلك. وحين تكتشف هذه الحقيقة، يتمكن الزوجان ماكسيم وسندريلته الحسناء، من قهر الخوف والشك والرعب ويلتحمان في غرام يستعيدان به غرامهما الأول، بعد ان كانت السيدة دانفر احرقت القصر لحقدها عليهما وماتت. واضح هنا اننا، في هذه الحبكة، نكاد نلمح الكثير من العناصر التي ستشكل بعض جوهر سينما ألفريد هتشكوك، مثل الشك والمتهم البريء والخطر المحدق بالثنائي، والغائب المهيمن على حياة الأحياء، والهمسات الغامضة والخبطات المسرحية. غير ان هذا كله لا ينبغي ان يدفعنا الى الاعتقاد بأن هتشكوك عرف هنا كيف يستحوذ على حبكة رواية دافني دو مورييه، ويبث فيها هواجسه الفنية والفكرية. ذلك لأن كل هذه العناصر موجودة اصلاً في الرواية من قبل تدخل هتشكوك. ومن هنا ربما سيكون من الأصح ان نقول ان هذا الفيلم الذي حمل بصمات الكاتبة، التي حقق هتشكوك فيلماً آخر من كتابتها، كان هو الذي اثّر على مسيرة هذا الفنان اللاحقة، المسيرة التي تجعل من سينما هتشكوك او من بعضها على الأقل ميداناً خصباً لزرع افكار عميقة. وحسبنا للتمثيل على هذا ان نشير الى الدور الذي يلعبه عنصرا الماء والنار في الفيلم، في بدايته الى نهايته، وكذلك الدور المهيمن للماضي وقواه في حياتنا. وفي هذا الإطار قد يكون مفيداً ان ننقل عن الباحث الفرنسي نويل سمسولو ان "الخوف من الماء الذي يبدو واضحاً في الفيلم، وخَرَق البطلة، ونسيانها حتى دفتر الزواج، والوجود المفاجئ لابن سفاح، ليست كلها سوى إشارات تظهر في شكل اساسي استحالة وصول الشخصيات الى اي معرفة. ما يجعل من "ريبيكا" فيلماً عن استحالة المعرفة اكثر مما هو فيلم عن المعرفة". وفي هذا المعنى نجد ان هتشكوك لا يحكي لنا هنا حكاية سندريلا بل كابوسها، وسط عالم جهنمي يحيل الى اجواء فوكنر، ووحدها النار تأتي لتدميره! عندما حقق ألفريد هتشكوك 1899- 1980 هذا الفيلم كان في الحادية والأربعين من عمره، وكان انهى مرحلته الإنكليزية الأولى، اذ ستكون ثمة مرحلة ثانية وسط مساره الأميركي الذي امتد من العام 1940 حتى نهاية حياته. ولقد حقق هتشكوك، المعروف بسيد التشويق في الفن السابع، اكثر من خمسين فيلماً نالت شعبية واسعة، ولعل ابرزها "بسايكو" و"مارني" و"ظل الشك" و"العصافير" و"الدرجات 39" و"غريبان في قطار" و"النافذة الخلفية" و"الحبل".