على رغم تأثر الشاعرة الأميركية المعاصرة اليزابيث بيشوب 1911 - 1979 بشعراء كبار أمثال "وليام وردرث ورز"، "والس ستيفنز"، "أميلي ديكنسون" و"مريان موور"، إلا ان مفهومها لشعر جمح بعيداً مما كان سائداً بين شعراء الرعيل السابق. فالشعر عندها شيء خالص ومجرد، قائم بذاته ولذاته، ولا ينطوي على أي ادعاءات أو تأويلات أدبية أو أخلاقية. ولطالما عبّرت الشاعرة عن نفورها الشديد من الاحتفاء بمقدرة الشعر وطاقاته المؤثرة والخارقة، مؤكدة ببساطة بالغة أنه في الأغلب شيء عقيم وعبثي وعديم النفع. ولعلّ تطرفاً في الرأي كهذا يحمل في طيّاته مقولة "أوسكار وايلد" عن ضرورة تحرير الشعر من ربقة الوعظ. تعود اليزابيث بيشوب الى الواجهة الان بعد صدور طبعات جديدة من اعمالها الشعرية وكأنها لم تغب كل تلك السنوات. وقد لقّبها النقاد بشاعرة "العين"، إذ كانت ترى ما لا يُرى وتقول ما لا يُقال. فبينما كان شعراء أمثال "والس ستيفنز" و"هارت كرين" يؤكدان تفوق الشاعر الذهني والروحي على بحر الموت، كانت تقف هي على ضفة مقابلة، خائرة القوى، مقهورة، عاجرة، وقد تراءى لها هذا البحر في مناماتها جياشاً، قاسياً، جباراً وعازماً على تدمير الجميع. لم تحظَ "بيشوب" على غرار الكثير من الشعراء بالطفولة المُثلى. فبداياتها كانت مرتبكة، مشتتة، ومملوءة بالمعاناة. وبسبب وفاة والدها المبكرة وهي لم تتجاوز بعد الثمانية أشهر، والنوبات العصبية المتلاحقة التي ألمّت بوالدتها عقب ذلك، فإنها أرغمت على التنقل للعيش في بيوت أقارب وأجداد، مسلوبة الإرادة، عليلة الجسد والفؤاد، وفاقدة لأي بارقة أمل في رؤية أمها مجدداً بعد أن تمّ ادخالها نهائياً الى مصح في كندا لتموت وحيدة هناك. منذ مطلع سن المراهقة، كانت القراءة والكتابة والنشر هي هاجس "اليزابيث" الوحيد. آنذاك كانت فرغت من قراءة "ويتمان" و"هوبكنز" وغيرهما، وعمدت الى نشر بعض أعمالها المبكرة في مجلة مدرسية. وعلى رغم انها كانت تطمح الى مستقبل في عالم الطب، إلا أنّ شغفها بالشعر، وتؤثرها العميق بالشاعرة "مريان موور" التي أصبحت صديقتها في ما بعد وعشقها للسفر والمغامرة، حثتها جميعاً على المضي في عالم الأدب والابداع لتضحي في ما بعد شاعرة مرموقة. أسفارها وترحالها بين بلدان عدة كإنكلترا وفرنسا وشمال أفريقيا وجنوب أميركا واسبانيا وايطاليا وغيرها أغنت تجربتها الشعرية، وأشبعت "عينها" النهمة تاركة بصمة فريدة على معظم نتاجها. وإذا كان ثمة من محفز أساس أو شرارة أولى لإشعال فتنة الكتابة، فإن مجمل أشعار "بيشوب" تشي بأن "المكان" بلا ريب بسحره وسطوته وجاذبيته هو من أشعل فتيلها من النظرة الأولى. لكأنه مفتاح الإلهام الأول الذي في رحابته تتواتر عناصر القصيدة، وبقدرته السحرية يتجلى الكثير من الأحاسيس والانفعالات، ما يستفز قريحة الشاعرة ومخيلتها. وليس أكثر دلالة على ذلك مما تضمره بعض عناوين مجموعاتها الشعرية من اشارات واضحة اليه مثل: "الشمال والجنوب"، "جغرافيا 3" و"أسئلة الترحال"، وكذلك الأمر بالنسبة الى بعض عناوين قصائدها مثل: "الخريطة"، "فلوريدا"، "البرازيل"، "لص بابل"، "الموت الأول في نوفاسكوشيا"، "رحلة بحرية الى انكلترا"، "الذهاب الى المخبز"، "المسمكة"، "النوم على السقف" الخ... واللافت ان شروعها المبكر في الكتابة أولاً، وظهور الكثير من قصائدها في مجلات شهرية وفصلية مهمة كمجلة "شعر" و"نيويوركر" ثانياً، لم يغرّاها وبالتالي يحرّضاها على الإسراع في تحقيق رغبتها في تبني مجموعة أولى. ولا غرو من ذلك، فالشاعرة قد عُرفت بهوسها الشديد في نقدها لذاتها وبتأنيها المفرط في مراجعة كتاباتها، ولذلك فإن مجموعتها الشعرية الأولى "الشمال والجنوب" لن ترى النور حتى عام 1946، أي وهي في الخامسة والثلاثين من العمر، وذلك بعد فوزها في إحدى المسابقات الشعرية. ستلي هذه المجموعة مجموعات ثلاث فقط على مدار حياتها، تفصل الواحدة منها عن الأخرى مدة زمنية لا تقل عن العشر سنوات وهي على التوالي: "ربيع بارد" 1955، "أسئلة الترحال" 1965، و"جغرافيا 3" 1976، اضافة الى بعض القصائد غير المنشورة والترجمات وكتابات الصبا التي ظهرت لاحقاً في عام 1983 ضمن "مجلد الأعمال الكاملة 1927 - 1979". نتاج قليل نسبياً لصاحبة صيت ذائع، إلاّ أنه علامة فارقة في الشعر الأميركي المعاصر، وتحفة فنية سلبت لبّ الجميع. منذ ديوانها الأول والذي ضمّ أشهر قصائدها مثل: "النصب التذكاري"، "الديوك"، "الجبل الجليدي الوهمي" و"السمكة" تألقت بيشوب بشغفها في تناول موضوعة الأسفار والرحلات، وبأسلوبها الوصفي المبهم والمجازي، وبعاطفتها المتحفظة والمتماسكة إزاء الرومانسية المغالية في البوح والإسهاب. ونظراً للشهرة التي نالتها، فإنها عُينت مستشارة لقسم الشعر في مكتبة الكونغرس الأميركي عام 1949. وفي عام 1956 حازت مجموعتها الثانية "ربيع بارد" جائزة بوليتزر. ولا شك في أن "البرازيل" كانت محطة مهمة في حياة الشاعرة على الصعيدين الشخصي والإبداعي. فقد أمضت فيها برفقة عشيقها "سورس" الذي انتحر لاحقاً في نيويورك مدة لا تقل عن الخمسة عشر عاماً الى ان انتقلت نهائياً الى الولاياتالمتحدة في عام 1969 للتعليم في جامعة هارفرد. ولن يكون في وسعنا تقويم تجربة بيشوب الشعرية والإحاطة بما خلّفته قصيدتها من جذور وأصداء، في منأى عن الحقبة الزمنية التي عاشت فيها الشاعرة وما كان يكتنف ساحتها الثقافية من هموم وصراعات ومواقف متباينة في مجال الفنون والأدب عموماً، والشعر خصوصاً. وإذا تأملنا بنظرة بانورامية أربعينات القرن الماضي في الولاياتالمتحدة، واطلعنا على ما كان يدور بين بعض شعرائها من نزاعات ونقاشات ومراسلات لجهة العمل على التغيير الجذري لمفهوم "الشعر الرمزي" السائد آنذاك والذي كان يضطلع بريادته شعراء أمثال: "ت.س.إليوت"، "تايت"، و"نترز" و"رانسوم"، لوقعنا أقلها على ثلاث محاولات جوهرية للتجديد في مفهوم الشعر، ولن يسعنا هنا التطرق اليها، إلا أنها في مجملها كانت تجمع على قضايا مثل: الحاجة الى لغة شعرية جديدة والحاجة الى التجريب. وأبرز شعراء هذه المرحلة الذين ضاقوا ذرعاً بالرمزية وبأفقها الضيّق في الشعر هم: "والس ستيفنز"، "وليام كارلوس وليامز"، "فروست"، "باوند"، "شوارتز"، "جريل"، "لوول" وغيرهم، ففي عام 1948 كتب "ستيفنز" الى "شوارتز" يقول ما معناه: "الشعر هو لا شيء إن لم يكن تجربة في اللغة" تجربة تطاول المضامين والمفردات. في الماضي، في عالم المطلق المزعوم، كان المشهد المسرحي يعدّ ناجزاً إذ كان يردد ما كان مكتوباً في النص، أمّا اليوم فالمسرح تغيّر. من بعد "أينشتاين" و"هايزنبرع" و"هايدغر" وغيرهم ممن ساهموا في نظرية النسبية، فإن الشعر الحديث لم يعد في مقدوره أن يكون دلالة بحتة أو مجرد رمز لنظام قائم على قيم ثابتة". وفي كتاب "العمى والبصيرة" لصاحبه الناقد الأميركي المعروف "بول دي مان" نجد الكاتب يفرق بين "الرمزية" التي هي ليست أكثر من اشارة ساكنة الى عالم تمت معرفته من قبل، إشارة تقوم على مبدأ تكريس المُعتقد بالرمز وبين "المجاز" الذي هو في نظره أكثر إيحاء وانفتاحاً على السؤال والاكتشاف، وأكثر قدرة على اثارة الأفكار من خلال رفضه "المطلق" الذي تنطوي عليه "الرمزية". وما قاله الشاعر "دلمور شوارتز" في هذا الخصوص في مقالته عن "آلن تايت" عام 1940 لا يقل شأناً، ومما ورد فيها: "وإذ يحلّ الرمز محل الفكرة، فإنه يبقى عاجزاً عن الايحاء بالانطباعات والصور التي تستمد منها هذه الفكرة وجودها المثير". وقد ذهب الأمر بهذا الأخير الى حد كتابة مقالة في عام 1947 بعنوان: "ديكتاتورية ت. س. اليوت الأدبية" - رباعيات أربع كانت صدرت في عام 1943 معتبراً فيها أن معظم أحكام إليوت وانتقاداته للعالم انما هي محض رؤى وتصورات شاعرية ذاتية وفي الأغلب وليدة أفكار مسبقة واختبارات على المستوى الفردي وحسب، مستطرداً فيها بالقول ان ديكتاتورية اليوت هي نتيجة لموقف وسلوك ولهجة انتهجها الشاعر، مُتيحاً لمستحباته ومكروهاته الذاتية وللاهوته الخاص أن تمرر جميعها تحت غطاء "موضوعية" ما هو جمالي. والجدير ذكره أيضاً في ما يخص مرحلة الأربعينات هذه، هو مسألة اختلاط الدين بالشعر وكذلك بالنقد حتى بدا من السهل اتّهام أصوات كانت تلقّب نفسها ب"النسبوية" أو "الإنسانوية" بالكفر. ومن هنا استحقت اعتبارها المميز والفريد تلك الأصوات التي صدحت عالياً آنذاك مطالبة بالتجديد، ومن بينها طبعاً صوت "اليزابيث بيشوب" المؤثر. لقد كانت للشاعرة الشابة في حينه قصائد توازي أشعار "ستيفنز" في التحريض الفكري والميل نحو التأمل، وأشعار "جريل" في تركيز الاهتمام على شخص المتكلم. وهذا ما أهلها لتقود موجة انقلاب غير معلنة على الشعر القديم برمّته محتوى ولغةً ونظريةً. مساهمتها الأساسية في موجة التحديث هذه أكثر ما تجلّت في أسلوبها الشعري، إذ لقصيدة "بيشوب" خصوصية فريدة أو لنقل أسلوباً مميزاً عمدت من خلاله الى طرح الكثير من الأسئلة والمفاهيم والمواقف المتعلقة بالحياة والشعر، والى اثارة الشكوك حول بعض أفكار بدت من المسلّمات، وهو ما يتمثل في ثنائية الحوار الدائم القائم بين كم من المفاهيم مثل: الظاهر والباطن، العرضي والمطلق، الأصل والصورة الخ... ففي قصيدة "الخريطة" مثلاً تتجلّى هذه الثنائية في الاشكالية القائمة بين الشيء ورمزه، وذلك من خلال مقارنة الأرض وظلالها الحيّة بتلك الخطوط والبقع والألوان الميتة في الخرائط. وها هو "ماء الخرائط أكثر سكوناً من اليابسة". وفي قصيدة "الجبل الجليدي الوهمي" نقع على ثنائية مماثلة، وهي هذه المرة بين الشيء وايحاءاته، فقد تعمّدت الشاعرة الخلط بين مرأى سفينة ومرأى جبل جليدي في البحر "هذا مشهد يمنحه بحار عينيه". هنا تبدو الرؤية المطلقة، الواضحة، والمتيقنة شبه مستحيلة، فالجبل الجليدي كالروح مكوّن من عناصر تصعب رؤيتها! والسمكة التي اصطادتها الشاعرة في قصيدة "السمكة" ثم عادت وأطلقت سراحها، ما هي إلاّ استعارة أخرى لإشكالية أخرى في وسعنا فقط معرفة العالم الطبيعي لا امتلاكه! وما الوصف المادي الدقيق للسمكة الذي تناول شكلها ولحمها ولونها ونظرتها وشفّتها إلا تشديداً على أنه مهما تناهت معرفتنا بالخواص الطبيعية لهذا الوجود، فإن هذا لا يمكنه أبداً الغاء امكان وهميته واستحالته. وأخيراً وليس آخراً، فإن قصيدة "تمرين بسيط" تنطوي على مقارنة بصيغة شعرية بين ما هو متخيل وما هو واقع في محاولة للتكييف بينهما. هذه الجدلية الدائمة في شعر بيشوب أفسحت مجالاً للقلب والعقل في أن يتفاعلا معاً لحظة التأمّل. فالنصب التذكاري في احدى أهم قصائدها، في جزء منه يودّ أن يكون نصباً فحسب وبلا أبعاد، إذ "لا وجود للبعيد، ونحن بعيدون ضمن المشهد"، وفي جزئه الآخر هو أكثر حقيقية وحيوية بخشبه الذي تفوق قدرته على التماسك قدرة الغيم والبحر والرمل. فالنصب "اختار لنفسه هذا السبيل لينمو لا ليتحرك". قصائد "بيشوب" تحف حقيقية، وعلى رغم ان بعض النقاد كان أغفل أهميتها واعتبرها تقليدية وغارقة في الوصف، إلاّ أن كثيراً منها ينم عن عمق ادراك ومعرفة وثقافة عالية ومحاولة لنبذ المألوف والسائد وبصورة خاصة، عن مقدرة على اثارة أسئلة الحياة الكبيرة من خلال التفاتات ذكيّة وثاقبة الى شؤون الحياة الصغيرة. وفي ما يخصّ الوصف فلا غلو في القول انه كانت للشاعرة عين رائدة لا يُخفى عليها حتى ولا رائد العين. "فن وحيد" هي الأكثر من بين قصائد مجموعتها الأخيرة "جغرافيا 3" وروداً في الأنطولوجيات، لذا ارتأينا ترجمتها، اضافة الى قصيدة أخرى بعنوان "تمرين بسيط" من مجموعتها الأولى "الشمال والجنوب".