إحدى الكاتبات، صديقة حميمة، دخلت نادي العالمية منذ فترة قصيرة، وافقت على اقتراح صديق صحافي عربي - حضر معرض فرانكفورت - أقنعها بالحديث مع ناشر عربي "كبير" عن إمكان طبع روايتها الجديدة عنده. الصديقة التي إصحبناها - الصديق الصحافي وأنا - قدمت نفسها بتواضع للناشر، على رغم علمها، أنها يكفيها ذكر اسمها، فهي ليست روائية معروفة في المشهد الأدبي العربي وحسب، إنما تكتب في شكل دوري منذ ما يقارب 13 عاماً في صحيفة عربية واسعة الانتشار، تصدر يومياً في بلاد صاحب دار النشر. الناشر ولكي تكتمل فصول الكوميديا العربية السوداء التي أرويها هنا!!، سألها عن صنف ما تكتبه: الرواية أم الشعر؟ ابتسمت الصديقة وفعلت كل ما في وسعها لكي تحافظ على تماسك أعصابها، وترد على استفسارات الناشر بهدوء، على رغم أن الناشر هذا بالذات - كما أباحت لاحقاً - أرسل لها قبل شهور قليلة رسالتين على عنوانها الإلكتروني، في الأولى ناشدها "بالمبادئ والعروبة" لتلبية نداء الاستغاثة "المصيري" بإنقاذ مجلته الشهرية "القومجية" من طريق الاشتراك فيها، وفي الثانية دعاها للتوقيع على بيان "ناري" ضد الهجمات "الإمبريالية والصهيونية" التي تتعرض لها "الأمة في العراق وفلسطين" على حد تعبير الناشر "المناضل"! وعندما سألت صديقتنا المنفية الناشر الذي شرفته جامعة الدول العربية بالحضور إلى فرانكفورت، عن شروط النشر عنده، قال متبجحاً، انه الناشر الوحيد الذي لا يطالب الكاتب بدفع تكاليف طباعة نشر الكتاب، لكنه يشترط في حال ترجمة الرواية إلى لغة أخرى "الحصول على حصة 4 في المئة من بيع كل نسخة تتُرجم إلى أي لغة أخرى!"، وعندما أبدت الكاتبة استغرابها من هذا الشرط كما يبدو أن الناشر عرف بشهرة صديقتنا وليس كما ادعى، لذلك طرح هذا الشرط الغريب!!، خصوصاً أن الناشر العربي يريد الحصول على ذلك المبلغ وهو جالس في جحره من دون أن يفعل شيئاً للكتاب، ناهيك عن أنها تعرف شروط النشر في أوروبا وفي كل العالم المتحضر، علق الناشر، أنه يطبق قوانين النشر العالمية لا غير، وأنه حريص ألا يخل بقانون حقوق المؤلف العالمي! في الحقيقة، الأمر ليس كذلك. لأن الناشر "العربي" مثله مثل غالبية زملائه الآخرين يتغذى من كبد الكاتب. وكان من الأفضل في حال صديقتنا أن يطلب منها تكاليف الطباعة لنشر كتابها، كما يفعل مع كتّاب آخرين. ولا حاجة لصديقتنا أن تشرح لنا شروط النشر في أوروبا، كما تعرفها هي مع ناشريها في أوروبا، فأنا الآخر، أعرف هذه الشروط منذ زمن طويل، سواء من طريق عملي النقابي في اتحاد الكتّاب الألمان، أو من طريق الصداقة التي تربطني مع بعض الكتّاب الألمان، أو كما خبرتها مباشرة عند نشر روايتي الأخيرة "تل اللحم"، التي صدرت عن دار هانزير، والتي هي واحدة من كبرى دور النشر الألمانية والأوروبية، والتي يمكن أن تكون كل شيء باستثناء شروط الاحتيال، سأحاول نقل صورة للأصدقاء الكتّاب عن ميكانيزم النشر في أوروبا وأميركا. الخطوة الأولى هي في العثور على وكيل أدبي، يهمه نشر الكتاب، والذي يقوم أولاً بترجمة فصل أو فصلين من الكتاب، ثم يعرض الترجمة على محرر متخصص معظم الوكالات الأدبية تملك محررين متخصصين به، بعدها يقوم بتحضير ملف عن الكاتب يتضمن سيرته وقائمة بأعماله المنشورة، بعدها يرسل الملف أولاً إلى دور النشر التي يتعامل معها، أو إلى تلك الدور التي يعتقد بأنها معنية أكثر بنشر هذا النوع من الروايات. وإذا كانت سمعة الوكيل الأدبي جيدة، وغالباً ما تكون دار النشر خبرت ذلك مسبقاً، بخاصة إذا كان سبق له وأن اقترح روايات حققت نجاحاً وأرقاماً معقولة في المبيعات، فإن دار النشر تأخذ تقريره على محمل الجد. دور النشر لا تكتفي عادة بتقويم الوكيل وحده، إنما تُقدم الرواية إلى "محقق" أو ما يمكن أن يطلق عليه "خبير أدبي"، يقرأ العمل كاملاً في لغته الأصلية يأخذ أجراً عن ذلك من الدار، ليقدم تقريراً عن الرواية، يلعب دوراً حاسماً بالتأثير على قرار دار النشر. أما دور النشر ذات السمعة الأدبية العالمية فلا تكتفي في حالة الكتّاب الجدد بخبير واحد، إنما تقدمه إلى "خبير" ثان وثالث، وإذا تطابقت آراء هؤلاء جميعاً، منفصلين عن بعضهم كما حصل لرواية "تل اللحم" ودار نشر هانزير، فإن دار النشر تتحمس لطبع الكتاب، حينها تتصل بالكاتب وتتفق معه على مترجم، لكي يقوم بترجمة فصل جديد، وملخص للرواية، لكي تقدمه دار النشر في مؤتمرها نصف السنوي الذي تعقده مع ممثليها الجوالين "المروجين" لعرضه على المكتبات من أجل بيعه يأخذون نسبة على عملهم. ويتوزع هؤلاء في طول البلاد وعرضها، ويختلف عددهم بحسب سمعة دار النشر وحجمها. دار هانزير مثلاً، تملك بمفردها أكثر من 330 ممثلاً في مقاطعات ومدن ألمانيا وسويسرا والنمسا. في حالات نادرة يستدعي الأمر حضور الكاتب مؤتمر "المروجين"، لتقديم روايته والحديث عنها: مهمة شاقة بالنسبة للكتّاب! وفقط إذا اقتنع المروجون هؤلاء، وأعجبهم الكتاب، توقع دار النشر العقد مع الكاتب، تشتري منه حقوق النشر: تدفع له عن الطبعة الأولى 10 في المئة في حالة الكتاب غير المترجم و7 في المئة إلى 8 في المئة للطبعة الأولى حتى 8000 نسخة في حالة الكتاب المترجم، ثم 8 في المئة للطبعة الثانية حتى 15000 نسخة، و10 في المئة للطبعة الثالثة إلى ما لا نهاية. بعدها وتلك عملية معقدة أيضاً على المروجين إقناع اصحاب المكتبات بعرض الكتاب. اليوم تسيطر على السوق في أوروبا، كارتلات كبيرة من المكتبات، اشهرها مؤسسة "تاليا"، ثم "بيرتيلسمان"، إضافة إلى أكبر كارتلين لبيع الكتب من طريق الإنترنت: "أمازون"، و"فيلت بيلد"، وهذه الكارتلات تفرض أحياناً حسماً يصل إلى 57 في المئة عن بيع نسخة أي كتاب. كما أنها لا تتعامل مع كل دور النشر. فقط دور النشر ذات السمعة العالمية تستطيع عرض كتبها هناك، وحتى هذه الدور تفشل أحياناً في فرض بيع بعض الكتب. أكثر من ذلك تقوم دار النشر بالترويج للكتاب في دور النشر العالمية، في مقابل الحصول على نصف حقوق البيع، في حالة الكتاب الصادر في اللغة الأصلية، ومن دون أي مقابل في حالة الكتاب المترجم. وقد شهدت شخصياً، كيف أن مدير دار نشر هانزير، أثنى على روايتي حاثاً الناشرين الأجانب على شرائها من دون أمل بالحصول على أي مقابل بالنسبة إليه. في كلمته التي افتتح فيها العشاء السنوي الذي تقيمه الدار كل عام لكتابها وتدعو فيه أهم الناشرين العالميين في أحد فنادق فرانكفورت الكبيرة، وعلى هامش معرض الكتاب كل دور النشر الألمانية الكبيرة تقوم بالتقليد نفسه، خاطب مدير دار نشر هانزير الحاضرين: "يندم من لا يأخذ رواية "رحلة إلى تل اللحم" ويتبنى هذا الروائي فوراً". لم يكن في ذلك العشاء ناشرنا "الكبير" حاضراً، ولا أي من زملائه القراصنة العرب "الكبار". فعن أي حقوق عالمية تحدث صاحبنا "الفهلوي"، الذي يقبض أجوره عن الكتاب ويقبره في مخازنه والذي هو في الحقيقة في سلوكه أقرب الى قراصنة البحار، منه الى التاجر المحترم؟. وبغض النظر عن ذلك، لكي تنجح اليوم أي دار نشر في عملها، يجب أن تملك فريقاً يضم نخبة من خبراء في مختلف المجالات: في الأدب، في التصميم والإخراج، في التسويق والترويج، في العمل الصحافي والإعلان، في تنظيم القراءات والرحلات. دار نشر هانزير وحدها تضم أكثر من ستين خبيراًً! فعن اي حقوق يتحدث ناشرنا "الكسول"، الذي كان يقضي الوقت في معرض فرانكفورت يتربص لوقوع فريسة في فخه، لكي يمص دماءها، ويأخذ منها ألفين أو ثلاثة آلاف دولار. الناشر العربي الذي حضر في فرانكفورت كان بائساً ووغريباً في فرانكفورت، قضى وقته بنصب الفخاخ، أو في اسوأ الأحوال بأو بحفر أنفه! إذاً، حقوق النشر في أوروبا واضحة جداً، يتداخل فيها الإبداع مع متطلبات السوق، ولكي ينجح كتاب يعمل عليه أطراف كثيرة، ابتداء من الكاتب الذي يكتب كل كلمة بدمه، إلى صاحب المكتبة الذي عليه التفنن بإقناع زبائنه لشراء الكتاب. لذلك عندما يصدر كتاب عن إحدى دور النشر الكبيرة هذه، تكون كل الظروف المناسبة هُيأت له، وفقط في حالات نادرة لا يجد جمهوراً يستقبله. ذلك ما حدث حتى الآن للروايات العالمية المترجمة إلى لغات أخرى، وهو ما حدث للمرة الأولى في ألمانيا لروايتين عربيتين أو ثلاث صدرت على هامش معرض فرانكفورت. لأن ما أُطلق عليها بالأدب العربي المترجم حتى الآن، صدر عن دارين صغيرتين، ليس بمقدورهما توفير الشروط التي يتطلبها نشر كتاب، مهما كانت أهمية الكتاب المترجم للأسف. ويكذب اتحاد الناشرين "العاطلين من الأدب" العرب، عندما يُرجع فشل وصول الرواية العربية عالمياً إلى "الهجمة الإمبريالية الصهيونية" ضد الأمة "السليبة": لأن السبب الحقيقي يرجع إلى سيطرة ناشرين اساؤوا للأدب العربي وللأدباء بما فيه الكفاية.