افتتح معرض فرانكفورت السنوي للكتاب العالمي هذه السنة، باحتفاء وحماسة لم يشهدهما من قبل. إذ لم يعرف المعرض حضوراً أدبياً كبيراً لأصحاب نوبل كما هي الحال في هذه السنة، إذ قص شريط الافتتاح، البولنديان، الحائزان على جائزة نوبل، سيسلافا ميلوس وفيسيلافا شيمبورسكا. الشاعر ميلوس قرأ قصيدة بالبولندية كانت تلقى بالتوازي بالألمانية تتحدث عن "سعادة الكتابة". وقد ضمن الشاعر قصيدته استشهادات عديدة، للروسي برودسكي، وللأرجنتيني بورخيس وللفرنسي مالارميه، أضافت نكهة خاصة ولوعة، وكأنها مقدمة لكلمته المؤثرة، بعد الانتهاء من قراءة القصيدة، والتي كرسها للدفاع عن الكتاب والقراءة: "ان تاريخ الكتاب كان دائماً بطولياً ودراماتيكياً، لأن أي كتاب يحمل معنى أكثر من كونه موضوعاً فقط ان كتاباً ما يُمكن ان يكون مصدراً لتركيز طاقات روحية"، بتلك الجملة بدأ الشاعر كلمة الافتتاح، ثم ليتابع قائلاً "ان المخاطر التي تعرضت لها الكتب على مدى العصور هي الدليل على أهميتها. لقد تعرضت وفي مراحل مختلفة للرقابة، للسحب من رفوف المكتبات العامة ومن مكتبات البيع في السوق، وبعض المرات يستحيل الحصول عليها، إلا بترخيص خاص من السلطات الرسمية، بل ان امتلاك كتاب معين كان من الممكن أن يقود الى السجن، او الى التعرض لعقوبة الموت، هناك أشخاص كلهم شجاعة، كانوا مستعدين لتعريض أنفسهم للمخاطر، من أجل تمرير الكتب عبر الحدود، دور نشر سرية كانت تطبع الكتب في مطابع سرية"، وبعد استعراض لكل ما تعرضت له الكتب على مر التاريخ، أشار صاحب نوبل البولندي "ان القرن العشرين لم يكن سهلاً بما يخص الكتب"، وكدليل على ذلك تحدث الشاعر عن ذكرياته المريرة ذاتها. "أتذكر السماء فوق مدينة تحت اللهيب وفي السماء أطنان من الرقائق السوداء تدور في الريح. كان الأمر يتعلق بصفحات من الكتب تحترق. وبقدر ما عرفت الغضب، عرفت بالقدر ذاته السعادة بعد ذلك، عند رؤية مطابع سرية تطبع الكتب الممنوعة... أحييّ اليوم القرن الحاضر على أمل أن تبدأ مرحلة جديدة من دون رقابة ومن دون ممنوعات، مرحلة لسلام دائم، لأننا نعرف بأن حرية الكتب هي مرآة المجتمعات الإنسانية". كلمات جميلة أثارت المشاعر عند العديد من المشاركين في افتتاح الدورة ال52 لمعرض فرانكفورت للكتاب العالمي، التي كانت فيه بولندا البلد المُستضاف هذه السنة، إضافة الى مشاركة أكثر من مئة مؤلف ومترجم وناشر وناقد، بالتوازي مع افتتاح معارض رسم وفعاليات ثقافية كثيرة، ومنها المطبخ البولندي، الذي نظم من خلاله "الليلة البولندية" في مطاعم فرانكفورت. في هذه المناسبة حلّ أيضاً كضيف خاص على المعرض الكاتب الصيني غاو كسينغيان، الحائز أخيراً على جائزة نوبل. ومنذ اليوم الأول تحول الكاتب الصيني الذي يحمل الجنسية الفرنسية الى نجم المعرض. بوجه متعب بعض الشيء، ومصعوق من تعرضه لأضواء الفلاش وكاميرات التلفزيون. وأمام ما يقارب 2000 صحافي من مختلف بقاع العالم، بدا الرجل صبوراً جداً. "لا أمارس السياسة، أؤكد انني فنان"، كانت اجابته القاطعة على محاولات جره الى التعليق السياسي. معظم دور النشر العالمية كانت تتنقل لصيد كتبه، وإغرائه بتوقيع عقد معها. ومن طرافة الأمر ان الكاتب الصيني لا يملك حتى الآن، كما هي العادة عند معظم كتاب العالم وكالة أدبية تدير عقوده، فمن يعرفونه يقولون، انه يحتاج من يثق به، لكي يسمح بنشر كتبه. دور النشر تعتقد طبعاً، بأن كتبه ستنطلق مع جائزة نوبل، على رغم معرفتهم ان الكاتب الصيني لا يتمتع بجماهيرية بين القراء. دار النشر الفرنسية الصغيرة التي نشرت كتبه حتى الآن Editions du Aube، صرحت بأن الكاتب لم يوقع أي عقد مع أي دار نشر، وانه هرب من فرانكفورت في اليوم الثاني. "لقد كانت جائزة نوبل مفاجأة سحرية"، بتلك الجملة بدأ الكاتب الصيني كلامه أمام الصحافيين في القاعة الرئيسية من المعرض، "مفاجأة، غيّرت حياتي الهادئة" اعرف ان عليّ أن أنظم حياتي لكي استمر بالكتابة. لكني على اقتناع، انه من غير الممكن ان يكتب المرء بانتظار نوبل... في بيتي في باريس، تجمعت أطنان من الفاكس وتسجيلات المكالمات التلفونية التي لم يكن باستطاعتي الاجابة عليها. صديقة عزيزة كرست نفسها منذ الآن لهذا الواجب"، قال الكاتب الذي كان حديثه بالفرنسية المصحوبة بلكنة صينية قوية لم يكن سهلاً على المترجمين الفوريين ترجمة كلامه!، ليشير بعدها الى استعداده للتمتع بحياة جنونية حتى كانون الأول ديسمبر المقبل، موعد مراسيم منح جائزة نوبل، وبعدها سيجلس في بيته ليفكر في مخططاته المستقبلية. أما الكلمة التي سيلقيها في ستوكهولم، فسيتحدث فيها من دون توقف عن عصور من الثورة، وسيأتي بصورة خاصة على الايديولوجيات المشؤومة التي عزلت تلك المرحلة التي كان عليه العيش فيها. "لم أمارس السياسة أبداً، أمقت السياسة وأعتبرها نوعاً من التلاعب المخادع بالمجتمعات وبالمواطنين، على رغم ذلك لم أجبر نفسي على السكوت عن نقد كل ذلك الذي لم يعجبني". "الثورة الصينية التي صفق لها الشباب اليساري في أوروبا، هي مثل ثورة تشرين الأول أكتوبر على رغم انها في معنى ما تختلف. لم تدرس حتى الآن بصورة تحليلية عميقة، من أجل معرفة أي جنون حملته للشعب الذي عاش تحت كابوسها. حتى الآن تنقص الدراسات العميقة لكل ما جرى، ومن الضروري ان يقوم بذلك مؤرخون وعلماء اجتماع جادون". بعض الصحافيين حاولوا حمله على الاجابة في ما إذا كان حصوله على نوبل سيسهل امامه القيام بدور سياسي للضغط على الصين، بما يخص الحصول على الحريات، كما فعل الكاتب الروسي سولجنستين. "لا اعتقد. هناك القليل من الصينيين الذين استطاعوا قراءة ما كتبته، حتى عندما كنت أعيش في الصين". وجواباً على سؤاله، في ما إذا كان يعتقد انه أفضل أدباء الصين الذين يستحقون نوبل، أجاب بتواضع "لقد قرأت مئات من الكتاب الصينيين، ومعظمهم أفضل مني"! هو الوحيد الذي ضحك لتلك المفارقة. وإذا كان الصحافيون لم يضحكوا لمفارقة الكاتب الصيني، ربما لأنهم لا يفهمون الفكاهة الصينية، فإنهم ضحكوا كثيراً في مناسبة تقديم الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، لكتاب مذكراته. صحيح ان ظهوره لم يصل الى حد الفضيحة، الا انه أثار الكثير من الفكاهة في جو المعرض الجدي. إذا كان أعلن ان السيد يلتسين، سيقدم كتابه "عشر سنوات في الكرملين"، في مؤتمر صحافي. لكن في اللحظة الأخيرة ألغي المؤتمر. وبحسب تصريح ممثل دار النشر المسؤولة عن نشر كتاب يلتسين، جاء الغاء المؤتمر الصحافي، في القاعة الكبيرة التي تتسع ل1000 زائر، نتيجة لطلب من يلتسين نفسه. لكن بحسب تأكيدات مصادر أخرى، فإن يلتسين المدمن الكحولي لم يكن في وضع يسمح له بالظهور أمام الصحافيين. لكن لمفاجأة الجميع، ظهر يلتسين بعدها بساعات، يمر من باب القاعة متوجهاً الى كشك دار النشر، محاطاً بالحرس الشخصي، سائراً بخطوات بطيئة، كما لو كان داخلَ طقس ديني، ليغلق الباب على نفسه في مكتب الدار الصغير. انه يلتسين ذاته، كما يبدو دائماً، يداه ترتعشان، ونظراته غائبة، بينما راحت زوجته وابنته، تحاولان اسناده لكي يسير باستقامة. في تلك اللحظة ساد جو من المرح والنكات. المتحدث باسم دار النشر، طلب من الصحافيين التروي، لأن السيد يلتسين سيخرج بعد دقائق. علق أحد المصورين مازحاً "هل تتم عملية نقل دم جديد له في المكتب". في النهاية ظهر الرئيس السابق، يحاول الوقوف بثبات على قدميه، ليقول يشفتين ترتعشان "اليوم أنا لست رئيساً لروسيا، لكني حتى الآن بإمكاني أن اصنع ما هو خير لروسيا والمانيا. أنا سعيد جداً بحضوري معرض الكتاب في فرانكفورت". تلك كانت كلماته فقط، وباللغة الروسية، والتي ترجمها مترجم كتابه، ولم يكن قد انتهى منها، عندما غادر يلتسين المكان. اضافة الى ذلك، نُظمت على هامش المعرض نشاطات أدبية وفنية كثيرة، تبدأ بدعوة الناشرين الشباب للمشاركة ببرنامج عمل خاص بخبرة النشر بالتعاون مع دور نشر المانية وعالمية كبيرة، ومروراً بالحفلات الموسيقية المتعددة، وانتهاءً بالإعلان عن تأسيس مجلة لبرلمان الكتّاب العالمي، ضد الرقابة. المجلة تحوي 270 صفحة، وتقوم بنشرها خمسة دور نشر أوروبية كبيرة، من اسبانيا واليونان وفرنسا وايطاليا والولايات المتحدة الأميركية، وتتكون هيئة تحريرها من الأسماء التالية: سلمان رشدي، انتونيو تابوكي، آسيا جبار التي حصلت هذا العام على جائزة المعرض للسلام، بيا داو، أنريكه فيلا ماتيس، فيرناندو سابيتير، وول سوينكا. وبحسب تصريح مديرها المسؤول كريستيان سالمون، وُلدت المجلة "لتعطي صوتاً لكل الكتاب وكمكان للتواصل، للكتّاب الذين يعانون الاضطهاد والنفي، لكي لا يشعروا بأنفسهم معزولين". لم يحصر معرض فرانكفورت نفسه في عرض النتاجات الجديدة وحسب، انما أيضاً، وهذا ما يقوم به كل عام، نظم جولات في البحث عن كل ما هو جديد، كما أصدر كالعادة، كتاباً شاملاً في المناسبة "العقل في الحاضر"، يتعرض لرصد ظواهر مختلفة، مثل الإعلام، الخدمات، التجارة، التسلية والتربية. وتقدم أيضاً أسماء المرشحين لوسام "أوروبا بريكس" الخاص بفن ال"وسائل الإعلام الالكترونية"، وهو وسام مستحدث منذ سنتين من قبل المفوضية الأوروبية. على العموم حاولت مدينة فرانكفورت، على مدى الأيام الستة للمعرض، ومن طريق الكتب التي عُرضت على مساحة تبلغ 184 ألف متر مربع، منح المشاركين الذي وصل عددهم الى 3 ملايين زائر وعشرة آلاف صحافي، شعوراً، بأنها تبقى المدينة الأولى، الرائدة عالمياً بما يخص عرض الكتاب، كما صرح مدير المعرض، وخصوصاً في وقتنا الحاضر، حيث يعيش سوق النشر اضطراباً كبيراً وفائضاً في الانتاج، فإن المعرض سيتحول في النهاية الى مكان تجريبي لقياس ما سيحدث في المستقبل. وبالفعل يُمكن ملاحظة التغييرات والتطورات التي تطرأ على وضع الكتاب عاماً بعد عام، إلا في مكان واحد فقط: في طابق واحد، في القاعة رقم 9، حيث تعرض دور النشر العربية كتبها، يتوقف الزمن، ويبدو الناس الجالسون أمام الأكشاك، مثل سكان أهل الكهف، كأنهم قادمون من كوكب آخر ليس له علاقة بكوكبنا الأرضي. يمكن توزيع دور النشر العربية الى قسمين: دور النشر الرسمية التي تمثل وزارات الثقافة في بلدانها، ودور النشر القليلة التي تأتي من طريق المنحة والتسهيلات التي تقدمها بورصة الكتب الألمانية وادارة المعرض لاتحاد الناشرين العرب. دور النشر الأولى يقف أمامها موظفون رسميون ليست لهم علاقة بالكتاب، كسلعة ثقافية، وتعرض كتباً دعائية، كتاب الأخضر للقاص معمر القذافي مثلاً، أما الثانية، فيأتي أصحابها، مستغلين مناسبة دعوتهم المجانية، لبيع نسخ من منشوراتهم. وإذا زين أصحاب الأكشاك الحكومية جدران أكشاكهم ببوسترات سياحية عن بلدانهم، كما هي حال الجناح اللبناني على رغم ان صديقة لبنانية أكدت لي، ان كل هذه الصور كاذبة، لأنها تصور بيروت أيام زمان!، فإن أصحاب دور النشر الأهلية، جلسوا أمام جدران عارية، تذكرنا بأكشاك الفواكه والخضر في بلدانهم. وعند السؤال عن سبب مجيئهم، أو هل هم بصدد شراء حقوق كتب ما، أو هل اتصلوا بدار نشر أجنبية واحدة، فإنهم سيهزون رؤوسهم. انها بالفعل لمناسبة، كما يحدث كل سنة، لأن نسأل: أين نحن الذين نكتب ونقرأ باللغة العربية من كل ما يجري في المعرض؟ فالمعرض الذي هو مناسبة لبيع وشراء حقوق نشر هذا الكتاب أو ذاك، كما هو مناسبة لتوقيع الكتب والدعاية للكتّاب الذين ينشرون في الدار، هو بالنسبة للناشرين العرب مجرد شكل آخر للمقهى الشعبي الذي يرتادونه في بلدانهم، مثلما هو مناسبة للقاء بعضهم كل عام، لكي يشربوا الشاي والعصير و... ويدردشوا في ما بينهم. ان معرض فرانكفورت للكتاب، للأسف، لا يثير عند الناشرين العرب الفضول، لكي يفكروا بتطوير بضاعتهم، بضاعة الكتاب. وإذا كان تطور الكتاب يسير بخط تصاعدي في أوروبا والعالم، فإنه ينحدر الى الهاوية في البلدان الناطقة بالعربية، وهذا ما يثبت لنا كل عام في المعرض!