بعيداً من تعقيدات ما جرى خلال الأيام الماضية في شأن وقف عرض مسلسل "الطريق الى كابول" من جانب الجبهة المنتجة "التلفزيون القطري"، مع استمرار عرضه في فضائية اخرى، وما اذا كان ذلك قد تم على خلفية تهديدات ظهرت على شبكة الإنترنت من جهات إسلامية مجهولة، ام تبعاً لحسابات اخرى ذات صلة بالسياسة، بعيداً من ذلك كله، فإن مشاهدة اربع حلقات كاملة من المسلسل تجعلنا قادرين الى جانب حيثيات اخرى على طرح وجهة نظر في مضمونه وبعض جوانبه الفنية. تبدأ القصة من الكاتب، إذ مع احترامنا الشديد لقدرات جمال ابو حمدان كأديب وكاتب، فإن دخوله على خط قضية بهذا المستوى من التعقيد يجعلنا نشك في قدرته على طرح المسألة بالعمق المطلوب، وصولاً الى رؤية موضوعية لا تفتقد العنصر الدرامي القادر على جذب المشاهد من دون الوقوع تحت طائلة المواقف المسبقة او التسطيح المخل، فضلاً عن الأخطاء التاريخية والجغرافية التي تابعنا الكثير منها حتى الآن. بحسب تصريحات ابو حمدان، فقد قرأ الرجل خمسة كتب عن الموضوع قبل الشروع في كتابة السيناريو، والواقع ان خمسة كتب لا يمكن ان تكون كافية للدخول الى عوالم مجهولة بالنسبة الى اي احد بما يجعله قادراً على كتابة مسلسل درامي عنها، فكيف حين تكون اربعة من الكتب المشار إليها تتحدث عن الماضي بلغة الحاضر، اي انها تعالج المسألة بعض مضي سنوات عليها، وهو ما يوصف عادة بأنه الحكمة بأثر رجعي. لقد بدا منذ المشهد الأول في المسلسل ان الكاتب عمد الى محاكمة الشخوص وحركة الأحداث بنبرة المواقف المسبقة، ومعها الحكمة بأثر رجعي، وبدا كما لو ان كل تداعيات ما جرى في افغانستان حضرت في النص، خلافاً لواقع الحال كما عايشه اولئك الأشخاص في حينه، بدليل ان كثيرين ممن كتبوا عن الحدث تالياً قد فعلوا الشيء ذاته في الوقت ذاته الذي كانوا يؤكدون فيه ان ذلك لم يكن وارداً في اذهانهم خلال المراحل الأولى. من هنا يمكن القول ان المسلسل هو مجرد حلقة في مسلسل اطول يتخصص في محاكمة الجهاد الأفغاني بجعله عنواناً لكل شرور العنف التالية، وبربطه المسرف بالولايات المتحدة، كما يتخصص في تشويه حركة طالبان وجعلها عنواناً للإسلام المتخلف من دون النظر الى البيئة الاجتماعية التي نبتت فيها. هي محاكمة بأثر رجعي إذاً اكثر من كونها محاولة لنقل صورة واقعية او شبه واقعية للتجربة وحركتها على الأرض وصولاً الى تحولاتها الأخيرة، وإلا فهل يعقل ان تكون العائلة الأفغانية التي ستنقل التجربة من خلالها هي والد عجوز قادر يبدو في منتهى الليبرالية حيث يرسل ابنته "زينب" للدراسة في بريطانيا وحيدة، ومتى؟ اثناء حقبة الشيوعيين. ثم يستقبل خبر علاقة الحب بينها وبين زميلها العربي "طارق" بكل اريحية. وإلى جانبه زوجة تكشف نصف شعرها، وولد متشدد "جلال" لا يلبث ان يصبح طالبانياً، وحفيد صغير "فيلسوف". لقد اوضحت هذه المعطيات منذ البداية اننا إزاء تشويه لا نجزم بكونه مقصوداً، ومن ثم بيان إدانة لكل ما نسب الى التجربة من مشكلات هنا وهناك، داخل افغانستان وخارجها. منذ البداية ايضاً كان عنصر التشويه واضحاً لصورة المجاهد العربي الراحل الى افغانستان، فعامر الذي ترك دراسته في بريطانيا ليلتحق بالمجاهدين كل قد حاول التقرب من الفتاة الأفغانية زينب لكنها صدته، فيما وقعت في غرام صديقة طارق الرافض والمتهكم دوماً على فكرة الجهاد في افغانستان، وهي قصة الحب التي تشكل الحبكة الأساسية في المسلسل. والخلاصة ان المجاهد كان عاشقاً فاشلاً قبل ان يتحول الى مجاهد. ولا تسأل عن مظهر عامر الذي لا يمت الى المظهر التقليدي للإسلاميين بصلة، فشعره مرسل في شكل عابث، وكذلك لحيته التي لا تنتمي، لا الى لحى "المعتدلين" ولا "المتشددين"، بحسب توصيفات بعض القوم. الأسوأ من ذلك ان عامر كان فلسطينياً من الأردن ترك قضيته ليذهب الى افغانستان، وهنا معالم إدانة اخرى للمجاهدين على رغم توضيحات المعنى بأن طريق فلسطين مسدودة. لكن الإشكال الذي يتبدى هنا هو ان معظم المجاهدين الذين شاركوا بالفعل في الجهاد الأفغاني لم يكونوا من الفلسطينيين او الأردنيين، بل كانوا من السعودية والخليج والجزائر وليبيا ودول اخرى، فيما تركز الأردنيونوالفلسطينيون وهم القلة في اعمال الإغاثة التي كانت اشبه بوظائف عادية، ولعل السبب في ذلك هو البعد الذي ذكر حول عدم قناعة الفلسطينيين بأن معركة افغانستان قريبة منهم في ظل وجود المعركة الفلسطينية، مع ان الطرق مسدودة بالفعل، ومع ان البعد الإسلامي في العمل الفلسطيني المقاوم لم يكن ظهر بعد. وفي كل الأحوال فإن أحداً من فلسطينيي الداخل لم يلتحق بالجهاد الأفغاني. وفي كل الأحوال فإن قصة الأفغان العرب كلها قد ضخمت كماً ونوعاً، لأن جميع من مروا بالتجربة ما بين شهر او اكثر لا يتجاوزون ثلاثة آلاف شاب في ادق التقديرات، معظمهم كانوا يعملون في التعليم والإغاثة. قضية المسلسل الرئيسة، بحسب ما ظهر، وبصرف النظر عن نيات القائمين عليها، هي ربط كل ما جرى تالياً من عنف في مناطق مختلفة من العالم، سيما داخل الدول العربية، بالجهاد الأفغاني، ومن ثم توفير إدانة لمصطلحة الجهاد بحسب ما يفهمه كثير من الإسلاميين، اكان الفهم الخاطئ ممثلاً في العنف الداخلي الموجه ضد الأنظمة العربية والإسلامية، ام الصحيح والمشروع الموجه ضد اعداء محتلين او معتدين كما هي الحال في العراقوفلسطين وأفغانستان، ام كان من النوع الثالث الملتبس والمرفوض من اكثرية الإسلاميين، ممثلاً في العمليات الخارجية ضد اهداف اميركية او غربية موالية للأميركيين، كما هي حال هجمات ايلول التي تظهر في شارة المسلسل، ربما كتفريع من الطريق الى كابول. والحال ان الربط المذكور لا يبدو صحيحاً إلا في حالات محدودة، فما جرى على سبيل المثال في الجزائر وقبل ذلك في مصر وقبله في سورية لم يكن ذا صلة بما جرى في افغانستان. كما ان تحالف الظواهري وبن لادن لم يكن نتاج المعركة الأفغانية، بل جاء نتاج تعقيدات اخرى ظهرت لاحقاً. ثم اين هي الصلة المقنعة بين المقاومة الإسلامية في العراقوفلسطين وبين ما جرى في افغانستان؟ ثم هل يمكن القول بكل بساطة ان ما جرى في الحادي عشر من ايلول كان نتاجاً لما جرى في افغانستان، وأنه لو لم تكن الحال الأفغانية لما وقعت تلك الهجمات؟ ثمة مسألة اخرى تحضر ولكن على نحو خجل في المسلسل، اعني دور الأنظمة في ما جرى، وهي مسألة اكثر اهمية من دور الأفراد، لأن الغالبية الساحقة ممن ذهبوا الى افغانستان قد فعلوا ذلك بدوافع عقائدية حقيقية، الأمر الذي لا ينطبق على كثير من الأنظمة التي شاركت في اللعبة لحسابات اخرى. * كاتب أردني.