اسهل شيء ان نندد بالارهاب واهله، اما الصعب حقا فهو ان نتحرى مصادره ونزيل اسبابه. ادري ان ادانة الارهاب ضرورية للغاية، لكنها بالمقارنة تغدو"جهادا اصغر". اما الجهاد الاكبر الذي ينبغي ان تستنفر لاجله عزائم الرجال وتستدعى شجاعتهم، فهو التصدي للظلم الذي يستنبت الارهاب ويغذيه. لذلك، فليتنا لا نقف حين نتصدى للامر عند ادانة الارهاب وحده، وانما نضم اليه _ بل قبله _ ادانة الظلم الذي ابتلانا به. 1 حين تابعت اكثر من اربعين تعليقا على احداث طابا نشرت في الصحف العربية والمصرية منها خاصة، وجدت ان المعلقين انقسموا فريقين، احدهما ركز على الحدث باعتباره فعلا ارهابيا ادى الى قتل وجرح العشرات من المدنيين، والفريق الثاني اهتم بتسليط الاضواء على خلفيات الحدث المتمثلة في حالة الغضب العارم الذي يملا المنطقة، من جراء عمليات القهر والاذلال الجارية في العراق وخطط الترويع والابادة الحاصلة في فلسطين. وازعم ان الفريقين على صواب، لان كلا منهما راى المشهد من زاوية مختلفة عن الاخر، فجاء التشخيص متباينا. ذلك ان الاولين ركزوا على توصيف الحدث، اما الاخرون فقد عنوا بتاصيل ما جرى. غير ان موقف التوصيف لم يكن بريئا دائما، ذلك ان اغلب الذي اصطفوا في ذلك الجانب كانوا من دعاة التطبيع مع اسرائيل. وفي المقدمة منهم مجموعة "المارينز" الذي يؤرقهم اي اذى يصيب الاسرائيليين، في حين تجمدت مشاعرهم ازاء ما يحيق بالفلسطينيين. بل انهم لم يعودوا يرون خلاصا الا في تجاوز الموضوع الفلسطيني برمته، والاعلاء من شان موالاة الامريكيين والاسرائيليين ( احدهم كتب في 13/10 تعليقا اشاد فيه بموقف شارون ودعوته اعضاء حكومته الى عدم توجيه اي انتقاد للحكومة المصرية بسبب الحادث، ثم قال ما نصه: ان المجرمين يريدون الاضرار بالعلاقات المصرية الامريكية والمصرية الاسرائيلية.. ويجب تفويت الفرصة عليهم، باعتبار ان هاتين العلاقتين هما من اهم مجالات العلاقات الخارجية لمصر مع العالم ). لاحظت ايضا في كتابات مجموعة المارنيز انها اشتركت في ثلاثة محاور اساسية هي : @ الاصرار على ان مصر هي المستهدفة من احداث طابا وليست اسرائيل او الاسرائيليين، وقد اشرت في الاسبوع الماضي الى القرائن التي تؤكد ذلك الادعاء، الذي كذبه الاسرائيليون انفسهم، كما سنرى توا. @ الحرص على استبعاد العلاقة بين احداث طابا وبين ما جرى ويجري في فلسطينوالعراق. وقد عبر احدهم عن ذلك في مقالة نشرتها "الشرق الاوسط" في 13/10 قال فيها انه : ما ان وقعت جريمة طابا حتى بادر جهابذة الدفاع عن الارهاب، وتبرير ابشع صوره واشكاله، الى القول بان ذلك انعكاس لما يجري في فلسطينوالعراق. @ التحذير من عودة انشطة المجموعات الارهابية الى مصر والعالم العربي مرة اخرى، بعد ان تلقت تلك المجموعات ضربات موجعة في افغانستان وباكستان، الامر الذي استند اليه البعض في المطالبة بالتعجيل بعقد المؤتمر الدولي للارهاب. 2 من مفارقات الاقدار وسخرياتها ان اغلب التعليقات الاسرائيلية على حادث طابا لم تذكر ان التفجيرات استهدفت استقرار مصر او اقتصادها، انما انطلقت من ان التفجيرات استهدفت السياح الاسرائيليين، وربطت بينها وبين سياسة القمع الوحشي التي تتبعها حكومة تل ابيب ازاء الفلسطينيين. وهو ما يعني انهم راوا ما لم يرد معلقو "المارينز" ان يروه. ففي يوم 10/10، بعد 48 ساعة من التفجيرات، تتابعت تعليقات المحللين والكتاب الاسرائيليين. فظهر الصحفي اليكس فيشمان على شاشة القناة الاولى للتليفزيون الاسرائيلي، قائلا انه يتعين علينا ان نعترف بانه منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، فان العداء لاسرائيل يتعاظم في جميع انحاء العالم العربي _ وسيناء ليست استثناء من ذلك. هذا المعنى عبر عنه عكيفا الدار المعلق في صحيفة "ها آرتس" الذي كتب مستنكرا تجاهل الاسرائيليين لمشاعر السخط عليهم والكره لهم، مضيفا ان العرب الذين يشاهدون الفضائيات التي تبث دون انقطاع صور القمع في غزة ونابلس وجنين، لا بد ان تتعمق لديهم كراهية الاسرائيليين، بقدر ما تزداد اواصر التضامن مع الفلسطينيين. الوف بن المعلق البارز اعلن في الاذاعة الاسرائيلية التي تبث بالعبرية ان القضية الفلسطينية اصبحت مصدرا لتأجيج مشاعر الانتقام لدى الشباب المسلم. كما ان حركات الجهاد العالمية جعلت من الصراع العربي الاسرائيلي شعارا لمعركتها. وعناصرهم تقدم نفسها باعتبارهم محررين لفلسطين، ومنتقمين لدماء اهلها التي يريقها الاسرائيليون بغير حساب. جدعون ليفي محرر "ها آرتس" قال ان تفجيرات طابا كان يجب توقعها حتى بدون اي عذر، بسبب ذلك الحنق المختزن في نفوس مئات الملايين من الشباب العربي والمسلم في انحاء العالم. اضاف ان اي عربي او مسلم اذا شاهد سياحا اسرائيليين، فسوف يخطر له على الفور ان ايديهم ملوثة بايدي الشبان العرب. وسيكون ذلك سببا لتحريك مشاعر الغضب لديه، وهو ما سيكون سببا لاستنفاره واستفزازه، ومحركا دافعا له للانتقام بأي وسيلة تصادفه. المعلق يجال سيرنا كتب قائلا ان العمليات القاتلة (التي تمت في طابا) هى نتاج الغباء الذي يتحكم في عقول صانعي القرارات العبرية _ ذلك انه كلما ابدت الحكومات الصهيونية تطرفا في مواجهة الشعب الفلسطيني، زادت من دخول اطراف اسلامية اخرى الى حلبة الصراع، بشكل قد يكون من الصعب على الاجهزة الامنية الاسرائيلية مواجهته. اما الصحفيه عميرة هاس فقد كتبت في صحيفة "ها آرتس" قائلة ان صور القمع الاسرائيلي للفلسطينيين التي يشاهدها ملايين المسلمين يوميا في انحاء العالم، تستثير مشاعرهم وتدفعهم الى التضامن مع اخوانهم عبر الانخراط في العمل ضد الدولة العبرية. ثمة مفارقة اخرى في السياق الذي نحن بصدده، وهى ان شارون حين طلب من وزرائه عدم انتقاد مصر، وهى الملاحظة التي سجلها بارتياح نفر من كتاب "المارينز" لم يفعل ذلك حبا في مصر ولا حرصا على العلاقات معها، وانما ذكر انه فعلها لتليين موقف مصر وتشجيعها على ابداء مزيد من التعاون مع الاجهزة الامنية الاسرائيلية في مجال الحرب على الارهاب لاعتقاده ان الاجهزة المصرية لديها الكثير من المعلومات في هذا المجال ( القناة الثانية للتليفزيون الاسرائيلي - 11/10 ). واستكمالا لهذه النقطة ذكر الجنرال دان ارديتي مسئول مكافحة الارهاب في مكتب شارون ان هناك تعاونا امنيا كبيرا بين اسرائيل والعديد من الدول العربية وان ذلك التعاون يترجم في تبادل المعلومات الاستخبارية معها، احيانا بشكل يومي، عبر الخطوط الساخنة المفتوحة بين الطرفين طول الوقت. 3 في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيس حسني مبارك في روما مع رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برليسكوني ( في 11/10 )، ذكر الرئيس المصري ان ظاهرة الارهاب سوف تزداد انتشارا وخطرا ما لم تحل قضايا المنطقة. وهو بذلك اشار الي مفتاح الحل ومكمن الداء، معبرا عن موقف التاصيل الذي سبقت الاشارة اليه، ومتجاوزا في ذلك موقف التوصيف الذي يتعلق بالاسباب دون النتائج، ويسبح على السطح دون ان ينفذ الى القاع. وليست هذه هي الشهادة الوحيدة في هذا الاتجاه، فقد اشرت الى شهادات اخرى مماثلة في الاسبوع الماضي. في التعبير عن ذات الفكرة قرات مقالا طريفا لاحد كتاب صحيفة "نيويورك تايمز" _ نيكولاس كريستوف - ( تشرته الشرق الاوسط في 14/10 ). تخيل فيه حوارا جرى بينه وبين اسامة بن لادن في قندهار. قال فيه الاخير ان الرئيس الامريكي بوش صار نائبه لشئون التجنيد، مضيفا ان مؤشر الاقبال على الانخراط في تنظيم القاعدة يتزايد حينا بعد اخر بفضل سياسته التي يتبعها في المنطقة العربية. فذلك المؤشر يرتفع الى اعلى كلما اعلن بوش تأييدا لشارون او تحدث عن الحملة الصليبية. كما ان غزو العراق كان هديته الكبرى لنا. واستشهد ابن لادن في كلامه بفقرة وردت في كتاب "الغزو الامبريالي" الذي الفه اكبر مسئول عن القاعدة في المخابرات المركزية الامريكية، قال فيها مايلي "القوات والسياسات الامريكية تدفع راديكالية العالم الاسلامي الى حد الكمال.. ومن العدالة ان نعترف بان الولاياتالمتحدة هى الحليف الوحيد الذي لا غنى له بالنسبة لابن لادن". 4 ارايت ذلك الخبر الذي بثته الاذاعة البريطانية من كابول يوم الجمعة الماضي ( 15/10 ) وذكر ان حارسا امريكيا للرئيس الافغاني حامد كرزاي صفع وزير النقل الافغاني على وجهه، اثناء زيارة كان يقوم بها الرئيس لمدينة مزار شريف في شمال البلاد. لقد شاهد مراسل الاذاعة الواقعة، وقال ان اعتداءات الحراس الامريكيين على الوزراء الافغان تكررت، وان الخارجية الامريكية بعد ان تبلغت بالخبر وبخت شركة "رينكورب" التي عهد اليها بحماية الرئيس الافغاني، لكنها اشادت بنجاحها في تامين حياته !. ولا بد انك تذكر الصور التي تسربت عن معاملة الاسرى العراقيين في سجن ابو غريب وكيف انهم كانوا يساقون عرايا ويسحبون من رقابهم امام الجنود الامريكيين. اما ما اصاب العراقيات اللاتي اقدم بعضهن على الانتحار بعد الذي جرى معهن فحدث فيه ولاحرج. ولا اعرف ان كنت تذكر ام لا الصورة التي نشرت يوم الخميس الماضي ( 14/10 ) لعماد القواسمي قائد مجاهدي حماس في مدينة الخليل، وقد اخرج من بيته الذي هدموه وبدا حافيا وعاريا الا مما يستر عورته، في حين احاطت به ثله من الجنود الاسرائيليين المدججين بالسلاح، الذين قادوه الى غياهب السجون الاسرائيلية لكي ينضم الى سبعة الاف فلسطيني وفلسطينية مصفدين في الاغلال من اربع سنوات. ان الرسالة التي نتلقاها من هذه المشاهد في مجموعها تتلخص في اننا لسنا بصدد قهر فقط، ولكن ذلك القهر مقترن بالاذلال والمهانة. وهو قهر واذلال تراكمت فيه الطبقات حتى تحولت بسببها اعماق ذوي النخوة والضمائر الحية الى براكين مهياة للانفجار في اي وقت. لم يقف التحدي الذي تواجهه الامة العربية عند ذلك الحد، وانما يضاعف من السخط والغضب لديها شعورها بانها تواجه قوى عاتية ومتغطرسة وحدها بلا اي ظهير. وهي حالة فريدة في التاريخ الحديث، حيث لم يحدث ان انفردت دولة كبرى بتقرير مصير العالم والتحكم في مقدراته كما هى الحال مع الولاياتالمتحدة الان. ولم يحدث ان تصدت اي حركة تحرير لجبروت وبطش الدولة المهيمنة دونما عون او مساندة من الخارج بمثل ما حدث مع المقاومة الفلسطينية. ذلك ان كل حركات التحرير التي نعرفها او التي سمعنا بها كانت تتلقى الدعم والتاييد من القوى الدولية الاخرى، سواء في ظل النظام الدولي متعدد الاطراف والاقطاب، او في ظل النظام الذي قام لاحقا على الثنائية القطبية، التي تمثلت في الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة. انسحب ذلك على المقاومة الفلسطينية في مرحلة مبكرة حيث كانت تلقى ذلك الدعم من جانب الاتحاد السوفيتي ومن اغلب الدول العربية. وهو الموقف الذي تغير الان بصورة نسبية، حتى اصبحت المقاومة الان تقف وحيدة بلا نصير على المستوى الدولي. ليس ذلك فحسب، وانما وجدنا ان الدولة المهيمنة - الولاياتالمتحدة - تصر على استخدام الفيتو لحماية سياسة قمع الشعب الفلسطيني وابادته. كما حدث مؤخرا في مجلس الامن. وهو بالمناسبة الفيتو السابع الذي تستخدمه ادارة الرئيس بوش لحماية اسرائيل من الادانة على جرائمها المستمرة في الاراضي المحتلة. بل ذهب الجبروت الى مدى ابعد. ذلك ان قوى الهيمنة لم تكتف بتجريد الفلسطينيين من اي دعم او مساندة دولية. ولم تكتف بحماية حملات الفتك بهم من جانب الاسرائيليين، وانما عمدت الى تجريم المقاومة ذاتها واعتبرتها "ارهابا". ومن اسف ان الضغوط الامريكية مورست على دول الاتحاد الاوروبي، حتى انضمت اليها في تجريم المقاومة الفلسطينية. وتلك لعمري سابقة فريدة، تشين سجل الدول المتحضرة وتسود صفحتها. هذه الملابسات الاستثنائية تسلط الضوء على مدى البطولة المبهرة التي يتضرر بها النضال الفلسطيني، الذي قاوم حتى الان - بصدر عال وظهر مكشوف _ كل محاولات الركوع والانكسار، وحفظ للشعب الفلسطيني قوامه وكبرياءه، بل ودافع ببسالة منقطعة النظير عن امن الامة العربية كلها وكرامتها. غير انها في الوقت نفسه تصور لك مدى المرارة والسخط الذي يعتمل في الاعماق الفلسطينية بالدرجة الاولى. واذ يدرك العرب المسلمون عامة كيف يذبح الفلسطينيون وتدمر حياتهم كل يوم، وكيف تتولى قوى الهيمنة حمايتها وتشجيعها، فليس مستغربا ان تنتقل تلك المرارة والسخط الى عموم ابناء الامة العربية والاسلامية. واذا اضفت الى ذلك ما جرى لافغانستان وما يجري في العراق، فان حجم المرارة والسخط سوف يتضاعف لا ريب. اما كيف سيتجلى في نهاية المطاف، فذلك سؤال يقودنا الى المشهد الذي نحن بصدده الان، والذي لا تستبعد ان يتكرر مرة اخرى في اي مكان يتواجد فيه الامريكيون او الاسرائيليون. 5 في حين استمرت المذبحة الاسرائيلية في غزه طيلة الاسبوع الماضي، رددت اصوات عدة الدعوة الى ضرورة عقد مؤتمر دولي لمكافحة الارهاب. وشاء ربك ان يتزامن هذا وذاك مع حدثين صغيرين وقعا في فنلنداوتايلاند. فقد شهدت فنلندا حملة شعبية قوية لوقف اعدام 14 قردا ضاقت بهم حديقة الحيوان بالعاصمة هلسنكي بعد تجديدها. اما في تايلاند فقد قرر مؤتمر دولي لحماية الحيوانات المهددة بالانقراض وحظر صيد سمك القرش الابيض المهدد بالاختفاء. وجدت اخبار المذبحة الاسرائيلية على الصفحة الاولى من جريدة "الحياة" صبيحة يوم 13/10 في حين نشر خبرا حماية القرود وسمك القرش في الصفحة الاخيرة. حين انتهيت من مطالعة الصحيفة اجتاحني شعور بالحزن والغيرة وقلت : قبل عقد مؤتمر مكافحة الارهاب، لماذا لا ندعو الى مؤتمر دولي لانقاذ الشعب الفلسطيني من الابادة، اسوة بالقرود وذلك السمك المحظوظ؟.